لا تكاد تخمد احتجاجات في هذه المحافظة حتى تندلع أخرى، ولا يكاد يرضى هذا القطاع حتى يستفيق آخر على مطالب قديمة جديدة ومتجددة أيضًا، احتجاجات وإضرابات تتمدد إلى محافظات متعددة من البلاد التونسية يطالب فيها العاملون بالزيادة في الأجور وفي إيفاء العامل حقه، ذلك أن العاطلين عن العمل، وخاصة من حاملي الشهادات العليا، تزداد مطالبهم يومًا بعد يومٍ في وضعٍ قريبٍ من الانفجار.
11 اعتصامًا من حاملي الشهادات العليا وغيرهم من أمام عدد من الوزارات يطالبون بحقهم في التشغيل في مدة تجاوزت الشهرين تقريبًا، حتى إن بعضهم قاربت حالتهم الصحية الدرجة الخطيرة دون أن تفتح الحكومة والوزراء المعنيون باب الحوار حسب ما أكده بعضهم وعدد من منظمات المجتمع المدني في تصريحات إعلامية مختلفة.
وفي تقرير يرصد الاحتجاجات في كامل محافظات الجمهورية، أعلن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تسجيل أعلى نسبة احتجاجات منذ الثورة خلال شهر يناير سنة 2016، إذ بلغ عدد الاحتجاجات 1521 احتجاجًا بينهم 62 احتجاجًا بشكل فردي و1459 احتجاجًا جماعيًا، وسجلت محافظة تونس الكبرى أعلى نسبة تلتها محافظتي القيروان وقفصة مع العلم أن 50% منها كانت عشوائية ذات طابع عنيف اتصل أغلبها بالتهديد بالانتحار وغلق الطرقات، وهي نسبة قابلة للارتفاع إذا واصلت الحكومة سياستها المعهودة، حسب المنتدى.
وفي تقرير صادر عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية خلال شهر تشرين الثاني سنة 2015 رصد 390 تحركًا احتجاجيًا مقابل 910 تحركات خلال شهر تشرين الأول، وتصدر القطاع التربوي طليعة الاحتجاجات بنسبة 23.4%، تليه احتجاجات ذات علاقة بالأوضاع الاجتماعية على غرار البطالة وتدهور القدرة الشرائية وانقطاع الماء الصالح للشراب، وبيّن المنتدى في هذه المناسبة أن الاحتجاجات تراجعت خلال شهر تشرين الثاني بسبب العملية الإرهابية التي استهدفت حافلة الأمن الرئاسي يوم 24 من نفس الشهر من السنة المنقضية ورجح حينها ارتفاعها مع مفتتح السنة الجارية خاصة مع تعطل مفاوضات الزيادة في أجور القطاع الخاص في تلك الفترة.
وحذر المجتمع المدني من ذلك المنتدى والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في مناسبات عدة من خطورة الوضع الاجتماعي في تونس وما ستنجر عنه سياسة اللامبالاة التي تعتمدها السلطات، واصفين الوضع بالقنبلة الموقوتة في وجه الاستهانة بمطالب شريحة واسعة من المواطنين، كما أكدوا أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لن تساهم في معالجة مغايرة للملف الاجتماعي والاقتصادي وهي لا تعتبر سوى ذر رماد على العيون، في الوقت الذي تحاول فيه البلاد النهوض من مخلفات العمليات الإرهابية المتتالية وما يفرضه ذلك من تحديات أمنية واقتصادية.
ومع تزايد مطالب الشباب والعاطلين عن العمل بصفة عامة وخاصة في المحافظات الداخلية المهمشة من ذلك القصرين، سيدي بوزيد، قفصة، سليانة، جندوبة ، ومع تزايد تدهور المقدرة الشرائية للمواطن التونسي وضعف الأجور يتساءل كل هؤلاء عن الحلول التي طالما وعدت بها الأحزاب خلال حملاتها الانتخابية لإنقاذ البلاد من التدهور الاقتصادي الفظيع، وطالما تغنت أحزاب بحلولها السحرية خلال نشوة الانتخابات غير أنها سرعان ما هرعت إلى التأكيد أنها لا تملك عصا سحرية لإنقاذ تونس حال بلوغها مبتغاها واكتشف حينها المنتخبون أن تلك الوعود لم تكن سوى مزايدات للوصول إلى كرسي أو كراسي العرش وأنهم لم يكونوا سوى خطوة لعبور الصراط.
نسبة النمو لم تتجاوز 0.8% خلال كامل سنة 2015 حسب ما أكده المعهد الوطني للإحصاء، وتتداخل في ذلك عدة عوامل منها ارتفاع نسبة الإضرابات في كامل القطاعات، تراجع الموارد السياحية مع ارتفاع العمليات الإرهابية، تفشي الظاهرة الأكثر انتشارًا في تونس وهي الفساد وغياب المحاسبة، ناهيك عن ملف الأموال المهربة لعائلة الرئيس المخلوع بن علي وعائلة زوجته، تلك الأموال القادرة على خلق الآلاف من مواطن الشغل غير أن مصيرها “أريد له” أن يكون مجهولاً، نسبة نمو قد تكون معقولة في بلد يعيش انتقالاً ديمقراطيًا بعد فترة حالكة السواد من الديكتاتورية، وفي فترة عاشت فيها الدولة صعوبات على المستوى الهيكلي، إلا أن غير المعقول هو عدم انكباب الحكومات المتتالية في خمس سنوات من الثورة على برامج إصلاح هيكلية لجميع القطاعات وبقائها دون المستوى المطلوب من المردودية، ولقائل أن يقول لا يمكن أن يصلح حال دولة عاشت عقود من الفساد في 5 سنوات فقط! ولكن لنقل يكفي هؤلاء شرف المحاولة التي لم نر بوادرها إلى حد الآن باستثناء شطحات عشوائية لتلميع الصورة والمزايدة الفايسبوكية والإعلامية فقط.
وجاءنا نبأ انطلاق الحوار الوطني حول التشغيل في شهر آذار 2016 وتسللت إلى قلوبنا آمال كبيرة لحلحلة الوضع الاجتماعي المتأزم غير أن حوار التشغيل تجاهل المطالبين بالتشغيل ولم يفتح معهم حوارًا جديًا! الأمر الذي استنكره رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عبد الرحمان الهذيلي ورئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان عبد الستار موسى، حتى إن المنتدى رفض المشاركة فيه مبررًا ذلك بتواصل نفس المنوال التنموي ونفس الخيارات الاقتصادية.
وعليه فإننا نتساءل عن مدى نجاعة السياسة التي تعتمدها الحكومات المتتالية بعد الثورة لإصلاح الإدارة التونسية والنهوض بالاقتصاد الوطني ومحاربة الفساد وامتصاص الغضب الاجتماعي الذي تجلى في أكثر من حراك آخرها احتجاجات محافظة القصرين في شهر يناير سنة 2016 مطالبة بالتنمية والتشغيل، في حراك أعاد النفس الثوري وكاد يعود بالبلاد إلى المربع الأول سيما بعد زحفه على بقية المحافظات! متى ستعي السلطات إذن أن المسكنات لن تؤدي سوى إلى توغل الغضب في جسم هذا المجتمع الغاضب والمغلوب على أمره! متى تعيد الدولة النظر في منوال التنمية وتقطع مع المسكنات، متى ستترفع الأحزاب عن المزايدات السياسية و”البوز” وتنكب على الإصلاح الحقيقي والهيكلي النابع من الإرادة الصادقة المؤمنة بأن حب الوطن من حب إصلاحه!