اهتزّ العالم ولم يقعد على وقع ما سُمّي “وثائق بنما” (panama papers)، هذه الوثائق التي سُرقَت منذ عام من مكتب المحامات “Mossack Fonseca” الموجود بدولة بنما الواقعة في جنوب أمريكا اللاتينيّة والمتخصص في قبول الأموال المهرّبة من جميع أنحاء العالم وفي إيجاد صيغٍ لتبييض الأموال والاستثمار غير المشروع لفائدة أصحاب الأموال المنهوبة مع إيجاد صيغ للتهرب الجبائي.
أسماء معروفة كثيرة ظهرت على ظهر هذه الوثائق أهمّها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” والرئيس المصري المخلوع “حسني مبارك” ورئيس ما تبقى من سوريا “بشّار الأسد” وغيرها من الأسماء التي يُشار إليها بالبنان والمعروفة برسوخها في الظلم والقهر ونهب أموال الغير بغير وجه حقّ.
هذه الوثائق سُلّمت للمنظمة العالمية للصحفيين الاستقصائيين التي اختارت تسليم كل وثيقة تخصّ دولة معيّنة إلى صحافيّ موثوق بالنسبة لها، وسلّمت فيما سلّمت وثائق تخصّ مراسلات لعدد من رجال الأعمال والسياسة والإعلام في تونس الى مكتب “فونسيكا” بيد الصحافي المنخرط في المنظّمة السيّد “وليد الماجري” رئيس تحرير موقع إنكيفادا (inkyfada) الإستقصائي في نسخته العربيّة.
جُلّ التونسيين انتظروا على أحرّ من المرجل لائحة أسماء المورّطين في “قضيّة بنما”، رغم استشرافنا لبعض الأسماء التي من المرجّح أن تُذكر لأسباب ليس هذا المجال مجالها، وقد قالت الأخبار المسرّبة إنّ عدد الشخصيات المورّطة هو بين العشرين والأربعين شخصا كما تُثبت الثماني آلاف وثيقة التي حصلت عليها المنظمة والتي تخصّ تونس تحديدا.
وأعلن “وليد الماجري” يوم الإثنين الماضي في عديد الإذاعات التونسية المحليّة أن أولى الأسماء المذكورة في الوثائق سيُعلَنُ عنها مساءً (أي مساء الإثنين) وانتظر الجميع نصيب تونس من “العاصفة” كما أسماها “إدوارد سنودن” ليظهر على رأس القائمة دُهقَان الثورة المضادّة للثورة التونسيّة -كما يحلو للبعض تسميته- السيّد محسن مرزوق “صاحب” حزب “حركة مشروع تونس” وشعاره “المفتاح”.
إستشرى الخبر بين مستخدمي مواقع التواصل الإجتماعي بشكل منقطع النّظير في غضون ثوانٍ، وبدأت وسائل الإعلام العموميّة والخاصّة تتناقل الخبر وتنشره للعموم، ليجد موقع inkyfada حملة شرسة من هجومات القراصنة الذين عملوا بشكل حثيث على إغلاقه في مناسبة، وعلى نشر أسماء لشخصيات وطنية معروفة في مناسبة أخرى، كان أهمها إسم الرئيس السابق للجمهورية التونسية السيد “المنصف المرزوقي”.
ونشر الموقع الإستقصائي مساء الاثنين مراسلات البريد الالكتروني بين محسن مرزوق و مكتب المحاماة “Mossack Fonseca” التي تمّت أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية أواخر سنة 2014 والتي قام فيها بالاتصال بمكتب المحاماة “فرانشيسكا” لطلب معلومات حول كيفية إحداث شركة offshore تحت اسم “MM Business”، ليتمكن من تحويل أموال واستثمارها في الخارج دون تتبعات ضريبية.
وطلب المكتب من مرزوق بعض المعلومات التي تهم حريفها الجديد وكيفية التعرف على هذا المكتب، فأكد لهم أنه مواطن تونسي يريد الدخول إلى عالم إدارة الأعمال الدولية ذاكرا أن مواطنا تونسيا يقيم بجنيف قدم له معلومات حول المكتب.
وقد قام المكتب بتوجيه مرزوق إلى محامٍ مكلف بتكوين شركات “الأوفشور”.
وتثبت الوثائق المسربة دائما حسب انكيفادا أن آخر رسالة الكترونية وُجّهت لمرزوق كانت في أبريل من سنة 2015.
رغم هذه الواقعة وما يحيط بها من دلائل لا تنفصم عراها، أنكر السيد مرزوق ما نُسِب إليه من اتهامات شكلا وفي المضمون، بل ذهب إلى حدّ التقرير برفع دعوى قضائيّة ضد موقع inkyfada واتهامه بنشر معلومات دون التثبت من صحّتها، في الوقت الذي رُفعت فيه دعاوى قضائية ضد اللاعب الارجنتيني المعروف “ليونال ميسي” والرئيس الروسي بوتين وغيرهما، وفي الوقت الذي انتظمت فيه مظاهرات حاشدة في أيسلاندا تطالب باستقالة رئيس الحكومة “ديفيد غونلوغسون” للاشتباه في تورطه في قضايا فساد كشفت عنها الوثائق المسرّبة.
رغم ما أنف ذكره من تفاصيل أثبتتها وثائق بنما بشأن السيّد مرزوق إلّا أنّ أنظار الرأي العام توجّهت نحو الرئيس السابق المنصف المرزوقي، وركّزت على ماهيّة الاتهامات التي وُجّهت اليه زورا مع أن هيئة تحرير موقع “انكيفادا” أكّدت في نفس الليلة أنه تمّت قرصنة الموقع وإيراد إسم المرزوقي فيه وشددت على أنها لم تنشر غير إسم محسن مرزوق، رغم كلّ هذا وجد مرزوق نفسه مرفوقا بدعم لوبيّات الإعلام في تونس التي مرّت على هذه الإتهامات مرور اللئام ولم تُقِم لها مأتما وعويلا كما فعلت مثلا أيّام اتهام السيّد رفيق بوشلاكة وزير الخارجيّة في عهد الترويكا في ما عُرف ب “sheraton gate”، هذا الاتهام الذي أحيل على أنظار القضاء بعد أن أكل من موائد الإعلام حتى سئمت منه أنفس التونسيين.
لم يعمل الإعلام التونسي -ونحن في اليوم الرابع بعد تسريبات الموقع- على إشاحة الوجه عن قضية محسن مرزوق فقط، بل لعلّه أعانه في رفع الإلتباس عنه، حيث بث الصّحافي “علي الماجري” على قناة “الحوار التونسي” مساء الثلاثاء تقريرا خلال برنامج “الإعلاميّة” مريم بلقاضي “24/7” جاء فيما جاء به أنّ الاتهامات الموجّهة ضدّ مرزوق لا تعدو أن تكون “جعجعة” لم نر من ورائها “طحينا”، تقرير لم يدم أكثر من دقيقة ونيف مرّت على إثره السيّدة “بلقاضي” إلى أخبار متفرّقة أخرى.
ألاعيب إعلاميّة نعلمها من قديم عزّزها خبر تداوله بعض المحدودين على موقع “الفايسبوك” مفاده أن الشرطة “أطاحت” بمواطن تونسي بحوزته “علبة غاز مشلّ للحركة” وهي من الأسلحة البيضاء التي عادة ما يُحكم على حاملها بالسّراح مع تعجيل التنفيذ.
ستتلقّف حادثة مرزوق “المثالب”، خاصّة منها مثالب النخبة الوطنيّة المعارضة الصّادقة في تونس، ولكنها -وهو الأهم- ستظلّ تذكّرنا بقول “بربروسا” (القائد البحري المسلم العظيم) القانون، (قوله القانون)،بربروسا الذي كان يرسو بسفنه على موانئ النصارى في عصر المسلمين الذهبي ثمّ يذهب إلى كبار القساوسة ويقول لهم بلكنة ملؤها الإنتفاش والخيلاء: “لا أحبّ أن تُدقّ أجراس كنائسكم مادمنا هنا، لا صوت يعلو فوق صوت سُفن الله”، وكان القساوسة يلبّون عن يدٍ وهم صاغرون حتى سمّي قول “الباش قبودان” الأسطول البحري العثماني آنذاك بالقول القانون.
كذلك هو حال “بربروسا تونس” السيّد مرزوق صاحب “المشروع” والقول القانون، الذي لا يردّه عليه أحد، ولا يفنّده أحد ولا يشجبه أحد، بل يذهب الجميع إلى “ضرورة” انتظار قول القضاء الفصل في القضيّة، وهو ما تمليه الأعراف “في أكثر الدول ديمقراطيّة”.
نعتقد أن محسن مرزوق عندما تكلّم عن “مشروع تونس” كان يقصد مشروع تونس بالخارج وتحديدا دولة بنما وهو بذلك يضرب كل العصافير بحجر واحد، لانّه يعلم توق التونسيين للهجرة والعيش في أي دولة في العالم إلا تونس، ونرى أنّ اختياره لشعار المفتاح إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ الرجل يعلم أنّ مشروعه إمّا سيفتح عليه أبواب جهنّم التي ستحرقه وإمّا ستغلق من ورائه أبواب البلاد إلى غير رجعة وذلك لعَمرنا من عزم الأمور والله أعلم.