يعتقد الكثيرون في المجتمعات العربية والإسلامية أن الديمقراطية وآلياتها والدولة العلمانية المرتكزتين على الحرية والفكر الليبرالي، هي من إنتاج الترف الفكري الغربي وقد لا تصلح لنا ولا لمجتمعاتنا العربية، فهذا الحكم أو التصور البسيط لهذه الآليات والأفكار التي تمخضت عبر عقود وربما قرون حتى وصل الغرب إليها، قد سقط في الطريق نحوها عشرات الآلاف من البشر في أوروبا جراء الصراعات الداخلية والاستقطابات الخارجية للقوى السياسية المحلية.
إن الأفكار السياسية وتاريخها لا تنبثق برؤوس مفكري الأمم إلا بعد الأزمات والعقبات التي تفتك بالمجتمعات مع غياب السبل والآليات التي يمكن من خلالها الوصول إلى القيم التي خرج الناس من أجلها مع صراعات القوى السياسية والاستقطابات الخارجية، فماذا سننتج نحن العرب؟ هل سننتج فكرًا ووصفة للدولة غير العلمانية وآليات غير ديمقراطية أو شبيهة بها من حيث المضمون بمسميات مختلفة، لكن ما هي الصيغ المتوفرة اليوم التي من الممكن أن تخدم سلاسة التغيير في العالم العربي وترضى بها جميع الإيديولوجيات داخليًا على الأقل وخارجيًا من دون حكم مسبق للأفكار السياسية.
كثيرًا ما نسمع “الاستثناء العربي” انطلاقًا من تاريخنا وثقافتنا وديننا وقيمنا، صحيح أن لكل قاعدة شواذ إلا أننا لب القاعدة وما يجري اليوم هو أمر عادي وطبيعي للغاية بما فيه من مأساة؛ فهذا الذي يجري هو نتاج عدم الإجابة على الأسئلة خلال عقود الاستبداد وعدم وجود النضج الفكري الذي ينتج آليات وأدوات تنطلق من ثقافتنا وديننا ومجتمعاتنا كآليات الديمقراطية الغربية، هذا إذا كنا نرفض تلك الآليات والأدوات كما يفعل بعض المتشددين، فإعطاء صفة للدولة أو عدم إعطائها أي صفة أي تبقى مجردة من الصفات لا علمانية ولا إسلامية ولا غيرهما قد لا يحل المشاكل العربية المستقبلية، علمًا أن الدولة في الإسلام مدنية إنسانية تقبل الجميع وعند العرب الدولة استبدادية تقبل العشيرة والأصل والنسب والجاه ولا تقبل غيرهم.
فكيف يمكن أن ننتج فكرًا بدون الضياع بأفكار التوفيق بين تاريخنا العربي والإسلامي بكل ما يحمل من إيجابيات وسلبيات وبين قيم الليبرالية الغربية المسيطرة اليوم، ألم تسمعوا المفكرين والعلماء يقولون لدينا شورى ولديهم برلمان ولدينا أهل الحل والعقد ولديهم مجلس الوزراء ولدينا حلف الفضول ولديهم المنظمات الدولية المعنية بالحقوق والحريات، فدعونا مما لدينا ولديهم ودعوا تاريخنا جانبًا، فالقيم السليمة التي تحدث عنها الإسلام هي قيم إنسانية لا تتعارض مع ما جاءت به الحضارة الغربية الإنسانية من الحرية والعدالة وقيم الديمقراطية، لكن الإسلام لم يتحدث عن الآليات التي توصلنا إلى تلك القيم أي تركها للإنتاج البشري وأن أي آلية تحقق القيم لا يرفضها الإسلام ما لم تتعارض مع قيم أخرى.
ما أردت أن أقوله هو أن النهضة في أوروبا أنتجت حزمة متكاملة من الأفكار والمبادئ والقيم وأنتجت آليات لها للوصول إليها كالدولة العلمانية والنظام الديمقراطي بآلياته المرتكزة على الحرية، فلا يمكن أن نصل إلى الحرية في عالمنا العربي بآليات الديمقراطية كالانتخابات ونحن نرفض الأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى السلطة بالانتخابات بعد الربيع العربي أي أنها ديمقراطية مشروطة بمن أرغب وما أريد.
فإذا وصل الحزب الذي لا أرغبه إلى السلطة فلا أؤمن بالديمقراطية وإنما أؤيد الانقلاب، لأن من وصل إلى السلطة لا يمثلني أو لم أنتخبه، فذلك يعني عودة الاستبداد مرة أخرى وكأننا لم نقم ثورة بل بروفا التغيير الذي فشل، ولا يمكن أرفض علمانية الدولة جملةً وتفصيلاً وهي من ضمن الحزمة المتكاملة في عصر النهضة الأوروبية وليس لدي البديل المقبول خارجيًا والمنسجم مع قيمنا وديننا داخليًا، فلا يمكن أن نرفض العلمانية ونتغنى بأردغان الذي يعمل بدولة علمانية أعاد إليها بوصلتها الصحيحة بعد أن كانت علمانية أتاتوركية استبدادية شبيهة بالدول العربية التي يحكمها العلمانيون بشقيهم الليبرالي والاشتراكي، فهم مستبدون أوباش أساءوا إلى العلمانية وخدموا أنفسهم والقوى الكبرى بمصالحهم على حساب الشعوب وعلى حساب قيمة العلمانية لدى القوى العربية وخاصة الإسلاميين، فدائمًا ما يتذكر المتدينون آخر الخلافات الإسلامية وما فعله أتاتورك من محاربة اللغة والحجاب والمناهج والإسلاميين وحتى الوطنيين الأتراك فهو لم يكن علماني بالصيغة الغربية وإنما كان علماني بصيغته العربية السقيمة، ففعل أتاتورك ليس غريبًا، فأي دولة كانت ممتدة تشمل أجزاءً واسعة كما كانت عليه الدولة العثمانية وواجهت ثورة داخلية “الثورة العربية الكبرى 1916م”؛ سيؤدي إلى نفس الفعل الأتاتوركي مع القوميات التي ثارت، فأبسط مثال بشار الأسد الذي حول الثورة السورية إلى أقليات وقوميات ومطالبة بالحقوق، فالجميع ينتهج ذات النهج ليس لأنهم علمانيون وإنما لأنهم علمانيون أوباش ومستبدون نفعيون.
إن الدول الأوروبية العلمانية استوعبت جميع المضطهدين من القوى العربية وحتى الإسلامية في فترة عقود الاستبداد، لأنهم علمانيون يعملون بحزمة مبادئ عصر النهضة الأوروبية وليسوا علمانيون منفصمو الشخصية كالعلمانيين العرب وأتاتورك فهم يعملون بالعلمانية وقيم عصر النهضة الأوروبية مع أسس الاستبداد العربي والسلطوي والثقافة القائمة على أسس سلطة العشيرة والأصل والجاه في ظل غياب البديل.
فعدم الإجابة على التساءلات وتأجيلها في العالم العربي وعدم قبول الآليات التي توصل الحزب الذي لم أنتخبه، يعني إطالة أمد فترة التحول نحو الديمقراطية.