منذ أن ظهر فيلم مغني الجاز The Jazz Singer سنة 1927، تبيّن لهوليود وللعالم من بعد، أن الصوت في العمل السينمائي يمكن أن يتجاوز الزخرفة الموسيقية، ويصبح جزءًا من الصورة، يمكن من الاستعاضة ـ بكثير من الأناقة ـ عن تلك اللوحات السوداء التي تقطع الأفلام الصامتة بين الحين والآخر لتذكرنا بقصور الصورة عن التعبير الكامل.
صار الصوت جزءًا أساسيًا من العمل السينمائي، وسمح للممثلين كما للكتاب بالتعبير عن إبداعهم ومهاراتهم بشكل أكثر حرية، وربما ضيق أيضًا مساحة المخرجين، وهذا ما يفسر اقتضاب الكثير من المخرجين الكبار في المساحة الحوارية والتركيز أكثر على الصورة في حركتها (كيوبرك، دي سيكا، سيرجيو ليوني…) لكن بعض المخرجين اتخذوا مسارًا عكسيًا تمامًا: لقد تجاوز بالحوار وظيفة الشرح التقليدية، وانبرى يصنع الدراما من خلال حديث الشخصيات لا غير.
نوع من مسرحة السينما، هو ما أفرزته هذه الأعمال التي تدور في الغالب داخل فضاء مغلق، تمارس الشخصيات داخل هذا الفضاء تفاعلها الكلامي فيما بينها لتفرز كل عناصر القصة، من عقدة، ورحلة للبطل، وشخصيات مساعدة، وأخرى معرقلة، وتخلص وغير ذلك.
قد يبدو صعبًا من الخاطرة الأولى أن نتبين ظُرفًا أو متعة في عمل لا حركة فيه تقريبًا غير شفاه الممثلين، لكن بعض الأعمال تمكنت من تجاوز هذه الخاطرة، وقدمت من المتعة الذهنية ـ والبصرية أحيانًا ـ ما يفوق مثيلاتها الأكثر اعتمادًا على الحدث.
في هذه القائمة القصيرة، سأقدم لكم أعمالاً سينمائية نجحت في فك المعادلة، فخلقت أحداثها بالحوار، وبلغت في الدراما حدود الإثارة القصوى، وصنعت فضاءً سحريًا بين المسرح والسينما.
5 ـ مذبحة carnage
على عكس ما يوحي به العنوان الدموي، فالفيلم عبارة عن كوميديا ساخرة فاجأنا بها رومان بولانسكي Roman Polansky سنة 2011، تدور الأحداث في منزل عائلة أصيب ابنها بضربة عصا قوية وجهها إليه زميله في المعهد، وكان على والديْ المعتدي (كايت وينسلت Kate Winslet وكريستوف والتز Christoph Waltz) التوجه إلى والديْ الطفل المصاب (جودي فوستر Jodie Foster وجون ريلي John C. Reilly) بالاعتذار.
بدا اللقاء في البداية جيدًا وسلسًا، وأبدا الزوجان نوايا حسنة لتجاوز الإشكال، حينما طفت أمام باب الخروج زلات لسان منحت أربعتهم شارة التخلص من قناع المجاملة والكشف رويدًا رويدًا عن حقيقة موقف كل منهم بشأن ما حصل.
خلف البروتوكولات الاجتماعية التي ترغمنا على اعتناق قيم أخلاقية نجتمع على تقديسها، تكمن تلك الأفكار الفردية المخيفة التي تجعلنا أناسًا مختلفين حتى الخلاف، بل حتى الصراع، هكذا يتحول المنزل من ساحة تفاهم حضاري إلى ساحة حرب مليئة بالاتهامات والحقيقة، هل نحن في حاجة إلى المداهنة لنحافظ على المجتمع؟
4 ـ نادي الفطور The breakfast club
ربما لا يعرف كثيرون هذا الفيلم الممتع والبسيط ولكنه يستحق مكانه في القائمة، تبرز قيمته خصوصًا في طبيعة شخصياته، ذلك أن الحوار مقترن أساسًا بأناس رصينة تجيد فن الحديث والتفاعل الذهني، لكن أبطال الحوار هنا، مراهقون طائشون، ألقى بهم تهورهم في قاعة المداومة يوم عطلة لإنجاز عقوبة متمثلة في كتابة تحرير عن أنفسهم.
فتى رقيع لا يتردد في التهكم من الجميع وافتعال العداوة مع أي شخص، فتاة مترفة تعتبر تجرأ الأستاذ على معاقبتها تجاوزًا لا يطاق، فتى انعزالي من أولئك الذين لا هم لهم سوى الدراسة، يتساءل الجميع عما ألقى به معهم، فتاة غريبة الأطوار أقرب إلى مرضى الفصام، وآخر ممشوق القوام يبدو أنه من أولئك الذين يعتقدون أن المدرسة عبارة عن نادٍ للرياضة لا أكثر.
ماذا يمكن أن يحدث حين يجتمع هؤلاء في فضاء واحد؟ كيف يمكن أن يفضي تواصلهم إلى التغيير الذي لم يفكر فيه الأستاذ؟ وماذا الذي تخفيه “خطاياهم”؟ أعتقد أن هذا الفيلم أحد أهم الأعمال السينمائية التي اهتمت بتلك المرحلة الحرجة من عمر الإنسان.
3 ـ رجل من الأرض The man from Earth
قليلون يعرفون هذا الفيلم الجميل والمرتكز تمامًا على الحوار، سنعرف من خلال الحوار أننا أمام مجموعة من الأساتذة الجامعيين، أحدهم صاحب المنزل، وهو ينوي الرحيل بعد عشر سنوات قضاها بينهم، إنها آخر مرة يرى زملاءه ومتردد بشأن إخبارهم بسره العظيم.
عنوان الفيلم غريب فعلاً حينما لا نعرف موضوعه، ذلك أن القالب يتعلق أكثر بأفلام الفضائيين القادمين من كواكب أخرى (رجل من كريبتون…). أعرف ما يجول ببالكم، لكن دعوني أؤكد لكم أن الأمر ليس كذلك، القصة فعلاً في كوكب الأرض، وكل شخصياتها أرضيون مثلنا… تقريبًا.
تكمن قيمة الفيلم في الأحجية الطريفة التي فتحت مجالاً لحوار مشوق ومثير، تتركبُ أحداثٌ ذهنية لتخلق دراما من نوع غريب فعلاً، شخصياته جالسة في مقاعدها، بينما هي تتفاعل فيما بينها وتتغير كما يحدث في أي عمل درامي.
2 ـ قبل الشروق Before Sunrise
اِشتهرت ثلاثية “ما قبل” للمخرج رِتْشَرْد لِنكلَيْتر بوصفها ثلاثية رومانسية راقية، وتعود سمعتها أساسًا إلى الفيلم الأول “قبل الشروق” الذي كان فاتحة الفكرة، وإلى اعتماده على الحوار اعتمادًا كليًا لخلق قصة حب استثنائية، يداعب الفيلم علاقاتنا الذهنية الخفية التي نصنعها أحيانًا مع رفيق سفرنا الغريب الذي لا نعرفه، من المؤكد أن جميعنا راودتنا الأفكار بشأن ذلك الشخص الغريب قبالتنا، ومن المؤكد أن أغلبنا حاول تخيل ما لا يعرفه عن حياة تلك الفتاة الجميلة المنشغلة بنافذة القطار، وربما رأى بعين الخيال ما دار بينهما من حديث أو أحداث قد تكون شيقة وقد لا تكون.
لقد حقق الفيلم هذه الرغبة الخفية عبر جسي Jesse وسيلين Céline، اللذين التقيا في قطار ذاهب إلى النمسا، وقررا أن يمضيا الليلة في شوارعها قبل أن يفترقا كل إلى بلده، ليلة من التجول في شوارع فيينا، وفي أفكار شخص غريب، مساحة زمنية قصيرة تختزل مساحة روحية وفكرية لما يبدو كأنه علاقة عتيقة مزمنة، ينتقلان بالمواضيع وردود الفعل إلى كل محتمَل.
ولئن كان الحوار ثريًا وجميلاً، فإن قيمة الفيلم تكمن خصوصًا فيما لم يُقلْ، في تلك المساحات البيضاء داخل الحوار، التي تخفي ما تخفي وتذكرنا دائما خلال الفيلم أننا أمام غريبين، أليس ذلك في النهاية مكمن السحر في العلاقة؟
1 ـ اثنا عشر رجلاً غاضبًا 12angry men
من المؤكد أن تحفة سيدني لومت Sidney Lumet هي أفضل مثال عن هذه النوعية من الأفلام، صحيح أنها مقتبسة عن عمل مسرحي إلا أن لومت وازن بين فضاء التمثيل وإطار التصوير بشكل سينمائي مدهش، من شاهد فيلم Dogville للمخرج الدنماركي لارس فون تريه يمكن أن يلحظ الفرق بين مسرحة السينما وسينمائية المسرح، يمثل اثنا عشر رجلاً غاضبًا الفكرة الثانية، حيث تمثل الشاشة وعاءً مناسبًا لما يحدث داخلها، تسمح للمشاهد بمسافة تأملية ضرورية لفهم أبعادها. اثنا عشر رجلاً غاضبًا هم المحلفون الاثنا عشر الذين دخلوا إلى غرفة الحكم وهم على يقين من ثبوت التهمة على المتهم، بعد بضع دقائق سيقدمون حكمهم للقاضي كي يعلن عن إعدام رجل لا يعرفونه، لكن المحلف الثامن (هنري فوندا Henry Fonda) هدم اليقين بأسئلته المتشككة، وتتحول ردود الفعل من الاستهزاء إلى الغضب والجزع.
الاستثنائي في الحوار هنا، أنه تجاوز وظيفته المسرحية التي تكشف عن معادن الشخصيات وتقلباتهم الدرامية، إلى صنع السيناريو القصصي بشكل عبقري: كيف حدثت الجريمة؟ من الفاعل؟ ماهو الدافع؟
كيف يمكن لفيلم يصور كاملا في غرفة صغيرة ويقتصر تمامًا على الحوار أن يكون مثيرًا، مشوقًا، ومليئًا بالمفاجآت؟ تلك عبقرية اثنا عشر رجلاً غاضبًا، وذلك سحر السينما.
هذه هي القائمة، ربما لو شاهدت فيلم عشائي مع أندري My dinner with Andre لأضفته إليها، هناك أيضًا عملان يختلفان قليلاً من حيث إنهما يتمحوران أساسًا حول شخص واحد، وأعني هنا فيلم Phone Booth لكولن فارل Collin Farell وفيلم Buried لريان رينولدز Ryan Reynolds.
هل أعجبتكم القائمة؟ هل تعتقدون أن هناك فيلمًا يجدر أن يوجد فيها؟ شاركونا في التعليقات باقتراحاتكم.