دونما سابق إنذار، اندلعت اشتباكات مسلحة ما بين أذربيجان وأرمينيا، داخل إقليم ناجورنو كاراباخ، المتنازع عليه بينهما منذ عقود طويلة، وكما اندلعت الاشتباكات فجأة، توقفت فجأة، بعد أن استولت أذربيجان على مرتفعات استراتيجية وقرى في الإقليم، بحسب وزارة الدفاع الأذرية.
الاشتباكات استغرقت أقل من ثمانٍ وأربعين ساعة، إلا أن لها الكثير من الدلالات والأبعاد، وسيكون لها العديد من التداعيات في إطار هذا الذي يجري في الشرق الأوسط، وما يتفاعل على أصعدته من تطورات تتعلق بصدامات عدة ومعقدة بين قوى إقليمية ودولية عدة.
بدأت القصة بهجمات “غير مُبرَّرة” سياسيًا أو عسكريًا، شنتها القوات المسلحة الأذرية على جيش الدفاع عن ناجورنو كاراباخ، وهي القوة المسلحة الرسمية لما يُعرف بجمهورية مرتفعات كاراباخ، وهي جمهورية مستقلة غير معترف بها، تقع في منطقة كاراباخ جنوب منطقة القوقاز، وتبعد حوالي 170 ميلاً من العاصمة الأذربيجانية باكو، وقريبة – كذلك – من الحدود الأرمينية مع أذربيجان.
وكما بدأت الأزمة فجأة، توقفت فجأة بإعلان أذربيجان عن وقف إطلاق النار من جانب واحد، صباح يوم الأحد، الثالث من أبريل.
وبالرغم من هذه السويعات القليلة التي استغرقتها العمليات، إلا أنها تبقى واحدة من أهم علامات التصعيد وخروج الأزمات الراهنة في منطقة الشرق الأوسط ومحيطها الحيوي.
فللشرق الأوسط مدارس عديدة في تعريفه، من بينها تعريف يذهب إلى أنه تلك المنطقة التي تضم المشرق العربي ودول جواره، أي منطقة الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية بما فيها اليمن بالإضافة إلى مصر والسودان غربًا.
أما شرقًا فيمتد حتى إيران وأفغانستان وباكستان وبعض بلدان آسيا الوسطى، أما شمالاً فيضم تركيا وجمهوريات القوقاز المستقلة عن الاتحاد السوفييتي السابق، ومن بينها أذربيجان وأرمينيا، بالإضافة إلى القرن الإفريقي جنوبًا، أما غربًا؛ فيضم منطقة الشمال الإفريقي، وهو المعتمد لدى الخارجية الأمريكية والأمم المتحدة، وكيانات دولية أخرى.
وبالرغم من توقف العمليات، يبقى التساؤل المهم وهو: لماذا؟! ولماذا في هذا التوقيت؟! وهذا ما سوف نحاول الإجابة عليه.
أولاً ينبغي إلقاء نظرة على الميدان الذي وقعت فيه المعارك.
يخطئ البعض خطأً شائعًا، عندما يتحدثون عن إقليم ناجورنو كاراباخ، أو إقليم أرتساخ باللغة الأرمينية، حيث الأقرب للدقة أو بمعنى أصح، الأقرب للواقع، أن الإقليم هو جمهورية مستقلة تأسست باسم جمهورية مرتفعات كاراباخ، ولكن لم يعترف بها أحد إلا بعض الجمهوريات الأخرى التي لم تعترف بها أية دولة في العالم، باستثتاء روسيا، مثل أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية التي دعمت موسكو عسكريًا عمليات انفصالها عن جورجيا خلال عقد التسعينات، والعقد الأول من الألفية الجديدة.
تأسست هذه الجمهورية في السادس من يناير من العام 1992م، بموجب استفتاء عام، انفصلت به عن أذربيجان، في العاشر من ديسمبر من العام 1991م، وأعلنت نفسها دولة مستقلة ذات نظام جمهوري، ويرأسها في الوقت الراهن رئيس من أصل أرميني وهو باكو ساهاكيان، ورئيس حكومتها أرمني كذلك ويُدعى أرايك هانوتيونيان.
قامت هذه الدولة، التي يبلغ تعداد سكانها، نحو 150 ألف نسمة، خلال سنوات حرب ضروس استمرت أكثر من أربعة أعوام بين كل من أذربيحان وأرمينيا، في الفترة ما بين عامَيْ 1988م، و1994م، وأدت لسقوط ثلاثين ألف قتيل، ونزوح مئات آلاف الأشخاص غالبيتهم من الأذريين، وسيطرة الأرمن الذين يشكلون غالبية في الإقليم، على أراضيه.
توقفت الحرب بالتوقيع على اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في العام 1994م، ولكن لم يتم التوقيع على اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا.
معظم السكان الأرمن في الإقليم مسيحيين يتبعون للكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية التي تتبع بدورها الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، ولذلك هي قريبة لروسيا ومصر؛ حيث أكبر الكنائس الأرثوذكسية في العالم، أكثر من قربها من الغرب.
ولكن يوجد فيها كذلك طوائف أرثوذكسية شرقية أخرى، وأيضًا إنجيلية، كما أن بها أقليات دينية أخرى من المسلمين واليهود.
وتعود جذور الصراع على الإقليم إلى السياسات التي تبناها الاتحاد السوفييتي السابق إزاء الأقليات والشعوب التي تنتمي إلى الجمهوريات والأقاليم التي ضمها بعد الثورة البلشفية عام 1917م، تحت شعار “الدمج والاندماج”، والتي بموجبها تم تهجير شعوب كاملة من القوقاز ومناطق وسط آسيا، وكانت سببًا بعد ذلك في حروب وصراعات دموية على النحو الذي حصل في الشيشان وداغستان في العقود الماضية.
ففي العام 1923م، أعطت الحكومة السوفييتية منطقة ناجورنو كاراباخ رسميًا لأذربيجان، بالرغم من أن غالبية سكانها من الأرمن، وكانت كلٌّ من أذربيجان وأرمينيا يتمتع بصفة “جمهورية” ذاتية الحكم، ضمن الاتحاد السوفييتي، وهي أعلى مستوى من الحكم الذاتي كان يحملها إقليم بداخله.
ولذلك لما انتهى الاتحاد السوفييتي، طالبت أرمينيا باستعادة المنطقة، ولكن أذربيجان رفضت، فاندلعت الحرب بينهما، والتي كان من نتيجتها تبادل قومي أو عرقي؛ حيث نزح مئات آلاف الأرمن من أذربيجان إلى أرمينيا، ونزوح مئات آلاف الأذريين من أرمينيا إلى أذربيجان.
خلفيات أوسع للصورة
أتت الأزمة الحالية في سياق تصعيد كبير في الصراعات الحالية في الشرق الأوسط، قادت إلى حزمة من النتائج على رأسها وأهمها، تعقيد الأزمات والصراعات بشكل وسَّع من نطاق الحرب الراهنة في الشرق الأوسط، إلى مستويات عالمية.
وعندما نوصِّف الأوضاع والأزمات الراهنة في المنطقة بكلمة “حرب”، فنحن نعنيها؛ حيث ترتبط جميع هذه الأزمات برباط سياسي وجيوسياسي واحد، فلا يمكن فصل ما يجري في ليبيا – مثلاً – ببواعثه وأطرافه، عما يجري في سوريا، أو ما يجري في اليمن.
والحلقة الزمنية الرابطة بين ذلك كله، كما يعلم المتابعون، هي ثورات الربيع العربية، التي أدت نجاحاتها الأولى إلى نتيجة لم يكن من الممكن أن تتركهما الأطراف الخصوم أن تستمر، وهي أن تخرج المنطقة وشعوبها عن المسطور لها في ألواح السياسات التي رسمتها القوى العظمى وفق مصالحها الاقتصادية وبواعثها الأيديولوجية.
كما أدت ردود فعل الأنظمة الحاكمة، ولجوءها للعنف إلى خلف بيئة مثالية لتنفيذ مشروع الفوضى الهدامة الذي ترعاه الولايات المتحدة والتحالف الأنجلو ساكسوني، في العالم العربي والإسلامي “بكل أمانة”.
النتيجة الأخرى لما يجري في المنطقة، وهي الأخطر، هي ظهور عوامل أزمة غير متوقعة، تقود بدورها إلى انعطافات غير محسوبة في مسارات أية قضية من القضايا المتفجرة حاليًا، وهو ما قد يؤدي إلى حروب أوسع نطاقًا مما هو حاصل في الوقت الراهن.
ومن بين النماذج المثالية لذلك في الوقت الراهن، الأزمة السعودية الإيرانية، والتي كانت مرشحة لمستوى إعلان الحرب، لو كانت الرياض قد وجدت التأييد الكافي لها من جانب حلفائها في المنطقة وخصوصًا مصر وتركيا وباكستان.
ومن بين هذه النماذج، والتي نختارها في هذا الموضع لدلالاتها المباشرة بشأن الأزمة التي اندلعت وانتهت فجأة بين أرمينيا وأذربيجان، أزمة إسقاط تركيا للطائرة الروسية، الـ”سوخوي 24″ في نوفمبر الماضي.
ولمزيد من الدقة، فإن النموذج المختار لا يتعلق بواقعة إسقاط الطائرة الحربية الروسية تحديدًا، وإنما بالتدخل الروسي السياسي والعسكري في الأزمة السورية، بدءًا من سبتمبر الماضي.
وهو بدوره كان عاملاً مفاجئًا بالصورة التي تم بها، وأدى إلى هذا الذي نقوله، في صدد تطورات مفاجئة تلقي بظلال أكثر قتامة على أزمات وصراعات المنطقة.
قاد التدخل الروسي إلى أزمة عميقة بين تركيا وروسيا، وربما الصراع الحالي من تحت السطح بين الجانبَيْن هو الأخطر على المنطقة بأسرها، لأن خروجه عن ضوابطه وحدوده، قد يقود إلى حرب عالمية بالفعل، في ظل تربص أطراف عدة من خارج المنطقة بروسيا، بعد قَلْبها لموازين الصراع الدولي الحالي الذي أخذ مجاله في منطقتها، الذي تُعتبر الأزمة السورية أبرز ساحة له، وأكثرها دموية وخطورة.
وكذلك في ظل تربص روسيا بحلف شمال الأطلنطي “الناتو” الذي يحمي تركيا رسميًا ضد أي اعتداء عسكري خارجي، وحركته في تخوم روسيا الجيوسياسية، كما في شرق أوروبا، والأزمات الراهنة هناك، مثل أوكرانيا، وحائط الصواريخ الذي وصل إلى بولندا على حدود روسيا، خير دليل على ذلك.
كانت تركيا، ومنذ بدء التدخل الروسي في سوريا، في عين الاستهداف، وبالتالي الاستفزاز الروسي في الأجواء وعلى الأرض، في ظل كون تركيا العامل الأهم في استمرار الفصائل السورية المقاتلة المعارضة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد – الذي تدعمه موسكو – على قيد الحياة؛ حيث هي المعبر الرئيسي للمقاتلين والسلاح.
كما أن موسكو قدمت أدلة من صور أقمارها الصناعية على أن تنظيم الدولة “داعش” يستخدم الحدود التركية في الحركة، وفي تهريب النفط والآثار المسروقَيْن من العراق وسوريا، وسواء أكانت الحكومة التركية متورطة في ذلك بشكل مباشر، أم لا؛ فإن مسؤولية ذلك القانونية والسياسية في منع ذلك، هي من صميم عمل الحكومة التركية.
عملت موسكو على الترويج لهذه الصورة السابقة، وممارسة ضغوط سياسية عدة على تركيا، وصلت إلى مستوى توجيه دعم مباشر لأكراد سوريا – الطريف أن ذلك تم بالتوازي مع جهود مماثلة تقوم بها واشنطن، حليف أنقرة الأساسي – حتى تمكن الحزب الديمقراطي الكردستاني.
فقدت الحكومة التركية أعصابها، وأسقطت قاذفة روسية، قالت إنها اخترقت مجالها الجوي، وربما لو كان الموقف في ظروف أخرى لمرَّ كما يحدث يوميًّا في بحر الصين بين البوارج والطائرات الصينية والأمريكية.
كانت هذه النقطة، هي بداية صراع مفتوح بين أنقرة وموسكو، شمل عقوبات اقتصادية روسية واسعة النطاق ضد تركيا، مع المزيد من الإجراءات في الملف الكردي، وصل إلى ذروته في العاشر من فبراير الماضي، عندما وافقت الحكومة الروسية على فتح ممثلية لأكراد سوريا في موسكو.
في المقابل، كانت تركيا تتحضر لعملية برية في سوريا، ولكن الضغوط الروسية والأمريكية، بجانب موقف الجيش التركي الذي رفض ذلك رسميًّا، أوقفتها، كما عمدت أنقرة لممارسة ضغوط عدة لعدم مشاركة الأكراد في مفاوضات “جنيف 3″ في فبراير الماضي، و”جنيف 4” الحالية بين المعارضة السورية السياسية والمسلحة، وبين النظام السوري.
وبفحص التطورات المحيطة بملف الأوضاع في القوقاز؛ حيث تفجرت الأزمة المسلحة الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا، سوف يجد نفسه أمام بعض الأحداث أو التطورات التي ربما تبدو منفصلة لكنها ترتبط أشد الارتباط بهذا الصراع المفتوح بين تركيا وروسيا.
الحدث الأول، كان في النصف الثاني من فبراير الماضي، عندما قامت روسيا بإرسال مقاتلات ومروحيات حديثة إلى قاعدتها العسكرية في أرمينيا ضمن خطط لتعزيز وجودها العسكري هناك، على خلفية معينة في ذلك الوقت، وهو إعلان الأتراك عن الترتيب لموضوع التدخل البري في سوريا، وهو قرار يرى الخبراء أنه من المستحيل تنفيذه بسبب تأخر أنقرة فيه.
الحدث الثاني، كان 14 مارس، بسحب روسيا المفاجئ للقسم الأكبر من قواتها الجوية من سوريا، مع استمرارها في دعم النظام السوري في عملياته ضد تنظيم “داعش”، والإبقاء على تواجده في قاعدتي “حميميم” الجوية و”اللاذقية” البحرية، مع الإبقاء على صواريخ “إس. 400” للدفاع الجوي.
هذا الانسحاب فسره البعض بأكثر من تفسير، كان من بينه أنه خطوة روسية على طريق دعم مشروع الفيدرالية في سوريا، وهي خطوة يستفيد منها الأكراد بالأساس، وثبت صحة ذلك بالفعل، بعدما أعلن أكراد سوريا يوم السادس عشر من مارس، أي في اليوم التالي لبدء روسيا في سحب طيرانها الحربي من سوريا، عن فيدرالية خاصة بهم باسم “روج آفا” (أي غرب كردستان في اللغة الكردية)، وعاصمتها الحسكة، في مناطق كانت تركيا تعتبر أن مجرد عبور الأكراد إليها هو خط أحمر، تقع غرب الفرات.
شملت مناطق “روج آفا” المواقع التي سيطرت عليها قوات سوريا الديموقراطية التي دعمتها كلٌّ من موسكو وواشنطن عسكريًا، وهي بالأساس محافظة الجزيرة وعاصمتها الحسكة، إلى جانب عين العرب أو “كوباني”، في ريف حلب الشمالي، إضافة إلى منطقة أخرى منفصلة جغرافيًّا عن هذه المناطق، وهي عفرين الواقعة في ريف حلب الغربي، وتقع غرب الفرات.
الحدث التالي، كان يوم 29 مارس الماضي، عندما أعلن تنظيم الدولة عن تبنيه لعملية في جمهورية داغستان جنوب روسيا، استهدفت عناصر للشرطة الروسية، ووهو ما ربطه مراقبون برغبة التنظيم في الثأر لهزائمه في سوريا أمام قوات القوات النظامية، والتي دعمتها روسيا من خلال مقاتلاتها وعناصر من قواتها الخاصة، كما حدث في معركة “تدمر”.
في حينه، طرح مراقبون بعض التساؤلات حول توقيت هذه العمليات، والطرف الذي نفذها، ومدى ارتباطه بتركيا، وكلها تساؤلات مشروعة لعدد من الأسباب، أهمها أنه، ومنذ أشهر، وعندما بدأت روسيا في ترتيب تدخلها العسكري في سوريا، صدرت بعض البيانات عن فصائل وجماعات مسلحة عدة تنادت فيما بينها لإرسال عناصر لها إلى القوقاز، لإعادة فتح جبهة الشيشان وداغستان في وجه موسكو.
التقارير في حينه أشارت إلى تجمع الكثير من هذه العناصر في مناطق شمال وشمال شرق تركيا، في طرابزون وآدري، ومناطق أخرى قريبة من الحدود الجورجية والأرمنية مع تركيا، ومنها إلى مناطق القوقاز الروسية المجاورة.
ومما يدعم هذا الرابط، أن ما تم تنفيذه من عمليات في داغستان في الآونة الأخيرة، لم تعلن “داعش” مسؤوليتها عن دعمها لها جميعًا؛ فبعض هذه العمليات لم يزل من دون إعلان أي طرف عن مسؤوليته عنه، وهو ما يقول الكثير في صدد عدم رغبة من قام بها في الإعلان عن نفسه لعدم الربط بين هويته وهوية داعميه، وبين التدخل الروسي في سوريا، مما سوف يستتبعه رد فعل روسي بالتأكيد.
فخريطة الفصائل المسلحة التي تقاتل في سوريا معروفة، ومعروف من يدعم كلاُّ منها، ولو أعلن أحدها عن تورطه في هذه العمليات؛ فسوف يتم تصعيد الأزمة بين موسكو وبين الطرف الذي يدعمه.
ثم جاء خبر لافت، في الرابع من أبريل؛ حيث أعلن الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف، أنه سوف يقوم زيارة سوريا “قريبًا” تلبية لدعوة من الرئيس السوري بشار الأسد، بحسب وكالة أنباء “سبوتنيك” الروسية.
اتهامات روسية وطموحات تركية
عندما اندلعت الأزمة المسلحة الأخيرة، أعلنت تركيا رسميًّا على لسان الرئيس التركي نفسه رجب طيب أردوغان، عن دعمها “الكامل” لأذربيجان في أزمتها الحالية، وهو موقف تفادته حتى روسيا مع حليفتها أرمينيا؛ حيث دعت موسكو كلا الطرفَيْن إلى ضبط النفس ووقف إطلاق النار.
ولكن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، قال خلال لقاء له مع نظيره المولدافي آندريه جاليور، عن “تدخلات تركية” في شؤون الدول المجاورة، لكنه قال إنه لا يتهم أنقرة بشيء محدد في صدد إشعال الأزمة المستجدة في القوقاز؛ حيث واحدة من أهم مناطق الأمن القومي الروسي ذات الهشاشة الأمنية والديموجرافية.
ولكن الموقف التركي يمكن فهمه، في ظل كون أذربيجان جمهورية ذات غالبية عرقية تركية، ومنذ أن تولت الحكومة الحالية في تركيا مقاليد الحكم، في العام 2002م، فإنها لا تخفي صراحةً، وخصوصًا في كتابات البروفيسور أحمد داوود أوغلو، قبل توليه مناصبه الحكومية المتتالية، أن تركيا تضع البلدان والكيانات التي تضم عرقيات تركية، على رأس أولويات سياساتها الخارجية كـ”دولة مشروع” ذات جوار جيوسياسي حيوي لا تفصله عن حدود أمنها القومي المباشر.
وهو ما يعرف في العلوم السياسية بالدولة المشروع أو الدولة المهيمنة الـ“Hegemony state”، مثلما تفعل إسرائيل مع اليهود في العالم، ومثلما تنظر إيران للمناطق ذات الغالبيات أو الأقليات الشيعية المعتبرة في دول الجوار العربي.
ولذلك يمكن فهم الاهتمام التركي الخاص بأزمة أقلية الأويجور المسلمة في تركستان الشرقية ذات الحكم الذاتي في الصين، دونًا عن قضايا الأقليات المسلمة الأخرى.
فهي – كما هو واضح من اسمها – أقلية ذات أصول تركية؛ حيث كانت ضمن المناطق التي هاجرت إليها القبائل التركية التي سكنت الأناضول قديمًا (ومن بينها مناطق في شمال أرمينيا نفسها)، بسبب الاضطهاد السياسي والعرقي، قبل أن يوحدها عثمان بن أرطغرل الغازي، في القرن الثالث عشر، ويعود بها إلى الأناضول، واضعًا أسس الدولة العثمانية، بعد دعمه للسلاجقة الروم ضد الدولة البيزنطية.
ولذلك كان من بين القرارات التي عاقبت بها موسكو، أنقرة عقب أزمة السوخوي، هو تجميد عضويتها في رابطة الجمهوريات التركية في روسيا.
في السياق السابق، وكما أعلنها أردوغان صراحةً في أكثر من موقف، تستعيد تركيا إرثها العثماني، ويظهر ذلك في سلوكها السياسي الخارجي، كما في الأزمة الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان؛ حيث أيد أردوغان، وقبل أن تعلن حكومته نفسها موقفها، موقف أذربيجان، وربما كان ذلك بسبب كونه خارج البلاد، وأراد قطع الطريق على أي طرف داخل الحكومة نفسها لتبني موقفًا مغايرًا لموقفه “الإمبراطوري” هذا.
وشهدت الفترة من 31 مايو إلى 10 يونيو 2015م، تصاعدًا في مؤشرات التعاون العسكري بين تركيا وكل من وجورجيا وأذربيجان، وكلاهما من خصوم موسكو؛ حيث قامت قوات عسكرية تركية وجورجية وأذرية بسلسلة من المناورات العسكرية المشتركة غرب تركيا أطلق عليها اسم “نسر القوقاز”.
وهو ما فسره مراقبون على أنه امتداد لذراع تركيا في أزمات تخص روسيا في شرق أوروبا، كما في القرم التي لا تعترف أنقرة بضم موسكو لها في مارس 2014م، على خلفية الثورة الشعبية على الرئيس الأوكراني السابق الذي كانت تدعمه موسكو، فيكتور يانوكوفيتش.
جاءت هذه الخطوة من جانب تركيا ضمن ما أسماه الباحث محمود الرنتيسي، بتفعيل تركيا لقوتها الصلبة، منذ العام 2013م، وشمل بجانب ذلك، تدريب وتجهيز المعارضة السورية، والتوقيع على اتفاق تعزيز التعاون الدفاعي مع قطر، والذي تم إقراره في البرلمان التركي، في مارس من العام 2015م، وتدعيم التواجد العسكري التركي في قاعدة “بعشيقة” في شمال العراق، بالإضافة إلى السعي إلى تأسيس قاعدة عسكرية تركية في الصومال.
……
ربما لا تكون هذه هي كامل الصورة المحيطة بالأزمة الجديدة في القوقاز، لكنها ترسم ملامح واضحة لحقيقة مهمة وهي أن الصراع الحالي في الشرق الأوسط، قد تحول بفعل سياسات التحالفات والتحالفات المضادة، إلى صراع عالمي، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه، هو أول من حذر منه بعد التصعيد المستمر في الأزمة السورية.
ولعل أبرز مظاهره في الوقت الراهن، هو صراع القيصر الروسي والإمبراطور العثماني الذي أخذ وجهًا عسكريًّا صريحًا في الأشهر الأخيرة، بما ينذر بالعديد من العواقب والتطورات التي قد تخرِج الموقف عن السيطرة، خصوصًا لو تحولت الأزمة إلى عداء صريح مسلح بين الطرفَيْن!