أًضرم لهيب ثورات الربيع العربي في السابع عشر من ديسمبر 2010، عقب قيام الشاب التونسي “محمد البوعزيزي” بإشعال النيران بنفسه منتحرًا، لأنه سئم ضنك وضعه الاجتماعي المتردي وسياسة القمع السلطوية وانسداد الأفق المستقبلي وانتشار الركود الاقتصادي، تلك العناصر التي كانت تشكل معاناة جميع المجتمعات العربية.
ساند أهالي سيدي بوزيد، مسقط رأس البوعزيزي، ابنهم محمد وانطلقوا في مظاهرات عارمة مطالبة بالحرية والعدالة، وسرعان ما تحول اللهيب الخافت لهذه المظاهرات إلى ثورة ضخمة أطاحت بالرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وامتدت شرارتها في جميع أوزاع منطقة الوطن العربي.
بعد تكلل ثورة تونس التي سميت باسم ثورة الأحرار التونسية بالنجاح في إرغام زين العابدين بن علي على الرحيل في الرابع عشر من يناير، شكلت حافز لانطلاق ثورات وحركات احتجاجية مشابهة في الدول العربية الأخرى، وعصفت نيرانها على الدول العربية المجاورة، فانطلقت ثورة الغضب في الخامس والعشرين من يناير عام 2011 بمصر، وفي الحادي عشر من فبراير في اليمن، وفي السابع عشر من فبراير في ليبيا، ومن ثم المغرب والجزائر وبعض بلدان الخليج وغيرها، وفي الثامن عشر من مارس انطلقت الثورة السورية التي يمكن عدها آخر ثورات الربيع العربي.
خرجت ثورات الربيع العربي بمطالب شعبية طبيعية يحق لكافة شعوب الأرض المطالبة بها، وهي الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، ولكن تآمر جهات إقليمية ودولية عدة عليها حال دون وصولها إلى أهدافها المنشودة.
بدأت عمليات صد ثورات الربيع العربي عن مسارها الحقيقي بتخاذل الغرب وتردد الدول الإقليمية المؤيدة للثورات عن دعم الثورة السورية والوقوف بشكل حقيقي في وجه جرائم الأسد الذي تلقى دعم وفير من الدول “التوسعية”، مثل روسيا وإيران، ذات الأهداف الجيو سياسية.
هذا التخاذل وهذا التردد تسببا في حل العزائم وفتر الهمم لدى الشعوب الثائرة التي أصبحت تهاب الانتفاض ضد الظلم خوفًا من مواجهة حالة شبيهة بتلك السورية، وقدم فرصة للأنظمة العربية المتسلطة المعروفة بعنيها، للانقضاض عليها وإعادتها إلى قفص الذل والهوان والطاعة.
العنصران اللذان ساهما في تقويض ثورات الربيع العربي بشكل أساسي هما؛
ـ بعض الدول الغربية: يتشدق الغرب ليل نهار بالديمقراطية والحرية ويتفنن في استحقار الشعوب العربية لعدم تطبيقها هذه الأسس، ولكن عندما انتفضت شعوب الوطن العربي بشكل فعلي، رأى الداعي للديمقراطية أن تحرر هذه الشعوب من الديكتاتورية ودخولها لعالم الحكم الديمقراطي سينهي على هيمنته السياسية على المنطقة ونهبه الاقتصادي لخيرات الشعوب، فشرع ببذل جهود حثيثة للقضاء على هذه الثورات وحرف مسارها عن النصاب الذي انطلقت من أجله.
ـ طيف من الدول الملكية: تتمتع بعض الدول الملكية في الشرق الأوسط بصلاحيات سلطوية مطلقة تمنح شخص واحد التحكم بمصير الشعب كله، ولتخدير الشعوب أو إلهائها يفتح هذا الشخص ملهى ليلي نهاري يطلق عليه البرلمان ويُجري انتخابات هزلية تؤهل المقربين له أو بني باطنته للفوز به، وعند صدور أي خطأ تكتيكي أو استراتيجي عنه، يوظف أبواق إعلامه لإلصاق الخبر بشماعة عادة ما تكون هي الحكومة، اهتز هذا النظام الهزل من زلزال الثورات الربيع العربي وأصبح أربابه يرتجفون رعبًا من فقدان ما يتمتعون به من سلطة ودكتاتورية، لذا على الفور اجتمعوا بشكل مكثف لتسطير الخطط التي تهدم ثورات العدل وتقضي عليها، وهذا ما حدث فعلاً عندما دعمت دول الخليج، خاصة الإمارات العربية المتحدة، الانقلابي المصري عبد الفتاح السيسي والآخر الليبي خليفة حفتر، كما أن دعم السعودية بقيادة الخرف عبد الله ساهم بشكل كبير في إسقاط اليمن في أيدي الصعاليك، واليوم تدفع هذه الدول فاتورة ما اقترفت من خطوات غير محسوبة على المدى الطويل في اليمن.
وفي هذا المقام، لا يمكن التغافل عن الخطأ الفادح الذي ارتكبته النخب والشعوب الثائرة، عندما ظنت أن الثورات انتهت بتغيّر رؤوس الحكم، وغفلت الدولة العميقة المتغلغلة داخل أذرع الدولة.
أخطأت الشعوب الثائرة عندما ظنت أن الثورات انتهت بمباركة بعض الدول الغربية، ولم تع أن هذه المباركة غير صادقة، وأن هذه الدول لن تسمح إطلاقًا لمنطقة الشرق الأوسط أن تقوم قائمتها، ولم تأخذ النخب والشعوب الثائرة حذرها القوي أمام المؤامرات الغربية.
أخطأت الشعوب الثائرة عندما ظنت أن ارتكاب الأنظمة المستبدة الجرائم سيحرك الجيوش العالمية الجرارة، ونسيت أن جيوش الدول العظمي لا تحركها إلا المصالح، وأن الجلد لا يحكه إلا الظفر.
أخطأت الشعوب الثائرة عندما ابتعدت عن سياسة النفس الطويل في إطار تحدي المؤامرات الجائرة، حيث لم تتعمق الشعوب الثائرة في تاريخ الثورات الغابرة التي استمرت لسنوات طوال مثل الثورة الفرنسية التي استمرت لأكثر من خمسين عام والثورة الأوكرانية التي اندلعت عام 2004 وجنت ثمارها عام 2013.
جني الثمار لا يتحقق إلا بالجد والصبر والمثابرة والنفس الطويل، وأمثلة الثورات التي تمتعت بالنفس الطويل وفي نهاية المطاف قطفت ثمارها ماثلاً أمامنا، لهذا إن أرادت الشعوب الثائرة المجد والكرامة فلا بد لها من سهر الليالي والعمل الجاد.