يراها البعض نتيجة طبيعية لما حذر منه الكثير من المحللين خلال الأعوام الخمس الماضية، من أن خذلان العالم لأبناء سوريا، سيكلف الجميع الكثير من الألم والمآسي، واليوم باتت مجموعة الدول القوية التي كانت تنظر للكارثة الإنسانية في دمشق بعين اللامبالاة، وبعضها كان يدفع الحطب لإشعال مزيدا من النيران، بدأ الجميع يدفع الثمن دماء وقلاقل وحسرة.
مؤخرا، شهدت جمهورية داغستان الروسية تفجيرات تبناها تنظيم داعش المتطرف، كان آخرها استهداف سيارات للشرطة، واجهتها أجهزة الأمن بحملة اعتقالات واسعة، استهدفت عشرات يشتبه بارتباطهم بهذا التنظيم، على الرغم من التصريحات السابقة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي أكد فيها مرارا وتكرارا نجاح روسيا في القضاء على معظم المقاتلين الروس في صفوف “داعش” داخل أراضيها، وأيضا نجاحها في وأد الجماعات المتمردة في القوقاز.
النزع الأخير
هناك رؤى مختلفة للخبراء حول التفجيرات الأخيرة، وعمليات الاغتيال الصغيرة التي حدثت داخل روسيا لعناصر من الشرطة تبناها داعش، فمنهم من يعتبرها نوعا من الرد “من تحت الرماد” لتنظيم داعش الإرهابي، على ما تكبده التنظيم من خسائر، وانتقاما للهزائم التي طالته في سوريا والعراق، آخرها استعادة مدينة تدمر السورية، وبات الآن في نزعه الأخير.
يبرر أصحاب هذا السيناريو على رأيهم بأن أجهزة الأمن الروسية نجحت على مدى سنوات في القضاء على التشكيلات الإرهابية في شمال القوقاز، لكن الحدود المشتركة لطاجيكستان وأوزبكستان وقرغيزيا مع أفغانستان، تسمح بعبور عناصر إرهابية إلى روسيا تحت غطاء الهجرة والعمل، وهو ما يهدد الداخل الروسي، خصوصا وأن تقديرات مركز مكافحة الإرهاب الروسي تشير إلى أن ما بين 2000 و3000 مقاتل نجح داعش في تجنيدهم، من أصول تترية وقوقازية وجورجية وطاجيكية وأوزبكية وقرغيزية، بالإضافة لمواطنين روس، وهو ما ردت عليه روسيا سريعا بتشديد إجراءات دخول مواطني هذه الدول إلى البلاد، كخطوة قد تحد من إمكان وقوع أعمال إرهابية فيها، بالإضافة لقيامها بعمليات اغتيال نوعية للعناصر الفاعلة بينهم.
أصحاب هذا الرأي يعتبرون كذلك أن تلك التفجيرات هي فقط لتخفيف الضغط عن التنظيم المتطرف في سوريا، ولإثارة الرأي العام الروسي ضد العملية العسكرية هناك.
قراءة أخرى
في المقابل يقرأ بعض المحللين دلالات تلك التفجيرات من زاوية أخرى، تقول إن من يقف ورائها هم عناصر مخابرات روسية لإيهام الرأي العام بأن عناصر التنظيم المدعومة من بعض القوى المعارضة داخليا، ومن دول الإطار القوقازي هي مرتكبها ، كنوع من تبرير الإجراءات القمعية التي يقوم بها رجال الشرطة ضد معارضيها بالقوقاز بدعوى التمرد.
هنا يدلل أصحاب هذا الرأي على وجهة نظرهم بأن تنظيم داعش الإرهابي يتلاقى في أهدافه مع روسيا، متهمين أجهزة الأمن الروسية بتسهيل انتقال الجهاديين الإسلاميين لسوريا والعراق، كحجة للتدخل العسكري بها، باعتبارها ثورة إرهابية وليست ضد نظام الأسد الدموي، حتى أن غارات سلاح الجو الروسي لم تستهدف داعش _إلا فيما ندر_، فيما تركزت معظمها على القوى الثورية المعتدلة، وسمحت للتنظيم المتطرف بالتمدد في معظم المناطق السورية والسيطرة عليها، ومعظم تلك المناطق كانت تسيطر عليها المعارضة وليس الجيش السوري.
الرأيين السابقين يغفلان – عمدا أو عن غير قصد – المخاطر الكثيرة المحيطة بمنطقة القوقاز، في ظل اختلال التوازن الديموغرافي لمصلحة مواطني الجمهوريات الناطقة بالروسية، التي تسمح بتغلغل مبعوثي “داعش” ودعاتها الإيديولوجيين إلى القوقاز، بل وإمكانية تمدد التنظيم إلى قلب روسيا نفسها، وليس إلى محيطها الجغرافي فقط.
ما يزيد من الخوف الروسي هو ارتفاع نسبة التحولات الديمغرافية، والتي تبعها زيادة في الاعتماد على أبناء القوميات الأخرى الناطقة بالروسية تحت مظلة الجيش الروسي، وهو ما أثر في التركيب القومي للجيش، وزادت نسبة الروس المسلمين ضمن صفوفه، إلى 10 بالمائة .
قدرات قتالية
بالنظر إلى تلك المعطيات، مع واقع أن المحاربين القوقاز يتميزون بقدرات قتالية عالية، اكتسبوها من الحروب المتتالية ضد الجيش الروسي، والعمليات العسكرية في أفغانستان وباكستان والعراق، ما وشي بأن أزمة الجيش الروسي بالقوقاز لن تتوقف عند هذا الحد، ومرشحة للتطور بشكل أكثر خطورة، خصوصا وأن حقوق القوقازيين مازالت منتهكة في المنطقة، الأمر الذي يعزز قاعدة الإرهاب.
ما يدعم وجهة النظر التي ترشح تصاعد أزمة الجيش الروسي في القوقاز ، هو أن الجمهورية القوقازية التي يقطنها ما يقرب من 10 ملايين نسمة، تعاني من الإهمال الروسي والقبضة الأمنية القوية والمتعنتة، ضد دعاوى الانفصال بها، ما يدفع بالكثير من الشباب بداخل الجمهورية الإسلامية للتلاقي في أفكاره وإيديولوجيته مع مغريات تنظيم داعش، في ظل معاناة الجميع من التهميش والفقر والبطالة، بالإضافة إلى قرارات السلطات الروسية المتتالية بإغلاق المساجد السلفية، ما يعني أن ما سيشكل خطرا على القوقاز ليس “داعش” نفسه، بل إيديولوجيتها التي تتلاقي وطموح الشباب المهمشين بها، حتى أن بعض المجموعات في شمال القوقاز أقسمت بالولاء “للتنظيم”، وهي تحاول الآن استئناف هجماتها المسلحة، للفت انتباه الممولين الأجانب.
تلك الإيديولوجية ستزداد خطورة في حالة عودة متطرفي الجمهوريات السوفيتية من سوريا والعراق ، وفي حال توفر التمويل الخارجي،و قد يؤدي ذلك كله إلى ظهور حركة جهادية مسلحة خطيرة، تعمل هناك وتزيد من أزمة الروس بها.
والآن بات الواقع يقول إن هناك جمهوريات روسية عرضة للمخاطر الإرهابية من قبل المتطرفين العائدين من الشرق الأوسط، أكثر من غيرها بينها، داغستان وانغوشيتيا، وجورجيا.
مقتل كيبيكوف
برؤى المحللين ربما أخطأت روسيا قبل عام بقتلها كيبيكوف، أمير الحرب في شمال القوقاز، بعد اغتيالها لسلفه “شامل باسييف”، خصوصا وأن كيبيكوف كان يرفض محاولات “طرخان باتيراشفيلي”، أحد أكبر قادة داعش بالقوقاز، إعلان دولة الخلافة بها ، وتوسيع سيطرة التنظيم في الإقليم، بل أنه عزل رئيس فرع داغستان من إمارة القوقاز، “رستم أسيلديروف”، حينما أعلن ولائه لداعش، مؤكدا على انتمائه لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، وبمقتله – كيبيكوف- أصبح هناك اختلافا في التنسيق داخل إمارة القوقاز.
هنا ربما تظهر الإجابة على سؤال حير العالم الفترة الأخيرة، وهو لماذا قررت روسيا فجأة الانسحاب من سوريا، وتركها بشار الأسد وإيران يواجهان مصيرهما بمفردهما؟.. وهي رغبتها في استغلال هذا الانسحاب التكتيكي، في رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، في فترة الأزمة الأوكرانية، والتي كانت سببا رئيسيا في انتشار داعش على الحدود الشرقية للقارة الأوروبية، وباتت موسكو الآن أمام خيارين لا ثالث لهما، أولهما مجابهة التحدي الداعشي لفرض نفسه في الأقاليم الجديدة شمال القوقاز وغربي روسيا، وثانيهما هو التحدي الخارجي في الحتمية الروسية للتنازل عن تأييدها لنظام الأسد مقابل رفع العقوبات الاقتصادية.. وفي انتظار ما ستسفر عنه قادم الأيام بالقوقاز!!