ورد في موطأ الإمام مالك أن رسول الله – صلي الله عليه وسلم – سئل: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: نعم، أي لا يعيب المؤمن أن يمتلكه الخوف عن قول الحق مخافة الخسْف، وهكذا خلق الله الخلق، وقسم الأخلاق بينهم كما قسم الأرزاق، فمنهم شجاع وجبان، وكريم وبخيل، وعادل وظالم..إلخ، منهم من نافس سيد الشهداء حمزة في لقبه حين وقف لسلطان جائر فأمره ونهاه، حتى ولو أوْدى بالحياة، ومنهم من يخاف حتى من ظله وسواد ليله، والحقيقة أن كلا الفريقين هتف مطالبًا بالحرية والكرامة الانسانية، كٌلًا بطريقته، حين عم الظلم وكثر؛ الشجاع يهتف بأعلى صوته ويظهر نفسه لا يخاف أحدًا، وخائف البطش يخفي نَفْسَه ونَفَسَه، ويهتف بالكلمات نفْسها يجلجل بها صوته، يحاول أن يسْمع دون أن يراه أحد، يكتبها من وراء جدر أو من خلف الأبواب، أو يختصر الجمل الكبيرة بعبارات صغيرة تحمل المعنى والمبنى، يخطها أو يرسمها أو يثبتها على جدار بيته أو داخل غرفته، أو خارج سيارته، أو ينقشها داخل الحمامات العامة، وربما يكون هتاف صمته أبلغ وأبقى وأشد تأثيرًا.
وأرى كما أن للكلام فصاحته، فإن الصمت ربما يكون أفصح، وقد سئل الفيلسوف “كونفوسيوش” أريد أن ألقن الشعب الحرية، فقال: إذًا عليك أن تتقن اللغة، وللصمت لغة وطريقة في التعبير أبلغ أحيانًا، وقد قيل “رب سكوت أبلغ من الكلام”، ولما كان يوم أحد جاء أبو سفيان بن حرب فقال: أفيكم محمد؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لا تجيبوه.
وأوجد الربيع العربي ساحة كبيرة لنقل وترجمة هذه الهتافات الصامتة، والتي لم تكن أقل تأثيرًا من هتافات الحناجر وصيحات المنابر، فوجد الصامتون ضالتهم وهتفوا على طريقتهم وإن تاهوا في زحمة الميادين، إلا أن هتافهم ظل باقيًا وإن غابت أبدانهم، فمن يعرف أول من هتف “الشعب يريد إسقاط النظام” ومن كتب “ارحل” ومن قال “مش هنمشي… هو يمشي”؟! وتأمل الجداريات والعبارات المنقوشة، وصور الشهداء التي خلدت ذكراهم وعرفت بسيماهم، وكشفت عن وعي كبير بأحداث محيطهم، ومن ثم تركت تأثيرًا كبيرًا في الوعي الشعبي، كما وصلت هذه الهتافات الصامتة إلى أسماع جماهير غفيرة كانت بعيدة عن هتاف الصاخبين.
يقول محسن العتيقي في مجلة الدوحة: “إن الجدران، على هذا النحو، تتحول إلى مستوى آخر أكثر تأثيرًا في ميدان الصراع على القضايا العامة، وهي كذلك حاسمة ومحرضة بالكيفية التي تصير بها الجدران واجهات إعلامية محايدة، بقدر ما تعمل السلطة على احتوائها بالمحو والحراسة، بقدر ما يبدع المجتمع في احتوائها بسلطة الفن، وليس التطور الذي عرفته ظاهرة الكتابة على الجدران، بأساليب منظمة ومعبأة نضاليًا (الغرافيتي)، إلا صورة مقابلة لفشل السلطة في احتواء المجتمع ديموقراطيًا بالدرجة الأولى، واستمرارها في احتكار قنوات التعبير ومصادرة الآراء، وهو ما يجعل الأفراد والجماعات تسعى إلى اعتماد آليات بديلة تريد بها مناورة السلطة، وتطويق هيمنتها على إنتاج الرأي العام، وغالبًا ما تنطوي لعبة المناورة، فضلًا عن مضامين الرسومات والكتابات الجدارية، على إزعاج السلطة وإرباك منظومتها الرقابية، بالشكل الذي يجعل الجدران سندًا للاستنكار، وردود الأفعال تجاه السلطة ومرايا عاكسة للحقائق والمطالب”.
وقد أصبحت الكتابة على الجدران أسلوبًا مستحدثًا في تأريخ التحولات السياسية وما يرافقها من مطالب ونضالات شعبية، و في كل المجتمعات القائمة على القهر تنتشر عبارات التنديد من المرؤوسين بالرؤساء على الجدران السرية الآمنة كجدران دورات المياه، وعندما يفيض الكيل تنتشر الشعارات على الجدران المرئية.
وفن الرسم والنحت يقف صامتًا لكنه بليغ، هادئًا لكنه هادر، تقف أمامه متأملًا، فيجبرك على السكوت، كي تسمع هتافاته وتنصت لخطبه وكلماته وهو يصرخ فيك بألوانه وعباراته، فيكفيه أن تتقاطر ألوانه الحمراء، فتبكي أنت على الشهداء، أو يكتسي بالسواد فتلعن الظلمة من العباد.
ورأى الأديب الألماني “إنده” أن الفن أهم الساحات للتغلب على الواقع، وكان النبي – صلي الله عليه وسلم – قد سبق إلى إبداع الفن التجريدي الرمزي من خلال لوحة “حصار الأمل” وصفها لنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: “خط النبي صلى الله عليه وسلم خطًا مربعًا، وخط خطًا في الوسط خارجًا منه، وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به – أو قد أحاط به – وهذا الذي هو خارج: أمله، وهذه الخطط الصغار: الأعراض، فإن أخطأه هذا: نهشه هذا، و إن أخطأه هذا: نهشه هذا”.
ولوحات الفنان “يحي عبده” كانت ثائرة في معرضه “زهور وصخور” إبان ثورة يناير، فتكاد ترى وأنت تشاهدها الميادين، وتسمع هتافات الزهور بسقوط الصخور “يسقط يسقط حكم الصخر” حتى تشققت من هول هتافها ثم هوت ساقطة، وهي صامتة.
وأبدع الفنان البريطاني “بانسكي” بآلاف الصور الشعبية المعبرة عن معاناة الشعوب، ومنها معاناة الفلسطينيين، دون أن يفصح عن ذاته، وهتف تمثال “السجين السياسي” بلندن، للحرية وحقوق الإنسان، فكان أبلغ من ألف هتاف.
والمتاحف والمعارض مدرسة وحدها، تعمل دون ضجر ولا ملل وهي صامتة، ويتخرج منها آلاف الأحرار فتملئ هتافاتهم الميادين، وتهوي كلماتهم بالظالمين، ويقف متحف قطر للفن الإسلامي مدرسة كاملة.
والدموع، تلك المعاني “السائلة” ما هي إلا حقائق حيوية انهمرت من أعين الباكين، لها أثر بارز في التحريك والسيطرة أيضًا، والدمع عند إقبال يهب الإضافات الإيجابية والجمالية للحياة ومن محركات الحياة، وذلك في قوله: نشيد هذا الكون يبدو ناقصًا، مالم يتم الدمع ألحان النشيد”، كما جاء في مقدمات الوعي التطويري للراشد، وتأمل عبرات المعتقلة “إسراء الطويل” حين هزت الدنيا وحركت الحياة بصرخات وجعها بكاءً، فكان لانهمار الدمعات الصامتة جلجلة عظيمة الأثر، ومن ثم كان فكاكها.
والشعار والرمز وسيلة دفع قوية، صامتة لكنها معبرة، وكانت قديمًا تستخدم في الحروب، ومنها الآن علامة النصر، وقبضة اليد وهو رمز اتخذته حركات المعارضة في الثورات الملونة حول العالم، ويعني أن “القوة في يد الشعب”، وهل كان ولايزال أبلغ من شعار رابعة، الذي تخطى بدلالته دول واتخذته كل الشعوب الحرة رمزًا، ذلك الشعار الأصفر الذي يتوسطه أربعة أصابع للدلالة على مجزرة فض ميدان رابعة العدوية، حتى أقلق دولًا وأنظمة.
يقول محمد أحمد الراشد: “السيوف رموز، والأهلة والبدور والشموس، والعجلات والأشرعة والأمواج، والأقلام والقراطيس، واليد المكبلة أو القدم رمز، والسلاسل والقضبان، والأبواب والمجسمات الهندسية رموز، والحروف والأرقام والدائرة والمربع والمثلث، والأبيض رمز والأحمر رمز، والإبداع يستخرج ألف رمز، وللانحناء معنى، وللاستقامة والتوازي والتضاد، وللشذوذ عن الوضع المألوف معنى، ولتكبير الحجوم أو تصغيرها، وللجمع والتفريق، والأمام والوراء”.
ثم الفيس بوك، يقف أستاذ الصامتين المتكلمين، ورأس المحركين، الذي ملأ الدنيا ضجيجًا، وحرك مجتمعات، وأقلق دول، وهز كراسي، من ورائه اختبأت الجماهير الصامتة تهدر بقوة دون أن يراها أحد، فهدرت الملايين في الميادين، فكانت ثورة الخامس والعشرين من يناير ثم سقط مبارك.
ولا يزال الصامتون يهتفون، فتسْمع هتافاتهم، ويرى تأثيرهم، وإن لم ير مكانهم؛ أكانوا أفرادًا، أم فنًا، أو شعارات ورموز، أو كلمات وعبارات، أو حتى حكمة وعِبْرة أخذت من تساقط عَبْرة.