خلال العقد الماضي، كانت البرازيل هي حديث الساعة بين الكثيرين من المهتمين بالسياسة الدولية والاقتصاد العالمي، لا سيما مع طفرتها الاقتصادية التي تمت تحت رئاسة لولا دا سيلفا، المدفوعة جزئيًا باكتشاف حقول نفط هي الأكبر في أمريكا اللاتينية، وخروج الكثيرين فيها من قبضة الفقر بفضل برامجه الاجتماعية في الداخل، وهو ما دفع مجلة الإيكونوميست للتنبؤ بأن تكون البرازيل من أكبر خمسة اقتصادات في العالم بحلول 2025، كما دفع الفيفا واللجنة الأولمبية الدولية لمنحها تنظيم كأس العالم عام 2014، والأولمبياد هذا العام، في تتويج لم يحلم به أي بلد نامي.
الآن تبدو الصورة مختلفة قليلًا في البرازيل، فقد ظهر الرئيس السابق لولا مؤخرًا في نشرات الأخبار وهو تحت تحفّظ الشرطة نتيجة اتهامه بالضلوع في قضية فساد كبيرة تضم شركة النفط البرازيلية الأكبر بِتروبراس، كما تجري محاولات لإقصاء خليفته الرئيسة ديلما روزيف عن منصبها من جانب البرلمان ومن خلفه القضاء، وهو ما يبدو للوهلة الأولى وكأنه يزيح الهالة المقدسة عن حزب العمال الحاكم منذ أكثر من عقد، وعن لولا صاحب الشعبية الجارفة وسجل النشاط السياسي الطويل، بيد أن نظرة أعمق لما يجري داخل أروقة الدولة البرازيلية تشي لنا بشيء آخر.
لماذا تعثرت ديلما: النفط
في عام 2007، اكتشفت البرازيل حقل نفط باحتياطي هائل قبالة سواحلها الأطلنطية، ونجحت خلال عام في استخراج ما يتجاوز 50 مليون برميل من النفط والغاز الطبيعي، وهو ما أعطى دفعة كبيرة لاقتصادها النامي بقوة أصلًا، وقد كانت شركة بِتروبراس المملوكة للدولة تتمتع باحتكار عملية الكشف عن النفط في البرازيل منذ تأسيسها عام 1953، إلا أن المجال الصغير أنذاك انفتح أمام شركة رويال داتش شِل عام 1997، قبل أن تبدأ شركات كبرى مثل شِفرون وشِل وإكسون موبِل في إبداء الرغبة بالحصول على نصيب من كعكة النفط البرازيلي.
خلال نفس العام، قام الرئيس لولا بإعادة احتكار بِتروبراس للنفط البرازيلي، ليتم تمرير قوانين من أجل ذلك برعاية ديلما روزيف رئيسة الوزراء، والتي أعطت الشركة حقوقًا كاملة، مقابل اتجاه معظم أرباحها للدولة، والتي مولت بها برامجها التعليمية والصحية، علاوة على أن الشركة بدأت في التعاون مع شركات نفط أخرى مملوكة للدولة من بلدان أخرى بعيدًا عن الشركات الغربية الكبرى، مثل شركة بهارت الهندية وشركة ONGC الصينية.
لم يمر وقت طويل حتى بدأت وكالة المعلومات التابعة لوزارة الطاقة الأمريكية الضغط على المسؤولين البرازيليين لصالح الشركات الأمريكية، وهو ما نجده بوضوح في تسريبات ويكيليكس عام 2010، إذ أن تواجد الصين الاقتصادي القوى في أمريكا اللاتينية، والذي يفوق الآن التواجد الأمريكي في البرازيل تحديدًا، يعتبر تهديدًا للمصالح الأمريكية في القارتين المتجاورتين، حيث تفضل واشنطن اقتراب الجنوب منها لإحداث اتساق في موقف الدول “الأمريكية” المطُلة على البحر الهادي، وتباعًا احتواء النفوذ الصيني هناك.
تُظهر وثائق ويكيليكس في هذا الصدد انحياز الولايات المتحدة لصالح عمدة مدينة ساوباولو سابقًا، خوسيه سيرّا، وهو المرشح الرئاسي ضد ديلما روزيف بعد نهاية رئاسة لولا، والذي كان حزبه الديمقراطي الاجتماعي مؤيدًا لخصخصة بِتروبراس، أما وقد خسر أمامها كما نعرف، فإن اتجاه لولا استمر تحت رئاستها، حيث دخلت شركة صينية أخرى هي سينوبِك إلى عالم النفط البرازيلي، ليزداد الموقف الأمريكي عنفًا تجاه البرازيل، كما يقول دبلوماسي برازيلي رفيع، “بفشلهم في نيل عقود النفط، أصبحنا في نظرهم أشرارًا مثل فنزويلا، وبدأت حملة تحت الطاولة لتشويهنا، والمشكلة الوحيدة التي نسيناها نحن كانت الاعتماد بشكل مُفرط على موقفنا القوي داخليًا دون إدراك ما يمكن أن يحدث حال انخفضت أسعار النفط، وهو أمر لم يكن متوقعًا أنذاك.”
انخفضت أسعار النفط بقوة بالفعل كما رأينا في السنوات الماضية، وتأثرت بالتبعية برامج الرفاهة التي تشرف عليها ديلما، كما تباطأ النمو البرازيلي، بل وعانى الاقتصاد مؤخرًا من الانكماش بنسبة ضئيلة، وهو ما تزامن مع مزيد من التوتر في العلاقات الأمريكية البرازيلية نتيجة تسريبات وكالة الأمن القومي الأمريكية، والتي اتضح منها تجسس الأمريكيين على هاتف ديلما، وهو توتر تصاعدت معه حملة التشوية في أوساط العاملين بالنفط في الغرب ضد شركة بتروبراس، لتنفتح أبواب حرب ضدها بالفعل عام 2014 وضد مشروع لولا بأكمله.
اليمين البرازيلي: تحالف القضاء والإعلام
ديلما كما صورتها التظاهرات المعارضة: ممثلة للشر الشيوعي تمامًا مثل كوبا، مع وشاح يطالب بعزلها
قبل عامين، ظهر شخص يُدعى ألبرتو يوسف، وهو متهم سابق بغسيل الأموال، في منابر الإعلام البرازيلية منددًا بفساد مسؤولين كبار تلقوا رشاوي وشاركوا في غسيل الأموال تحت مظلة شركة بتروبراس، واستلم القاضي البرازيلي سرجيو مورو طرف الخيط منه ليبدأ في استدعاء كبار العاملين ومسؤولي النفط في البرازيل، بل وقياديي حزب العمال الحاكم، في عملية سُميت بـ”غسيل السيارة،” والتي أرسل مورو بمقتضاها كثيرين للسجن، حتى وصل إلى لولا نفسه ليتهمه بالمشاركة في فساد الشركة، ومن ثم يأمر الشرطة بالقبض عليه في مارس 2016، والتحقيق معه لخمس ساعات قبل إطلاق سراحه.
حتى الآن، لا تزال غالبية الكوادر السياسية الضالعة في قضية الفساد تلك من خارج الحزب، ولم يتوثق القضاء البرازيلي بعد بالكامل من ضلوع لولا أو ديلما بشخصيهما بالفعل، بل ويبدو أن أحد الضالعين في قضية الفساد هو نائب دليما نفسه والمنتمي لحزب آخر يميني، والذي ترك منصبه وبدأ في الحديث عن إقصائها وتوليه الرئاسة بدلًا منها، وكذلك رئيس البرلمان إدواردو كونيا المعارض لها والراغب في عزلها، وهو ما جرى بالتزامن مع شن الإعلام البرازيلي، والمملوك بـ60% لشركة جلوبو ذات المواقف اليمينية والتي نشأت في سنوات الحكم العسكري، لحملة عنيفة ضد ديلما مطالبًا الجماهير بشكل مباشر بالنزول للتظاهر ضد “الفساد” وترديد نفس نغمة إقصاء ديلما دون انتظار نهاية مدتها.
لم يمر اعتقال لولا بالطبع مرور الكرام على أنصاره، والذين نزلوا بشعار “لن نسمح بانقلاب” إلى الشوارع، في مواجهة المظاهرات “المنددة للفساد” كما سميت، لتشتعل مواجهات بينهما بالفعل، وتبدأ نُذر الأزمة السياسية التي لا تزال تعيشها البرازيل حتى تلك اللحظة، متجاوزة تمامًا قضية الفساد المذكورة، والتي لم يثبت حتى الآن ضلوع لولا أو ديلما فيها، وثبت في نفس الوقت ضلوع شخصيات من أحزاب يمينية لم يمسهم القضاء إلى يومنا هذا، علاوة على أن ملف بتروبراس ليس الملف الأكثر فسادًا داخل الدولة البرازيلية التي تتواجد فيها ولا تزال تحالفات مشبوهة بين رجال القضاء والإعلام وشركات في مجالات مختلفة وأقطاب الأحزاب البرازيلية اليمينية.
أشعل القضاء الأزمة على أي حال وحقق منها ما يريد، وازداد موقف دليما ضعفًا، والتي انخفضت شعبيتها أصلًا بين أنصارها سابقًا نتيجة تأثر برامج الرفاهة المقدمة لهم، حتى قرر لولا المُلتزم بترك الساحة السياسية بعد نهاية ولايتيه بأن يُلقي بثقله في المشهد، فبعد خروجه من مقر الشرطة مباشرة، اتجه لولا لتظاهرات أنصاره، ودفعه الغضب لإعلان مواقف وقرارات سياسية جديدة ضاربة عرض الحائط مطالب المعسكر المواجه له، “إنني أستحق احترامًا أكثر من ذلك في هذا البلد، وإن كنت أمل أن تختاروا أنتم بأنفسكم شخصًا ليخوض انتخابات الرئاسة في 2018، فعلى ما يبدو أنهم قد استفزوني كما يُستفز الكلب بالعصا، ولذا فأنا أعلن نفسي مرشحًا من جديد في 2018!”
البرازيل القديمة والجديدة وجهًا لوجه
لولا مع أنصاره
تبنى الحزب بكامله ذلك الموقف الأكثر عندًا بوجه عملية “غسيل السيارة،” لتقوم دليما روزيف بتعيين لولا رئيسًا للوزراء بعد أيام من التحقيق معه، وهو ما يمنع بالطبع مثوله أمام القضاء العادي وضرورة استدعائه من قبل المحكمة العليا، في خطوة لحماية حكومتها من “الانقلاب” كما يقول معظم أنصارها، وتدعيم أركان “فسادها” كما يقول المعسكر المضاد، وفي وجه ثبات حزب العمال على موقفه، قام مورو من موقعه في القضاء بتسريب محادثة هاتفية بينهما لمنابر جلوبو الإعلامية، لتمتلئ الصحف البرازيلية اليوم التالي بتفاصيل المحادثة التي اتفقا من خلالها على منحه منصبًا حكوميًا بوجه الأزمة الجارية، وهو تسريب رفع علامات استفهام كثيرة على مورو وقانونية ما قام به، بل ودفع أنصار لولا لتشبيهه بتجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية على ديلما.
مرة أخرى، تجاوزت الأجواء السياسية التفاصيل القانونية كما أراد مورو، وأدى تصاعد التوتر مع الحملة الإعلامية العنيفة ضد المكالمة من جانب جلوبو، والتظاهرات المعارضة لديلما، إلى قيام القضاء بوقف تعيين لولا كرئيس للوزراء، حيث احتشد مليون ونصف تقريبًا مرتدين قميص المنتخب البرازيلي ضد “الفساد” فيما بدا أنه “إرادة شعبية،” غير أن الاستطلاعات التي أجريت بعد ذلك، وفي بلد يتجاوز مائتي مليون، أثبتت تمثيل البيض لحوالي 80% من التظاهرات رُغم عدم تجاوزهم في البرازيل لـ50%، كما مثل أصحاب الشهادات العليا 77% رُغم عدم تجاوزهم لـ11% من المجتمع، في تعبير صريح عن شريحة محددة من الطبقة الوسطى العليا.
لطالما ارتبطت مصالح الطبقة الوسطى العُليا حتى العام 1985 بالنظم العسكرية ومن بعدها أحزاب اليمين التي ورثت شبكاتها الإعلامية والقضائية والاقتصادية، واتسمت برفض برامج رفاهة لولا لصالح الطبقات الأفقر وذات اللون الداكن، والذين قفز منهم 40 مليون في عهد لولا من خط الفقر إلى الطبقة الوسطى الدُنيا بفعل وضع حد أدنى للرواتب ومعاشات أكبر، بشكل لم يعد يتيح للطبقات الوسطى سهولة اقتناء الخادمات والسائقين وغيرها من وظائف بأسعار زهيدة، وبالتالي خلق نوعًا من الاحتقان بينهم ونظرائهم في السوق ممن منحتهم رئاسة لولا مظلة قوية لحقوقهم الاجتماعية ونموهم الاقتصادي.
علاوة على ذلك يأتي موضوع الانقسام بين البيض والسود والذي يشكل مسألة ثقافية هامة وحساسة في البرازيل، فأغلب الفقراء هم من أصحاب البشرة الداكنة، وهم يدخلون لأول مرة في السنوات الأخيرة إلى الجامعات والمناصب الحكومية بفعل كوتا وضعتها الحكومة لهم، كما أن نمو رواتبهم يتيح لهم الظهور اجتماعيًا مؤخرًا، بدءًا من ارتياد مراكز التسوق والسفر خارج البرازيل وحتى شراء بيوت في أحياء بيضاء بالكامل سابقًا، وهو تحول اجتماعي حدث في وقت قصير أثناء رئاسة لولا ويُعزى بالأساس لأموال بتروبراس التي يكرهها قدماء الطبقة الوسطى، ومن هنا يأتي تأييدهم القوي لخصخصتها من جانب أحزاب اليمين، وتركيز القضاء على تشويه الشركة بقدر عزل دليما وضرب لولا، بالتزامن بالطبع مع اتساق ذلك ومصالح لوبيهات شركات النفط الغربية في البرازيل، ولا يدلل على ذلك أكثر من اشتعال “المعارضة” عادة في أحياء الطبقات الراقية البرازيلية بعيدًا عن المدن الفقيرة ومعاقل السود، لكن صحف جلوبو بالطبع تشير لها دومًا بـ”انتفاضة البرازيليين ضد الفساد.”
ماذا بعد؟
الآن، وبإعلان لولا ترشحه لـ2018، وبالنظر لإدراك الكثيرين في القضاء وفي إمبراطورية جلوبو أن الصندوق قد يميل لصالحه حين يُفتح بالتساوي أمام مائتي مليون برازيلي، بعيدًا عن كاميرات جلوبو وقضايا مورو، فإن الهدف الرئيسي للقائمين على عملية الانقلاب القضائي الإعلامي في البرازيل الآن هو إلقاء العقبات بما يكفي لمنح ترشحه، حتى لو استمرت ديلما إلى 2018، وهو ما تشي به عناوين جلوبو مؤخرًا والتي كان أحدها، “لماذا لن يكفي عزل دليما روزيف؟”
في 18 مارس، وبعد منعه من رئاسة الوزراء من جانب القضاء، احتشد مئات الآلاف في مدن برازيلية عديدة، وظهر لولا دا سيلفا بنفسه في ساوباولو بين أنصاره مرتديًا قميصًا أحمرًا، وهو اللون الأساسي لحزب العمال، في تأكيد حضوره داخل المشهد السياسي بوجه القضاء، وتحدث عن رفضه للانقلاب الجاري وتقويض الديمقراطية البرازيلية، وهي ديمقراطية تتغير طبيعتها نتيجة التحولات الاجتماعية الكبيرة التي شهدتها البرازيل منذ دخوله للسلطة عام 2003، هي تحولات لا تعجب كثيرين على الأرجح في الداخل والخارج، وتهدد بحصر اليمين للأبد في مربع الأقلية البرلمانية، مما يدفعهم لمعركة النفس الأخير من أجل الهيمنة في البرازيل عبر الإعلام والقضاء الذي لا تزال سطوتهم واضحة فيه وإن خرج العسكر من المشهد، علاوة على تحالفات تجري على قدم وساق في ظل الأزمة لكسر قوانين احتكار بتروبراس في ظل هبوط أسعار النفط والشعبية الضعيفة لدليما قبل أن تتبدل الموازين السياسية ويعود النفط لأسعاره الطبيعية، وهو ما دفع السياسي اليميني سيرّا لتشكيل تحالف داخل البرلمان لإلغاء قانون لولا السابق باحتكار بتروبراس لنفط البرازيل، بالتزامن مع توافد شركات غربية للضغط على الحكومة للرضوخ لها الآن.
عامان يفصلانا عن 2018، ويفصلانا عن معرفة المنتصر في هذه المعركة من أجل البرازيل الجديدة، وهي معركة لا يبدو أن حزب العمال سيستطيع خوضها بدون لولا، فإما أن يمر منها لولا عام 2018، ويرسخ أركان البرازيل الجديدة التي بدأها عام 2003، وإما سيخرج مهزومًا مع ديمقراطية البرازيل لصالح اليمين القديم ولوبيهات النفط الغربية وجلوبو والقضاء الحالي، وبالنظر لكونه هو الشخص الذي أعلن إلغاء حق الرئيس البرازيلي في تعيين النائب العام بعد توليه الرئاسة، مما أعطى القضاء استقلالية تامة دون إدراك انتماء القضاء على الأرض لشبكات اليمين القديمة، فإن لولا 2018 إن نجح في العبور سيكون لولا آخر غير لولا المثالي الذي التزم بفترتين فقط وعزز استقلال القضاء بنفسه وترك إعلام جلوبو من أجل حرية الرأي، بعد أن رأى بنفسه قدرة كل هؤلاء على خلق انقلاب ناعم على الديمقراطية.
المصادر: تايمز أوف إنديا، ذا واير