تطورت قضية مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني مع إصرار النظام المصري على عدم كشف حقيقة مقتله والجاني الذي يقف خلفها، منذ اختطافه في ذكرى ثورة الخامس والعشرين من يناير الماضية، قبل أن تعثر السلطات المصرية على جثته ملقاة على جانب الطريق الصحراوي بمدينة السادس من أكتوبر، عليها علامات تعذيب.
النظام المصري يحاول الخروج من المأزق
الأمن المصري سارع بإعلان أن الباحث الإيطالي قُتل في حادث سيارة، إلا أن الجانب الإيطالي طالب بتشريح الجثة التي عليها علامات تعذيب واضحة وانتظار نتائج التحقيقات للكشف عن ملابسات واقعة مقتل ريجيني.
شكلت إيطاليا لجنة تحقيق وصلت إلى القاهرة عقب الحادث لتتولى بجانب السلطات المصرية كشف الحقيقة في الواقعة، إلا أن الجانب الإيطالي اشتكى في غير مرة من عدم تعاون المحققين المصريين، وهو الأمر الذي ساهم في إثارة الشكوك حول حقيقة مقتل ريجيني باستبعاد فرضية حادث السيارة، والتأكيد على وفاة ريجيني من أثر التعذيب الذي تم على يد جهة ما لا تزال مجهولة.
حاولت السلطات المصرية التصديق على هذا السيناريو لكن بطريقة مختلفة إلى حد ما، فأعلنت تصفية عصابة مكونة من خمسة رجال تستهدف سرقة الأجانب في مصر، وقالت وزارة الداخلية المصرية أنها عثرت على بعض متعلقات( جواز سفر، بطاقات هوية) ريجيني معهم.
الحكومة الإيطالية لم تغلق الموضوع عند هذا الحد كما توقع المصريون بل شككوا في صدق هذه الرواية خاصة وأنه يصعب التأكد منها بعد قتل جميع عناصر العصابة كما ادعى الأمن المصري، ما دفع النظام لنفي علاقة هذه العصابة بمقتل ريجيني وهو تراجع وضع رواية الداخلية في مأزق بعد أن أخرجت للإعلام متعلقات ريجيني، فمن أين حصلت وزارة الداخلية المصرية على متعلقات ريجيني طالما أن التشكيل العصابي ليس له علاقة بمقتله؟.
مثل هذه السيناريوهات زادت من تأكد الإيطاليين من عبث المصريين في التحقيقات وسط رغبة لتضليل الرأي العام بتصريحات متضاربة تارة من الأجهزة الأمنية وتارة من الخارجية بالإضافة لتصريحات رئاسة الجمهورية.
إلى الحد الذي أعلن فيه الإيطاليون صراحة هذا التلاعب، حيث أعلنت صحيفة لاستامبا الايطالية أن وزير الخارجية المصري سامح شكري نقل لوزير الخارجية الامريكي جون كيري معلومات مغلوطة عن الشاب الايطالي جوليو روجيني اتهمه فيها بأنه ينتمي إلى مجموعة تمارس الجنس السادي.
إيطاليا تهدد ومصر لا ترد
تزامن هذا مع تأجيل سفر وفد المحققين المصري إلى روما الذي طلبته إيطاليا، وهو ما أثار حفيظة الإيطاليين ليخرج وزير خارجية إيطاليا في حديثه أمام البرلمان الإيطالي متحدثًا عن أن إيطاليا لن تتوقف عن المطالبة بـ “الحقيقة الكاملة” حول مقتل “ريجيني”، وليست “الحقيقة المريحة”، في إشارة واضحة إلى عدم تصديقهم للروايات المصرية المتواصلة المنسوجة حول مقتل ريجيني، والتي أعلنت مجددًا أن الداخلية تمكنت من القبض على عصابة أخرى متهمة بقتل الشاب ريجيني.
وأكد وزير الخارجية الإيطالي أن “الاجتماع المقرر مع فريق التحقيقات المصري سيكون حاسمًا بالنسبة لسير التحقيقات، أما إذا أصبح غير مُجدٍ فستتخذ إيطاليا حينها التدابير اللازمة تجاه مصر”. واستكمل قائلًا إن إيطاليا لن تسمح لمصر بالتلاعب بكرامتها، حسبما نقلت صحيفة كوريو ديلا سيرا اﻹيطالية، وهو الحديث الذي رفضت الخارجية المصرية التعليق عليه.
كل هذه المحاولات المصرية لفبركة سيناريوهات عن الحادث قوبلت بالرفض الإيطالي، حتى أن فريق التحقيق الإيطالي بدأ يعمل بمعزل عن الجانب المصري، وأكد أنه توصل إلى خيوط حول حقيقة مقتل المواطن الإيطالي، لكن لم يعلن عن هذه الخيوط حتى الآن.
إلا أن بعض الأحاديث المسربة إلى الصحافة الإيطالية بدأت تتحدث عن تورط شخصيات من أجهزة الأمن المصري في مقتل ريجيني بعد تعذيبه في أحد مقرات الأمن، في ظل الحديث عن توصل فريق التحقيقات الإيطالي لهوية بعض هؤلاء الضباط، بل إن أحدهم كان المسؤول عن قضية التحقيق في مقتل ريجيني.
بادرت مصر بتشكيل الوفد المفترض سفره إلى روما من بعض رجال الشرطة والنيابة ويترأسه النائب العام المساعد المستشار مصطفي سليمان، فيما نقل بعد ذلك المتحدث باسم وزارة العدل المستشار خالد النشار أن الوفد مكون من أعضاء النيابة العامة فقط، رغم الحديث عن طلب إيطاليا بعض الأسماء المنتمية لوزارة الداخلية التي قامت على تحقيقات القضية في مصر.
سيناريو للجريمة يتهم السلطات المصرية بالضلوع فيها
وفي تطور جديد من نوعه في القضية أعلنت صحيفة إيطالية “لا ريبابليكا” عن حصولها على شهادة مصدر لم يفصح عن هويته مؤكدًا عمله بالشرطة المصرية، الشهادة التي نشرتها الصحيفة تحتوي على ملابسات مقتل الطالب الإيطالي.
حيث أكدت هذه الشهادة أن الطالب عذب داخل مقر الأمن الوطني في عدة مناطق بجسده وبطرق مختلفة روتها الصحيفة، وهو الأمر المثبت في تقرير الطب الشرعي عن جثة ريجيني، كما فجرت الشهادة مفاجأة من العيار الثقيل عن تورط الضابط خالد شلبي مدير إدارة المباحث بمديرية أمن الجيزة في القبض على ريجيني من منطقة خاضعة لمباحث الجيزة، وهو الضابط المتولي لأمر التحقيقات في مقتله الآن.
الشهادة تقول أن وزير الداخلية مجدي عبدالغفار كان على علم بالقبض على ريجيني، وكذلك اللواء أحمد جمال الدين مستشار السيسي الأمني، وطبقًا للشهاة أمر جمال الدين الأمن الوطني بنقل ريجيني إلى المخابرات الحربية التي عذب فيها ريجيني أيضًا حتى فقد وعيه، ومع استمرار التعذيب لفظ ريجني أنفاسه الأخيرة في مبنى المخابرات الحربية التي قامت بنقله إلى ثلاجة الموتى في مستشفى كوبري القبة العسكري، ومن ثم اتخذ قرار إلقاء جثته في الطريق من قبل الرئاسة بعد اجتماع ضم السيسي بوزير الداخلية واثنين من مستشاريه وهم فايزة أبو النجا وأحمد جمال الدين، بحسب رواية الشاهد التي نشرتها الصحيفة الإيطالية.
هذه الرواية التي لم تؤكدها الصحيفة ونقلتها كما هي تُشير إلى تورط النظام المصري في الحادث بداية من مؤسسة الرئاسة التي علمت بالأمر ووزارة الداخلية وجهاز المخابرات الحربية، وهي رواية متطابقة إلى حد كبير مع روابة لعقيد شرطة متقاعد يُدعى “عمر عفيفي” نشرها على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”.
بعيدًا عن مدى مصداقية الرواية بتفاصيلها الكاملة إلا أنها أشارت إلى شكوك أثارتها الصحف الإيطالية قبيل نشر هذه التفاصيل، وهذه الشكوك ملخصة في تورط الضابط خالد شلبي في القضية بعد أن علمت الصحافة في إيطاليا بسجله في التعذيب الذي لم يحاسب عليه من قبل في أكثر من واقعة تعود إلى قبل عقد تقريبًا.
كما أن الأجهزة الأمنية التي ذكرت في هذه الشهادة لديها سجل في قضايا تعذيب مماثلة كجهاز الأمن الوطني الذي يترأسه محمود شعرواي الذي تورط جهازه بالدلائل في العديد من قضايا التعذيب والقتل، وهو ما رواه أحد التحقيقات المنشورة على نون بوست عن جهاز أمن الدولة أو الأمن الوطني، بما يُشير إلى ترجيح سيناريو تورط أجهزة أمنية وسيادية مصرية لها وزنها داخل النظام في مسألة قتل الطالب الإيطالي، وهو ما قد يفسر التهرب المصري من كشف الحقيقة الكاملة أمام الجانب الإيطالي.