كان يُنظر قديمًا إلى القارة السمراء بأنها موطن فقر وتخلف وانتشار للفساد، اقتصاديات راكدة كاسدة، ثروات غزيرة لكنها منهوبة، آثار الاستعمار القديم لا زالت حاضرة وبقوة، كل هذا بينما كانت تحتفي الدول العربية ببعدها النسبي عن تلك الأوضاع.
هذه كانت الرؤية القديمة لبلدان القارة الإفريقية قبل أن يتغير الحال ويُصبح للقارة الإفريقية نمورًا اقتصادية على غرار التجربة الآسيوية، بل وتستطيع عدة دول إفريقية أن تتخلص من الإرث الاستعماري وتبدأ في صناعة نهضة خاصة معتمدة على ثرواتها التي كانت متآكلة بسبب الفساد وغياب الرقابة والقبوع تحت أنظمة استبدادية.
تلك الإفاقة بدأت بتأسيس نظم ديمقراطية تلتها طفرة اقتصادية بعد كبح جموح الفساد الاقتصادي، على الجانب الآخر يُصبح العرب ويمسون تحت أنظمة ديكتاتورية فاسدة، مع تردي اقتصادي غير محدود، وانتشار للفساد بصورة غير مسبوقة، بالإضافة لمحاربة قوى التغيير والإصلاح بالداخل بشتى الطرق، حتى إن الدول الإفريقية التي كان يُضرب بها المثل في الحروب والنزاعات بدأت تتخلص من هذه الحقبة رويدًا رويدًا، وعلى الجانب العربي اشتعلت الصراعات والحروب بضراوة.
هذه التحولات لها عدة أسباب يمكن استنباطها من واقع التجارب الإفريقية الحالية مقارنة بالواقع العربي الذي يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، ومن خلال إلقاء نظرة على بعض هذه التجارب ومعايشة تفاصيلها ربما يمكن الإجابة على سؤال لماذا تتقدم إفريقيا بينما يتخلف العرب؟!
التحول الديمقراطي في كينيا
لدى كينيا تجربة متكاملة من التحول الديمقراطي عمرها أكثر من 20 عامًا بدأت في العام 1991 بإتاحة نظام التعددية الحزبية وإنهاء نظام الحزب الواحد، وفى 1992 أجريت أول انتخابات تعددية في كينيا وفاز بها الحزب الحاكم (الاتحاد الوطنى الإفريقى الكينى).
هذا الأمر لم يتح لكينيا تحولًا ديمقراطيًا كاملًا لكنه كان خطوة على الطريق وصلت مرحلة جديدة في العام 2000 حينما شكلت لجنة لمراجعة مواد الدستور، ثم استطاعت المعارضة الكينية بعد ذلك الصعود بأحد مرشحيها إلى كرسي الرئاسة، وقدمت في عهده مسودة جديدة للدستور في العام 2005 لكنها رفضت من الشعب.
دخلت كينيا في العام 2007 مرحلة صعبة أثناء عملية التحول الديمقراطي بسبب الصدام بين الرئيس الكيني الذي كان مدعومًا من المعارضة في السابق وبين المعارضة الجديدة، اندلع على إثر هذا الصدام مواجهات عنيفة وهو الأمر الذي استدعى تدخلًا دوليًا.
وتم التوصل لاتفاق بوقف العنف بين الأطراف، نص في مجمله على تقاسم السلطة باستحداث منصب رئيس الوزراء للمرة الأولى وتعيين زعيم المعارضة في هذا المنصب، وكذلك تم تشكيل لجنة من الخبراء تكونت من ستة كينيين وثلاثة غير كينيين: واحد من زامبيا وآخر من جنوب إفريقيا وآخر من أوغندا، حيث قامت تلك اللجنة بمراجعة مسودة الدستور وتم تحديد فترة 12 شهرًا لتقديم المسودة الجديدة للاستفتاء، وفى 2010 تمت الموافقة على الدستور الكينى الجديد لتخطو كينيا خطوة كبرى إلى الديموقراطية.
هذا التحول أثر بالإيجاب على الاقتصاد الكيني الذي بدأ في الازدهار، كما شهدت البلاد خلال السنوات الماضية طفرة سياحية هائلة.
إثيوبيا النمر الإفريقي الصاعد
إثيوبيا تلك الدولة الحبيسة التي ظلت تعاني من الفقر والتهميش لسنوات، يُطلق عليها الاقتصاديون الآن النمر الإفريقي الصاعد حيث يحقق الاقتصاد الأثيوبي معدلات نمو تفوق 10% سنويًا وهي معجزة اقتصادية لبلد مثل إثيوبيا بالتأكيد.
سيبلغ عدد سكان إثيوبيا في العام 2018 قرابة 100 مليون نسمة ما يعني أن هذه الدولة لديها وفرة في العمالة وكذلك بدأت مؤخرًا في عملية استغلال الموارد المتحة لديها لتحقيق النمو الاقتصادي.
الأرقام الصادرة عن البنك الدولي تؤكد ارتفاع حجم النمو الاقتصادي لإثيوبيا خلال السنوات الماضية بصورة مذهلة، لتصبح الدولة الأكثر نموًا بين عامي 2007 إلى 2012، مع توقع زيادة هذا النمو في السنوات القادمة.
بدأت إثيوبيا في البحث عن موارد للطاقة لمواكبة هذه النهضة، فبدأت بتشييد 5 سدود بدءًا من 2004 إلى الوقت الحاضر، أبرز هذه السدود وأكبرها على المستوى الإفريقي هو سد النهضة الإثيوبي المتنازع عليه مع دول مثل مصر والسودان بسبب سعته التخزينية الهائلة.
القطاع الزراعي يقود حاليًا اقتصاد إثيوبيا، وتهدف الخطة الحكومية في الفترة القادمة إلى تحقيق التحول إلى الاقتصاد القائم على الصناعة من خلال زيادة إنتاجية القطاع الزراعي، وهو ما يفسر سعي الحكومة الإثيوبية الحثيث لتوفير مصادر للطاقة كالكهرباء من خلال مشروعات السدود المائية، كما تأمل إثيوبيا أن تلتحق بقطار البلدان المتوسطة الدخل من خلال خطة التحول الكبرى خلال خمس سنوات.
أوغندا النمو الاقتصادي من خلال مكافحة الفساد
يؤكد صندوق النقد الدولي أن التجربة الاقتصادية الأوغندية واعدة، حيث بدأت دولة أوغندا في سياسيات اقتصادية إصلاحية رأها وفد صندوق النقد الدولي الذي زار أوغندا قبل عامين أنها كافية لتحقيق ارتفاع في معدل التنمية.
حيث أكد تقرير الصندوق وقتها أن التضخم ما زال تحت السيطرة، كما أن احتياطات النقد الأجنبي ارتفعت لتكفي لتغطية واردات البلاد، وأشار التقرير إلى أن التضخم المنخفض والمستقر في الوقت ذاته، والحفاظ على موقف قوى في المعاملات الخارجية، مستمران في تقديم الحماية في مواجهة أي صدمات متوقعة للاقتصاد.
وأكد صندوق النقد الدولي أيضًا أن السياسات الاقتصادية في أوغندا داعمة للنمو، مشيرًا إلى أن الاستثمارات العامة استمرت عند مستويات مرتفعة، وذكر التقرير أن السياسة المالية تلعب دورًا هامًا في دعم النمو.
ولكن كيف تحقق ذلك في دولة مثل أوغندا كانت تعاني من الفقر بشكل فج؟
كلمة السر كانت في مكافحة الفساد عبر آليات الشفافية والرقابة المجتمعية، فعلى سبيل المثال كانت هناك تجربة أوغندية في مكافحة الفساد في مجال التعليم بعد أن اكتشفت الحكومة أن 80% من ميزانية المدارس الأوغندية تسرق عبر شبكات الفساد الحكومي.
فعّلت الحكومة على إثر ذلك قانون حرية تدوال المعلومات فيما يخص الأنشطة الاقتصادية للحكومة من خلال الموازنة العامة للبلاد، ومن هنا وضعت موازنة التعليم تحت الرقابة الشعبية التي تستطيع أن تعرف ميزانية كل مدرسة من خلال الموازنة المتاحة للجميع؛ بعد عدة سنوات من تفعيل هذا القانون تلاشت نسبة الفساد في القطاع التعليمي بنسبة كبيرة جدًا، وانعكس ذلك بالإيجاب على جودته.
هذه التجربة الأوغندية في مكافحة الفساد تطورت بشكل كبير حتى أصبحت معممة في كافة القطاعات، وبات هناك حق لكل مواطن أن يطلع على الميزانية العامة بأدق تفاصيلها وليس بالأرقام العمومية فقط، لتصبح أوغندا في معدل الشفافية 65 من 100 وهي نسبة متقدمة جدًا مقارنة بالعديد من الدول العربية الأخرى.
نيجيريا وبداية جديدة في مواجهة الفساد
نيجيريا الدولة الإفريقية البترولية، أحد أكبر الاقتصاديات الإفريقية طبقًا للبنك الدولي، لكنها تعاني من الفساد الذي حصر الثروة في طبقة معينة فقط، ومع تدني أسعار البترول المصدر الرئيسي للدخل في نيجيريا، كان على الحكومة النيجيرية مواجهة نزيف الفساد.
وقد كانت دعاية مرشح المعارضة الذي فاز في الانتخابات العام الماضي منصبة بشكل كبير على عملية مكافحة الفساد، والتي بدأها منذ توليه الحكم في 11 خطوة أعلنت عنهم صفحة الموقف المصري في منشور عن تجربة نيجيريا في مكافحة الفساد.
كانت أبرز هذه الخطوات إعلان الذمة المالية للرئيس النيجيري ونائبه، وتوحيد الحسابات المالية الحكومية في حساب واحد تحت إشراف البنك المركزي منعًا للتلاعب، وقد بدأت خطة متكاملة لمكافحة الفساد في البلاد على المستوى الحكومي بشكل غير مسبوق.
رئيس جنوب إفريقيا يعتذر عن قضية فساد
النمر الاقتصادي الأول في إفريقيا وأحد أضخم اقتصاديات القارة بمعدلات نمو كبيرة، حققت جنوب إفريقيا التحول الديمقراطي بعد القضاء على نظام الفصل العنصري، لكن ما زالت هناك مشاكل متعلقة بسوء توزيع الثورة في البلاد.
وعلى الرغم من انطلاقة جنوب إفريقيا إلا أن الفساد ما زال يشكل تحديًا لهذه التجربة، الفساد الذي وصل إلى رئيس جنوب إفريقيا الذي اتهم بصرف 15 مليون دولار من خزينة الدولة على تجديد منزله.
اكتشاف هذه الفضيحة أثار اضطرابًا في البلاد وهو الأمر الذي استوجب اعتذارًا رسميًا من رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما، عما سببته هذه الحادثة من “إحباط واضطراب”.
وقد أكد زوما أنه يحترم حكم المحكمة الدستورية، التي قضت بأنه انتهك الدستور، لكن زوما أكد أنه لم ينتهك الدستور عن عمد، وأمهلت المحكمة الدستورية زوما 105 يوم لرد “التكلفة المعقولة” لتجديدات ليس لها صلة بالأمن أدخلت على منزله الخاص.
جدير بالذكر أن هذه الفضيحة أثارت احتجاجات في البلاد، وطالبت المعارضة بإقالة الرئيس، وقال زعيم المعارضة مموسي مايمان إنه يجب عزل زوما عن منصبه، وإنه سيقدم للبرلمان طلبًا لمساءلة الرئيس تمهيدًا لعزله.
هكذا تتصدى الدول الإفريقية حاليًا للفساد بآليات تطال رئيس الجمهورية نفسه دون خشية، وهو أمر قد يساهم في الإجابة على السؤال الأول الذي يستفسر عن سبب تقدم إفريقيا في مقابل تراجع الدول العربية.
ويمكن اختصار الإجابة من خلال التجارب السابقة إلى أنه في الوقت الذي تتجه فيه إفريقيا إلى عصر التحول الديمقراطي، وأدت الدول العربية تجربة الربيع العربي ورفضت الإصلاح السياسي، وأصرت على الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة.
كما تكمن الإجابة أيضًا في إرادة مكافحة الفساد التي انتشرت بين دول إفريقيا الصاعدة لإحسان استغلال الموارد المتاحة، بينما تقوم الدول العربية بعزل وسجن المتصدين لقضايا الفساد، فيما تنعدم الشفافية والرقابة في النظم الاستبدادية العربية بشكل واضح يمكن أن يبين الفارق بين ما يحدث في إفريقيا الجديدة في هذا اليوم مقابل التراجع العربي.