زيادة على الأزمات الأمنية والسياسية والتشريعية التي تمر بها أوروبا عمومًا، وفرنسا خصوصًا، ظهرت للسطح مؤخرًا مشكلة اجتماعية وعمالية جديدة بخصوص الترتيبات الجديدة لقانون العمل التي تبنتها الحكومة الفرنسية ووزارة العمل، أو ما يسمى في الأوساط الاجتماعية والعمالية بأزمة “قانون العمل”.
أشعل “قانون العمل” الجديد أو “قانون الخمري” (نسبة إلى مريام الخمري وزيرة العمل) النقابات العمالية وتلاميذ الثانويات وكثير من أطياف المجتمع المدني، وخرج كل هؤلاء في مظاهرات حاشدة في عدة مدن فرنسية، في مناظر تشبه وتكاد تتطابق مع تلك التي كنا نراها في شوارع بعض الدول العربية مع بداية ما سمي بالربيع العربي.. فالسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل تعيش فرنسا ربيعًا عربيًا؟
تتمثل أبرز بنود الخلاف في هذا الربيع الفرنسي بين الحكومة والنقابات العمالية في النقاط التالية:
*السماح بطرد العمال مع تحديد سقف التعويضات للعمال من طرف الحكومة وليس من طرف القضاء كما كان معمول به سابقًا.
*الطرد لأسباب اقتصادية في حال وجود أزمات اقتصادية لأرباب العمل.
* تحديد ساعات العمل في الشركات الصغيرة (التي لا تتعدى الخمسين عاملاً) بين أرباب العمل والعمال، وعدم التقيد بالـ 35 ساعة أسبوعيًا المنصوص عليها في قانون العمل في فرنسا، ويمكن لساعات العمل أن تصل إلى حدود 60 ساعة في الأسبوع مقابل زيادة بسيطة في المرتبات.
وإن أردنا عقد مقارنة بسيطة بين أحداث فرنسا الحالية وأحداث الربيع العربي التي سبقتها، سنجد أن الصور بين الحدثين تكاد تكون متشابهة بصورة غير طبيعية.
* اهتمام الإعلام الفرنسي بالأحداث، فهو يغطي الأحداث بدون كلل ولا ملل.
* متظاهرون يخرجون كل يوم بأعداد غفيرة في كل التراب الفرنسي صباحًا ومساءً وبعضهم أصبح ينام في الطرقات ليلًا.
* وجود إضرابات عمالية وطلابية بالجملة في كل التراب الفرنسي.
* توقف الكثير من القطاعات والمؤسسات الحكومية عن العمل بسبب شلل حركة المواصلات ووسائل النقل (القطارات، الباصات، والسيارات) عن العمل بسبب الأحداث، حيث تم غلق الكثير من الطرقات وسكك الحديد من طرف المتظاهرين، وأيضًا توقف العديد من الموظفين في هذه القطاعات عن العمل، وأبلغ ما يؤكد على ذلك هو تصريح لرئيس جمعية سائقي أجرة فرنسا الذي قال “على الحكومة الفرنسية انتظار بطولة أوروبا لسائقي الأجرة وليس بطولة أوروبا لكرة القدم”.
* أجهزة الدولة الأمنية تواجه المتظاهرين بشدة وبقساوة بخراطيم المياه والعصي والهراوات.
* ظهور الصور والفيديوهات المؤثرة التي تزيد من الغليان، كالفيديو الذي يظهر شرطيًا يضرب أحد تلاميذ الثانويات، هذا الفيديو أشعل مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام في فرنسا، وتأثيره في المجتمع الفرنسي لا نبالغ إن قلنا أنه متشابه إلى حد كبير مع ما فعله تأثير حرق “البوعزيزي” لنفسه بعد أن أهانته شرطية في المجتمع التونسي.
* طبقة سياسية تواجه الأحداث بتقديم المزيد من التنازلات يومًا بعد يوم.
هذه الشرارات الصغيرة التي ذكرنها سالفًا هي التي أشعلت الشارع الفرنسي، إلا أن الأسباب الحقيقية وراء هذه الاحتجاجات الشعبية أعمق من ذلك، وتكمن في ضعف فرنسي كبير سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا يمكن تلخيصه بما يلي:
على الصعيد الأمني، تواجه فرنسا خطر تنظيم الدولة (داعش) المتزايد داخل فرنسا وتحاول مواجهته من الناحيتين الأمنية والإيديولوجية؛ وعلى الصعيد السياسي: في الداخل، هناك صراع كبير بين مختلف التيارات السياسية في فرنسا، وفي الخارج، تواجه فرنسا عدة عداوات بسبب سياساتها المتبعة في الشرق الأوسط وإفريقيا وغيرهما، وعلى الصعيد الاجتماعي، شكل “قانون العمل” القطرة التي أفاضت الكأس الذي كان مملوءً بمشاكل الضمانات الاجتماعية والنقابات العمالية والمشاكل المدنية والبيئية، وعلى الصعيد التشريعي، شكل “قانون سحب الجنسية” المثير للجدل اعتراض كبير من بعض أطياف المجتمع المدني وحتى من بعض أعضاء الحكومة كوزيرة العدل السابقة “تاوبيرا” التي استقالت احتجاجًا على ذلك، ما أدى إلى إلغائه لاحقًا.
وبعد هذا، أصبح أفضل ما يمكن أن يلخص كل هذه المشاكل وهذه الوضعية الصعبة التي تواجهها فرنسا اليوم هو أن فرنسا تعيش ربيعها لكن بوتيرة أخرى قد تكون أهدأ قليلًا وأبطأ، لأن ظروفها الاجتماعية وتقاليدها التنظيمية وتركيبتها السياسية مختلفة عن الدول العربية، ومع ذلك يبقى الربيع ربيعًا ولو اختلفت النكهة والوتيرة.