جاءت وثائق بنما التي كشفها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين والتي كان لتونس نصيب فيها، لتكشف عمق المرض الذي يضرب الإعلام التونسي وحجم الازدواجية التي يتعامل بها مع القضايا ومع الشخصيات السياسية، وليؤكد إعلام ما بعد الثورة مرة أخرى أن ما تعانيه تونس من مشاكل وأزمات كان للإعلام دور فيها.
وحتى يكون القارئ مدركًا لسبب تناولنا موضوع الإعلام التونسي مرة وراء الأخرى فإن السبب هذه المرة ما أظهرته وثائق بنما من مراسلات جرت بين شركة موساك فونسيكا المختصة في إنشاء الشركات الوهمية وتهريب الأموال وبين “دنجوان” السياسة في تونس محسن مرزوق، حيث طلب هذا الأخير في رسالته إلى الشركة بمعرفة الخطوات الممكن اتباعها لإنشاء شركة وهمية، مثيرًا بذلك العديد من الشبهات حول نفسه بالفساد والسعي إلى تهريب أموال غير معروفة المصدر إلى الخارج دون إثارة الانتباه عن طريق هذه الشركة سيئة السمعة.
وتجند الإعلام التونسي مثل بقية وسائل الإعلام في العالم للحديث حول وثائق بنما إلى أنه اختار أن يدرس الخبر من زاوية أخرى، ففي الوقت الذي ركزت فيه وسائل الإعلام التي تحترم نفسها ومتابعيها على تداعيات هذه الفضائح ودعت إلى محاسبة الأسماء المتورطة في هذه القضية وكشف حجم الكارثة التي تتسبب فيها هاته الجرائم الاقتصادية، عمدت وسائل الإعلام التونسية إلى التشكيك في صحة هذه الوثائق والعمل على الكشف عن المستفدين من نشرها متناسية الدور الأساسي لها ومتجاهلة المشكل الرئيسي وهو تورط سياسي كان في وقت ما الأمين العام للحزب الحاكم في تونس الآن، محاولة تغيير وجهة القضية من التشهير بكل من يتجرأ على سرقة البلاد ونهب أموالنا والحديث عن الفساد المستشري في السياسة إلى تهميش القضية والتشكيك فيما ورد في الوثائق ومحاولة معرفة المستفدين منها سياسيًا.
يبدو أن الإعلام التونسي والذي طالما كان محل شك واتهام قد أزاح عن نفسه هذه المرة آخر الأقنعة وأصبح مجاهرًا بمواقفه وأهدافه، فأكد مرة أخرى ولاءه لبعض السياسيين وعداءه لآخرين، وهنا يمكننا أن نأخذ مثالاً حول تعامل الإعلام التونسي بازدواجية مع قضايا الرأي العام؛ فمثلاً مع ما وصف في وقت من الأوقات بقضية “تسريبات أنونيموس” والتي اُتهم فيها الرئيس السابق للجمهورية التونسية المنصف المرزوقي في فترة الانتخابات الرئاسية الماضية بالتبذير في نفقات مؤسسة الرئاسة وأقيمت وقتها المحاكمات ووقفت كل وسائل الإعلام وقفة استنكار ودعوة للمحاسبة دون أن يتم إثبات صحة تلك الوثائق ولا حتى احترام توقيت نشرها عندما كان المرزوقي مترشحًا للانتخابات الرئاسية حينها.
لم يكن صعبًا على القنوات التونسية التي أصبحت معروفة بعدائها للثورة أن تجلب خيرة محلليها من أجل هدف واحد، وهو استعمال كامل خبراتهم في التزييف وتغيير الواقع وتشتيت تركيز المتتبعين عن القضية الرئيسية، فأقيمت البلاتوهات وتم استدعاء الضيوف على المقاس ونصبت المحاكمات لموقع “إنكيفادا” الاستقصائي الذي منحه الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين حق النفاذ وحق نشر وثائق بنما التي تخص الأسماء التونسية المتورطة في هذا الملف، حتى إن إحدى القنوات التونسية التي كان لها الانفراد في نشر تسريبات أنونيموس حول فساد الرئيس السابق المنصف المرزوقي والتي لم تحاول حتى مجرد التثبت من صحة تلك الوثائق وقتها، عمدت هذه المرة عندما أصبح محسن مرزوق في الواجهة إلى استعمال كل الطرق المؤدية إلى عدم تناول الموضوع الرئيسي، فكان الحديث مرة عن مصداقية هذه الوثائق وصحتها، ومرة أخرى عن المستفيدين سياسيًا من نشر هذه الوثائق، ومرة ثالثة عن تعرض هذا الموقع للاختراق ما يجعله غير قادر على أن يكون موقعًا محترفًا ولا أن يكون ما ينشره ذا مصداقية.
ولم تكن الازدواجية في الخطاب الذي اعتمده الإعلام التونسي فقط للتسويق وللسيطرة على الرأي العام والتحكم فيه، بل أنها تجاوزت ذلك لتسكن في عقول هؤلاء الإعلاميين حتى إن إحدى الصحفيات التونسيات التي تملك من الخبرة الكثير وتشغل خطة رئيسة تحرير في إحدى أكثر الصحف اليومية مبيعًا في تونس قالت بصريح العبارة أنها تشكك في وثائق بنما وأن لا مصداقية لها مادامت لم تتضمن أسماء من حركة النهضة في تونس، فبحسب تفكير هذه الصحفية والأستاذة الجامعية فإن كل تلك الوثائق وكل ذلك البحث على مدار سنة كاملة من أعتى الصحفيين الاستقصائيين في العالم لا قيمة له مادام لم يتضمن اتهامًا لأحد من حركة النهضة حتى يرتاح ضميرها وتقدر على الحديث حول تلك الوثائق وتحللها، والغريب أن هذه الصحفية عودتنا على طلاقة لسانها كلما كان الحديث عن الفساد وكلما ارتبط بأسماء من حركة النهضة أو باسم الرئيس السابق المنصف المرزوقي، ولعلها أدركت هذه المرة وأخفت ذلك أن كل تلك الوثائق مجرد مؤامرة بنمية للإطاحة بخصوم حركة النهضة وتدعيم صورة هذا الحزب في تونس.
ليس غريبًا أن تحمل الوثائق القادمة من أوراق بنما أسماء من حركة النهضة أو نداء تونس أو الجبهة الشعبية وأسماء من كل الأحزاب ورجال السياسة والإعلام لأن ذلك يبدو متوقعًا في ظل الغموض الكبير حول تمويلات هذه الأحزاب وعدم وضوح ممتلكات أصحابها وعدم تصريحهم بممتلكاتهم وذلك من خصائص كل السياسيين وأهل السياسة في تونس دون استثناء، إلا أن الغريب أن يعاني الإعلام التونسي إلى حدود اليوم وبعد 5 سنوات من الثورة من نفس ذلك الوهن ألا وهو “فوبيا من يختلفون معنا إيديولوجيًا”، ليكرس صحافيونا وإعلاميونا تلك الصورة القاتمة التي يحملها الشعب التونسي عنهم من كونهم مرضى بإيديولوجيات تتحكم في تناولهم للأخبار دون حرفية ولا مهنية ومن كونهم كذلك أصبحوا خدمًا عند بعض أهل السياسة الذين يغدقون عليهم بالأموال ليتحكموا في أرائهم ومواقفهم وليمارسوا علينا قدراتهم في الإرهاب الإعلامي وتوجيه الرأي العام.