ترجمة وتحرير نون بوست
في شركة هبسبوت (HubSpot)، شركة البرمجيات التي عملت ضمنها لمدة سنتين تقريبًا، عندما يتم طرد موظف من العمل، كانت تلك العملية تُسمى بـ”التخرج”، حيث كان يتم إرسال بريد إلكتروني مبهج لجميع طاقم العمل من مدير العمل يقول فيه: “أيها فريق، لعلمكم، الموظف الفلاني تخرّج، ونحن جميعًا متحمسون لنرى كيف سيستخدم قواه العظمى في مغامرته الكبيرة المقبلة”.
في أحد الأيام، تلقت إحدى زميلاتي في العمل، والتي كانت تبلغ من العمر 35 عامًا وتعمل مع الشركة منذ أربع سنوات، رسالة غير مبررة من مديرها البالغ من العمر 28 عامًا، يقول لها فيها بأن أمامها أسبوعين فقط لتوضب أمورها للخروج من العمل، وفي يومها الأخير، قام المدير بتنظيم حفلة وداعية لها.
لقد كان الأمر سرياليًا وقاسيًا، ولكن الجميع في هابسبوت تصرّف كما لو كان الأمر طبيعيًا للغاية، حيث كان يُقال لنا بأننا جميعًا كـ”نجوم موسيقى الروك” الذين “يلهمون الأشخاص” و”يغيرون العالم”، ولكن في الحقيقة، لقد كنا أصولًا يمكن الاستغناء عنها واستبدالها في أي وقت.
يبدو بأن العديد من شركات التكنولوجيا فخورة للغاية بهذا النوع من ثقافة العمل؛ فشركة أمازون،على سبيل المثال، مشهورة ببيئة عملها المشحونة، حيث أوضح جيف بيزوس، مؤسس أمازون، يوم الثلاثاء بأن الأشخاص الذين لا يحبون بيئة الشركة ويعتبرونها مرهقة، لهم كامل الحرية في العمل في مكان آخر، وتابع في ذات الرسالة التي أرسلها إلى مساهمي الشركة “نحن لا ندّعي بأن نهجنا محق، ولكن على مدى العقدين الماضيين، كوّنا مجموعة من الناس تعتنق ذات هذه العقلية”.
ينظر البعض إلى هذا البيان بوصفه علامة على أن بيزوس يبدو بأنه يدرك، على أقل تقدير، بأنه ليس من الطبيعي أن يبكي موظفو الشركة لفقدانهم أشغالهم فوق مكاتبهم، ولكنه بذات الوقت يوجه رسالة متحدية بألّا نية لديه بالتوقف عن هذا النهج.
أتذكر اليوم كيف كان عليه الوضع في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، حينها كان هاجس المسؤولين التنفيذيين في شركات التكنولوجيا هو الحفاظ على المواهب، وكان شعار تلك المرحلة “أحد أهم أصولنا يخرج من باب المكتب كل ليلة”، ولكن الوضع لم يعد كذلك اليوم، فمتوسط عمر الأمازوني، وهو اللقب الذي يطلقه موظفو شركة أمازون على أنفسهم، في الشركة لا يتجاوز عامًا واحدًا، وفقًا لتقرير صدر عام 2013 من شركة باي سكيل (PayScale)، وهي شركة أمريكية تدرس بيانات التعويض.
التعامل مع العمال وكأنهم أشياء يتم استخدامها ومن ثم التخلص منها هو الجزء الجوهري من العلاقة التي تم صياغتها حديثًا ما بين أرباب العمل والعمال، حيث تزعم شركات التكنولوجيا بأن هذا النهج مبدع وبذات أهمية الرقاقات الإلكترونية والبرمجيات، هذا النموذج نشأ في وادي السيليكون، ولكنه آخذ بالانتشار والنمو؛ فالشركات التي تتبع النهج القديم باشرت بتوظيف “قراصنة النمو” وبناء “حاضنات” لهم أيضًا، لأنها باتت ترى شركات وادي السيليكون كنموذج متنوّر من التفكير الريادي، على الرغم من أن هذا النهج “الجديد” من العمل هو في الواقع قديم في جوهره، فهو يقوم ببساطة على استغلال الأيدي العاملة من قِبل رأس المال.
تأسست شركة هبسبوت في عام 2006 في كامبريدج بولاية ماساشوستس، وأصبحت شركة مساهمة في عام 2014؛ إنها إحدى تلك الشركات الناشئة والمرنة وسريعة النمو التي كثيرًا ما تتصدر العناوين في هذه الأيام، وتتميز بكراسي عملها الوثيرة ونظام إجازاتها اللامحدود، هذا النظام الذي أضحى يشكل يوتيبيا جديدة للشركات، حيث لا توجد حاجة لتحقيق التوازن ما بين العمل والحياة، لأن العمل هو الحياة والحياة هي العمل.
انضممت إلى الشركة في عام 2013 بعد أن أمضيت 25 عامًا في مجال الصحافة، وتم تسريحي من منصبي في الصف الأول ضمن مجلة نيوزويك، حيث اعتقدت حينها بأن العمل في شركة ناشئة سيكون أمرًا رائعًا، ولكن اتضح بأنني انضممت إلى شركة سخرة رقمية بأجور منخفضة، حيث كان يتم حشد الموظفين ضمن قاعات ضخمة، ليجلسوا إلى جانب بعضهم البعض على طاولات طويلة، وبدلًا من انشغالهم بالعمل على آلات الخياطة، كانوا جميعًا يحدقون في أجهزة الكمبيوتر أو ينبحون ضمن السماعات والمايكروفونات التي يضعونها على رؤوسهم لبيع البرمجيات.
عمال الشركات التكنولوجية لا يتمتعون بأي نوع من الأمان الوظيفي، فهم يقومون بعملهم كنوع من “جولة الواجب” التي قد تستمر لعام أو لعامين، وذلك وفقًا لمؤسس موقع لينكد إن، ريد هوفمان، الذي شارك في تأليف كتاب يعرض أفكاره بعنوان “التحالف: إدارة الموهبة في عصر الشبكات”؛ فالشركات تحرق موظفيها، وتعنّفهم عند توافر شخص أفضل بأجر أرخص، بالمختصر، “شركتك ليست عائلتك”، كما يقول هوفمان في كتابه.
يقتبس هوفمان أفكاره من “قانون الثقافة” الذي نشرته شركة نيتفليكس في عام 2009، وأعلنت ضمنه شعار “نحن فريق، ولسنا عائلة”، وضمن هذا القانون ترى نيتفليكس نفسها كفريق رياضي يبحث دائمًا عن ضم “النجوم في كل موقف”، وضمن هذا النموذج الجديد من العمل، يُتوقع من الموظفين العمل بكامل الإخلاص والولاء لشركاتهم، في الوقت الذي لا يبادلهم فيه رئيسهم بالعمل ذات المشاعر.
للأسف، العمل ضمن شركات ناشئة ينطوي في كثير من الأحيان على خضوعك الدائم للمديرين الذين لا يتمتعون بالخبرة الكافية، وأحيانًا لا يتمتعون بأي خبرة على الإطلاق، فضلًا عن تعرضك الدائم لخطر الطرد على يد هذا المدير تبعًا لأهوائه؛ التحيزات في نطاق العمل القائمة على أساس العمر أو العرق أو الجنس هي ظاهرة متفشية، ناهيك عن انتشار حالات التحرش الجنسي الوظيفي، وضمن نطاق العمل، يجب أن تعتاد وتتسامح دائمًا على حشو رأسك بالمصطلحات والأيديولوجيات السخيفة التي تتحدث عن كونك شخصًا مهمًا لتغيير العالم، وحين تتعرض الشركة للخسارة تعرض أسهمها للاكتتاب العام، وفي حال تأسيس الثروة، تذهب حصة الأسد إلى حفنة الأشخاص الذين يتربعون في أعلى الهرم، المؤسسين والمستثمرين في رأس المال.
تم الاحتذاء بقانون نيتفليكس من قِبل شركات أخرى لا تعد ولا تحصى، بما في ذلك شركة هبسبوت، والتي باشرت باستخدام مقياس أداء يسمى (VORP)، اختصارًا لجملة “القيمة بناءًا على اللاعب البديل”، وهي فكرة مقتبسة من عالم البيسبول، يتم من خلالها احتساب قيمة اللاعب ضمن الميدان بناء على القيمة التي يقدمها لفريقه مقارنة بلاعب وهمي بديل متوسط القدرات، وفي هبسبوت، كان يتم تقييمنا على أساس مقياس (VORP) في التقييمات السنوية، حيث كان يُفترض بنا أن نشعر بأن هذه العملية تتم على أساس علمي، وهي جزء من كون الشركة “منظمة تعتمد على البيانات”، كما تسميها الإدارة.
اتخذت الشركة مقرًا لها ضمن مصنع تم تجديده تأسس في القرن الـ19 على يد صانع الأثاث أيه إتش دافنبورت، حيث أضحت الغرف الكهفية المصنوعة من الطوب الأحمر، والتي شهدت غير مرة إبداعات الحرفيين المهرة لصناعة كنوز النجارة المتقنة والمحفورة يدويًا والتي نراها اليوم في المتاحف أو في غرف البيت الأبيض، تفيض اليوم بالشباب الذين يقضون أيامهم الطويلة في سباق لمجاراة حصص إنتاجهم الشهرية المرهقة، والتي وُضعت على أساس خوارزميات لقياس إنتاجيتهم، ومسؤولو تطوير الأعمال، وهم على أرض الواقع موظفو تسويق هاتفي مرموقين، يتقاضون حوالي الـ3000 شهريًا، بمعدل حوالي 18.75 دولار للساعة الواحدة، إذا عملوا لمدة 40 ساعة في الأسبوع، علمًا بأن العديد منهم كانوا يعملون لساعات أطول بكثير.
عمال هبسبوت يقضون يوم عملهم وهم يطحنون أنفسهم ضمن المكالمات الهاتفية، وفي خضم محاولاتهم للوصول إلى العدد المطلوب، يتم وصلهم إلى جهاز يحتسب ساعات عملهم، هل هذا هو التقدم الموعود؟ العمال الذين كانوا يعملون في مصنع الأثاث لم يعيشوا ربما حياة سهلة، فهم لم يتمتعوا مثلًا بامتياز “حديقة البيرة” التي يرتاض ضمنها عاملو هبسبوت اليوم، ولكن من ناحية أخرى، لم يكن أولئك العمال مضطرون لقضاء أسابيع من التدريب التي تبدو وكأنها عبادة تلقين مخيفة يتم تدريب الموظفين خلالها على إمكانية استخدام “قواهم العظمى” بغية “تغيير حياة الناس” عن طريق نشر “السعادة” على عملائهم.
أخيرًا، ولو أُعطيت ميزة الاختيار اليوم، فأعتقد بأنني سأختار العمل في صناعة الأثاث.
المصدر: نيويورك تايمز