جاءت زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم للجزائر منذ أيام، لتضع العديد من علامات الاستفهام حول ما تحمله من دلالات سياسية، لاسيما في ظل حالة الحصار الدبلوماسي المفروض على نظام الأسد منذ انطلاق الثورة السورية 2011م.
الزيارة وإن كانت مفاجئة كما يردد البعض، إلا أنها تحمل رسائل ذات دلالات هامة للداخل والخارج، تتمثل أهمها في اختيار الجزائر كأول محطة لوزير الخارجية السوري، فالجزائر تنطلق من قناعتها بأن ما يسمى الربيع العربي “مؤامرة دولية تقودها قوى ضاغطة تستخدم عواصم عربية معروفة لدعم هذا الطرح الكارثي على العالم العربي”، ومن ثم تسعى دمشق من خلال هذه الزيارة إلى خلق جبهة عربية موالية للأسد وداعمة لبقائه في السلطة، على خلفية الحراك الدبلوماسي الذي تقوده روسيا والولايات المتحدة بالتوازي مع مفاوضات جنيف.
دمشق التي تجاهلت البُعد العربي في تحركاتها منذ 2011 هاهي اليوم تعود إلى الساحة من جديد عبر بوابة الجزائر، خاصة بعد الانسحاب المعنوي الرمزي لموسكو حليفها الأقوى، مستغلة أي تقدم عسكري لجيش الأسد كورقة ضغط لفرض حلول سياسية لمستقبل سوريا تتماشى ورغبة النظام الحاكم الآن.
العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها بقوة على خلفية هذه الزيارة التي قد تمثل نقطة فارقة في تحول دفة الثورة السورية من البُعد الدولي إلى الحضن العربي، فهل تسعى دمشق لاستنساخ تجربة جنرالات الجزائر في تعاملهم مع الثورة الشعبية بداية تسعينات القرن الماضي، خاصة فيما يتعلق باستحضار الجماعات الإرهابية – مجهولة الهوية – وأعمال العنف كأداة لإرهاب وتخويف الجزائريين من الثورة، إلى الحد الذي تمنى فيه الشعب الجزائري العودة إلى النظام القديم بكل ما فيه من فساد وظلم، هربًا من الواقع الأليم الذي أسقط مئات الآلاف من الجزائريين ما بين قتيل ومصاب؟
وهل يرد جنرالات الجزائر الجميل لـ “بشار” في تصدير تجربتهم للقضاء على الثورة السورية تقديرًا لما فعله والده من قبل “حافظ الأسد” من دعم للانقلاب العسكري الذي قام به الجيش الجزائري ضد “الشاذلي بن جديد” في 1992م؟
التجربة الجزائرية واغتيال ثورة شعب
بعد نجاح الإسلاميين في الجزائر في فرض كلمتهم والسيطرة على مقاليد الحكم عبر انتخابات حرة نزيهة، بعد سنوات طويلة من القهر والظلم والطغيان، استشعر جنرالات الجيش الخطر من تراجع مكانتهم وتحجيم دورهم، مما دفعهم للتخطيط للإطاحة بالحكم الإسلامي واستعادة كرسي العرش مرة أخرى من خلال سلسلة من المؤامرات والخدع التي صدرها إعلام الثورة المضادة حينها وصدقها الشعب على غرار ما يحدث في مصر وسوريا وتونس هذه الأيام.
وفي الساعة الثامنة مساءً يوم 11 يناير 1992 استيقظ الملايين من الشعب الجزائري علىى خطاب مقتضب للرئيس الشاذلي بن جديد، بثه التلفزيون الرسمي، أعلن خلاله أنّه لم يعد بإمكانه الاستمرار في حكم البلاد، وذلك بعدما تعرض لابتزاز كبار جنرالات العسكر، والذين خيروه بين إعلان حالة الطوارئ وتعليق الدستور وإلغاء الانتخابات التشريعية – والتي كانت قد جرت لتوّها وفاز فيها الإسلاميون بأغلبية ساحقة جاوزت 80% وهي 188 مقعدًا من أصل 221 التي حسمت في الدور الأول – والرّحيل عن الحكم، ليتولّوا هم القيام بذلك.
ولم يجد الرجل المسالم حيلة أمامه سوى التنحي والابتعاد بدلًا من المشاركة في فتح باب الجحيم على الجزائر والجزائريين، وهي المهمة التي تولاها كبار الجنرالات الذين قالوا بأنهم “سيوقفون المسار الانتخابي مؤقتًا، إنقاذًا للجزائر من حكم الإسلاميين البرابرة الذين يريدون العودة بالجزائر 14 قرنًا إلى الوراء.
وبعد مرور 24 عامًا على الانقلاب الذي أطاح بحكم الإسلاميين في الجزائر، نستعرض أبرز ما حققه حكم العسكر خلال تلك الاعوام سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني.
سياسيا، تسبب حكم الجنرالات في قتل عشرات الآلاف من المدنيين العزل جراء مئات المجازر الفظيعة التي ارتكبت، كان أشهرها: سيدي يوسف ببني مسوس، بن طلحة، الرايس، سيدي الكبير، الرمكة هذه الأخيرة بلغ عدد قتلاها أكثر من 1150 شخصًا في ليلة واحدة باعتراف الوزير الأول نفسه، إضافة إلى اختطاف ما بين 12 و20 ألف جزائري، مع استمرار ممارسات الاعتقال التعسفي وتعذيب المعتقلين والإخفاء القسري.
كما أدت السياسة القمعية غير المسبوقة في تعامل النظام الجزائري مع مطالب الشعب الجزائري، إلى مقتل المئات بطريقة وحشية، كان أشهرها قمع انتفاضة منطقة القبائل والتي ذهب ضحيتها أكثر من 120 قتيلًا، تسبب فيها أساسًا نائب الوزير الأول الحالي يزيد زرهوني وها هو باق في الحكم دون مساءلة، إضافة إلى سقوط مئات الجرحى في الانتفاضات اليومية وأحيانًا قتلى على امتداد التراب الوطني دون إيجاد أي حلول دائمة ومجدية، وعلى سبيل المثال، واستنادًا لتصريح رئيس البوليس الجنرال هامل فإن سنة 2011 وحدها شهدت أكثر من عشرة آلاف و900 بمعدل يزيد عن 900 احتجاج في الشهر تمت مواجهتها بقوات مكافحة الشغب خلفت قتلى وآلاف الجرحى والمعتقلين.
وبالرغم من المسرحيات الانتخابية الهزلية التي قامت بها جنرالات الحكم في الجزائر إلا أن ذلك لم يؤثر على بقاء الوجوه الأساسية من الجماعة الحاكمة منذ انقلاب 1992 ومن هؤلاء الجنرال محمد مدين المدعو توفيق الحاكم الفعلي للجزائر وكبار مساعديه من الجنرالات الآخرين، عبد المالك قنايزية، أحمد قايد صالح، جبار مهنا، الجنرال عطافي…بالإضافة إلى وزراء أثبت مرور الوقت فشلهم في كل المشاريع مثل أحمد أويحيى الوزير الأول وأبو بكر بن بوزيد وزير التربية منذ 1994، مما أدى إلى خنق المجال السياسي أمام المعارضة الحقيقية حيث تم تكسير ما بقي من الأحزاب المعارضة عن طريق الانشقاقات الممنهجة التي تديرها المخابرات، إضافة إلى الموافقات الإدارية لأي نشاط سياسي ولو في قاعة مغلقة.
أما على المستوى الاقتصادي فقد ساهم حكم العسكر في غلق آلاف الشركات المحلية والوطنية بطريقة عشوائية إلى طرد مئات الآلاف من الموظّفين من مناصب عملهم، فضلاً عن انتشار الرشوة واعتبارها وسيلة حكم وطريقة لإدارة الدولة والمجتمع بما فيها الرشوة من أجل الترقيات العسكرية، شراء الشهادات العليا والوصول إلى المناصب داخل أجهزة الدولة كان آخرها “انتخابات مجلس الأمة” التي تمّت بما يُعرف بالشكارة.
كذلك ارتفاع نسبة الجريمة، الآفات الاجتماعية، الاعتداء الجنسي على الأطفال وغيرها من أنواع الإجرام بشكل غير مسبوق، إضافة إلى انتشار العشوائيات، وتحوّل كثير من المدن إلى ما يشبه القرى الريفية المُهملة، مما أدى إلى اعتبار الجزائر العاصمة من بين أسوأ العواصم للعيش فيها، واحتلت بذلك المرتبة 136 من بين 140 دولة، وهو ما دفع مئات الآلاف من الكفاءات من الجزائريين للهروب من وطنهم والاستقرار في كل دول العالم بما فيها الدول الإفريقية والأسيوية الفقيرة.
مليونا قتيل ومصاب في سوريا منذ الثورة
وبالانتقال إلى ما وصل إليه الوضع خلال السنوات الخمس التالية للثورة السورية، نجد أن هناك تشابهًا كبيرًا بين الحالة السورية والجزائرية في البدايات وآليات التنفيذ ومساعي الوصول للنهايات، ففي أحدث تقرير لمرصد حقوق الإنسان السوري فقد وثّق استشهاد ومقتل ومصرع 210060 شخصًا، منذ انطلاقة الثورة السورية، وذلك منذ أول شخص في درعا حيث كان مقتله الشرارة التي أشعلت الثورة ضد النظام السوري.
وصنف المرصد القتلى على النحو التالي: المدنيون: 100973، بينهم 10664 طفلًا، و6783 أنثى فوق سن الثامنة عشرة، و35827 من مقاتلي الكتائب المقاتلة والكتائب الإسلامية.
المنشقون المقاتلون بلغت خسائرهم 2498، أما خسائر قوات النظام السوري البشرية فبلغت 45385 قتيلاً بحسب إحصائيات المرصد بالإضافة إلى 29943 من عناصر جيش الدفاع الوطني وكتائب البعث واللجان الشعبية والحزب السوري القومي الاجتماعي و”الجبهة الشعبية لتحرير لواء اسكندرون” ومن أسماهم المرصد بـ “الشبيحة، والمخبرين الموالين للنظام”، في حين بلغت خسائر حزب الله اللبناني الذي يقاتل إلى جانب الجيش السوري 640 قتيلاً.
ووثقت أحدث إحصائية للمرصد مقتل 2502 من الموالين للنظام من الطائفة الشيعية من جنسيات عربية وآسيوية وايرانية، ولواء القدس الفلسطيني، ومسلحون موالون للنظام من جنسيات عربية، في حين بلغت الخسائر البشرية في صفوف الكتائب الإسلامية المقاتلة، والدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وجبهة النصرة “تنظيم القاعدة في بلاد الشام” وجنود الشام، وجند الأقصى، وتنظيم جند الشام، والكتيبة الخضراء، من جنسيات عربية وأوروبية وآسيوية وأمريكية وأسترالية 24989 قتيلاً، ومن بين القتلى هناك 3130 قتيلاً مجهولي الهوية قال المرصد بأنهم موثقين لديه بالصور والأشرطة والمصورة.
كما أشار إلى أن هذه الإحصائية “لا تشمل مصير أكثر من 20000 مفقود داخل معتقلات قوات النظام وأجهزته الأمنية، وآلاف آخرون فُقِدوا خلال اقتحام قوات النظام والمسلحين الموالين لها لعدة مناطق سورية، وارتكابها مجازر فيها، كما لا تشمل أيضًا، مصير نحو 7000 أسير من قوات النظام والمسلحين الموالين لها، وأكثر من 2000 مختطف لدى الكتائب المقاتلة والكتائب الإسلامية وتنظيم الدولة الإسلامية، وجبهة النصرة (تنظيم القاعدة في بلاد الشام)، بتهمة موالاة النظام، ولا تشمل أيضًا مصير أكثر من 1500 مقاتل، من الكتائب الإسلامية والكتائب المقاتلة وتنظيم الدولة الإسلامية، وجبهة النصرة ووحدات حماية الشعب الكردي، والمسلحين المحليين الموالين لهذه الأطراف، الذين أسروا خلال الاشتباكات الدائرة بين هذه الأطراف، ولا تشمل أيضًا، مصير نحو 4000 مختطف من المدنيين والمقاتلين في سجون تنظيم الدولة الإسلامية، بينهم المئات من أبناء عشائر ريف دير الزور، الذين اختطفهم التنظيم من مناطقهم”.
وفي ضوء ذلك قدر المرصد عدد الذين لقوا حتفهم من المقاتلين من كافة الأطراف المتصارعة بنحو 85 ألفًا، مشيرًا إلى أن هناك تكتم شديد من قبل كافة الأطراف على خسائرها، وأن الأرقام التي نشرها هي الموثقة لديه، ومذكرًا بأنه لم يتمكن من معرفة مصير نحو 40000 معتقل ومختطف وأسير.
وفي رصده للإصابات أشار إلى أن أكثر من مليون ونصف المليون مواطن سوري أصيبوا بجراح مختلفة وإعاقات دائمة، وشرد أكثر من نصف الشعب السوري، بين مناطق اللجوء والنزوح، ودمرت البنى التحتية والأملاك الخاصة والعامة، خلال الأشهر الـ 48 الفائتة.
أما على المستوى الاقتصادي فيعاني الشعب السوري حالة من الفقر المدقع والجوع المخيم على أرجاء معظم البلدات والمخيمات، مما دفع الملايين من السوريين إلى الهجرة خارج البلاد بحثًا عن لقمة العيش والحياة الآمنة.
هل يستنسخ الأسد تجربة جنرالات الجزائر؟
مما سبق يلاحظ حجم التشابه بين التجربة الجزائرية في إجهاض الثورة الشعبية والانقلاب عليها، وبين ما تسير عليه سوريا منذ اشتعال فتيل ثورتها المباركة في 2011، لاسيما فيما يتعلق باستيراد الجماعات الإرهابية كـ ” فزّاعة” لإرهاب الشعب المنتفض ومحاولة إقناعه أن العودة للخلف قليلاً أفضل مائة مرة من السير قدمًا في هذا الطريق الملطخ بالدماء والتشريد هنا وهناك، وهذا ما أكده الإعلامي السوري فيصل القاسم في مقالته المنشورة بجريدة “القدس العربي” والذي عنون لها بـ “هل ذهب وليد المعلم إلى الجزائر لاستيراد لحى اصطناعية؟” تعليقًا على زيارة وزير الخارجية السوري للجزائر.
الفيصل أشار في مقاله إلى أن نظام الأسد أحرز بدوره تقدمًا واضحًا على طريق استنساخ اللعبة الجزائرية بمباركة دولية، وزيارة وليد المعلم إلى الجزائر قبل أيام قليلة تأتي في هذا السياق، خاصة وأن الجنرالات يساعدون الأسد ضد الثورة السورية منذ البداية، تمامًا كما ساعدهم حافظ الأسد في التسعينات للقضاء على ثورة الشعب الجزائري.
وتابع أن البعض يعتبر داعش السورية نسخة طبق الأصل عن “الجيا” الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر التي صنعتها أجهزة الأمن، وتركتها تعيث قتلًا وتفجيرًا في أنحاء البلاد لتشويه الثورة الشعبية والحركة الإسلامية المعارضة في الجزائر آنذاك، ومن الواضح أن نظام المخابرات السوري يطبق حرفيًا الوصفة المخابراتية الجزائرية بإطلاق العنان للجماعات الإسلامية المصنوعة في أقبية المخابرات كي يقضي على ثورة الشعب السوري وتصويرها على أنها حركة إرهابية، وذلك بمباركة دولية لا تخطئها عين.
ثم تطرق القاسم إلى عقد مقارنة سريعة بين التجربة الجزائرية والتجربة السورية على صعيد الإرهاب المخابراتي، فقد ظهرت في الجزائر وقتها جماعات متطرفة مجهولة المنشأ، شعارها محاربة النظام وتشويه سمعة المعارضة، بالمقابل، برزت على الساحة السورية أيضًا جماعات لم يعرف أحد من أين جاءت، والغريب أن كل تلك الجماعات جاءت باسم الدين وشعارها “الله أكبر” ويعتقد الكثيرون أنها صنيعة أمنية في كلا الحالتين، ثم تلا ذلك البدء في حملات التصفية الجماعية لكل من كانت له علاقة من قريب أو من بعيد بالمعارضة الأصلية.
فهل ينجح رجالات الأسد في استنساخ تجربة جنرالات الجزائر في الانقلاب على الثورة وتشويه سمعتها من خلال دعاوى الإرهاب والجماعات المتطرفة؟ أم سيكون السوريون أكثر وعيًا من الجزائريين وينجحوا في إجهاض هذا المخطط التآمري؟ هذا ماستكشف عنه الأيام القادمة.