تعد المشكلة الكردية من أكبر المشكلات التي تواجه الدولة التركية منذ تأسيسها عام 1924، واجهها في البداية مصطفى كمال أتاتورك، بأن تجاوز التنوع العرقي والإثني في البلاد، والتي ساهمت قبلها في سقوط الدولة العثمانية، فجنب البلاد الوليدة وقتها مخاطر التقسيم والانهيار، واعتبر كل مواطن يعيش داخل حدود تركيا بغض النظر عن جذوره ولغته الأم، هو مواطن تركي فقط.
رد الجميل وتاريخ مخز
مع بداية عهد أتاتورك، وخلال فترة حكمه لم تظهر أي بوادر سوء نية ضد الأكراد، وتمت معاملتهم كمواطنين عاديين في دولتهم الوليدة وقتها “الأناضول”، بل وساعد جنود تركيا الأكراد في تركستان الجنوبية “العراق” وقتها، للضغط على الإنجليز، وإجبارهم على التخلي عن الموصل، الأمر الذي قابله الشباب الكردي، بالدعوة لاستقلال كردستان، وطرد جميع القوات الأجنبية منها، بما فيها التركية.
تاريخيًا، يسكن الأكراد المنطقة الجبلية الممتدة على حدود تركيا، والعراق، وسوريا، وإيران، وأرمينيا، ويترواح عددهم ما بين عشرين وثلاثين مليونًا، وكانوا يعيشون حياة قائمة على الرعي في سهول ما بين النهرين، وفي المناطق الجبلية المرتفعة الموجودة الآن في جنوب شرقي تركيا، وشمال شرقي سوريا، وشمالي العراق، وشمال غربي إيران، وجنوب غربي أرمينيا، ولا تجمعهم لهجة واحدة لغويًا، كما أنهم ينتمون لمجموعة مختلفة من العقائد والديانات، وإن كان أكثرهم يصنفون كمسلمين سنة، ما يعني صعوبة بل واستحالة تأسيس دولة مستقلة لهم على حدود أي من الدول السابق ذكرها.
الفكرة والتطبيق المستحيل
بدأت فكرة تأسيس دولة كردية تلوح في الأفق مع مطلع القرن العشرين، لكن هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ووضع معاهدة “سيفر” عام 1920، ثم معاهدة “لوزن” في العام 1923 ، حطمت تلك الآمال، ومن يومها وهم يشكلون شوكة حدودية تستغل إقليميًا من قِبل العديد من الدول للتأثير على قرارات الدول الواقعين داخل حدودها خصوصا تركيا.
في نهاية الستينات ومع بداية السبعينات من القرن العشرين، زاد المد اليساري بالمنطقة، ونشأت الحركة اليسارية الكردية لتحتكر التحدث باسم الأكراد، إلى أن تأسس حزب العمال الكردستاني عام 1978، فبدأ حرب عصابات ضد الدولة التركية عام 1984 التي راح ضحيتها ما يقرب من 30 ألف شخص، وخلفت شرخًا اجتماعيًا كبيرًا في الدولة التي حاول أتاتورك حمايتها في العشرينات.
تسوية سياسية
خلال السنوات السابقة، وتحديدًا مع العام 2005، حاول حزب العدالة والتنمية حل المشكلة داخليًا، بإصلاحات دستورية وديمقراطية واقتصادية وتنموية في مناطق الأغلبية الكردية، وتوصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاتفاق هام مع عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال على “تسوية” للأزمة تقضي بترك الحزب للسلاح، والانخراط في العملية السياسية، وهو ما تمثل جليًا في الانتخابات الأخيرة التي ظهر فيها حزب الشعوب التركي “الجانب السياسي” لحزب أوجلان، على الساحة.
استغلال سوريا
ومع العام 2013، واستعار الأزمة في الجارة السورية بدأت مطامع الأكراد في تشكيل دولة حدودية لهم في الظهور من جديد، مستغلين ضعف قبضة الدولة في الشمال السوري، الأمر الذي انعكس على قرار الحركة السياسية الكردية في تركيا بشقيها العسكري المتمثل بحزب العمال، والسياسي المتمثل بحزب الشعوب الديمقراطي، ليستأنف من جديد عملياته العسكرية، بعد تصريحات من بعض قياداته دعت الأكراد إلى الانخراط فيما أسمته “حرب الشعوب الثورية”، والتي تزامنت مع زيادة روسيا وجودها في سوريا، وبلغ ذروته بعد إسقاط مقاتلتها، كما تزامنت عدة تفجيرات مع استحقاقات إقليمية متعلقة بالأزمة السورية، ما خلف خسائر أمنية جديدة بتركيا، قابلتها خسائر أكبر لحزب العمال الكردستاني وذراعه “الشعوب” على مستوى الحاضنة الشعبية، ورفض أكراد الجنوب دعم حملة التصعيد، والخروج للتظاهر، بل أنهم أدانوا مرات عدة العمليات الانتحارية والتفجيرات في المدن التركية.
الصندوق هو الحل
على الرغم من عنف الأكراد، أصرت تركيا على تجربتها الديمقراطية في الاحتكام للصندوق ، فكانت انتخابات يونيو علامة فارقة، وحكمت الصناديق لأول مرة منذ تأسيس الدولة بدخول أكراد تركيا برلمانها، بوصفهم حزبًا وليسوا نوابًا مستقلين، لأول مرة منذ إنشاء الجمهورية عام 1923 على يد كمال أتاتورك.
معنى ذلك أن النجاحات التي شكلتها التسوية بين “أردوغان – وأوجلان” فتحت الباب للتمثيل السياسي الكردي الأول من نوعه ضمن برلمان الجمهورية التركية، وهو ما كان يعد من المحظورات قبل مجيء حزب العدالة والتنمية عام 2002، لكن حلم “الفيدرالية” مازال يلاحق أوجلان وأتباعه ، ويسعى الجانبان الكرديان في سوريا وتركيا لـ”تدويل” القضية للضغط على الحكومة التركية، المضغوطة أصلاً إقليميًا، ما ينبئ بمخاطر لا تحمد عقباها في ظل حالة الجفاء بين تركيا ومعظم حلفائها التقليديين، الذين يقدمون الدعم السياسي والعسكري للفصائل الكردية المسلحة في سوريا.
أزمة مستعرة
الآن تقف تركيا الدولة، بين طرفين كل منهما يصر على موقفه، الأول حزب العمال وذراعه الشعوب، المصر على التصعيد وسفك الدماء، والثاني حكومة الدولة المصرة على فرض الأمن أولاً قبل العودة للتفاوض من جديد، باعتبارها قدمت حسن النية مرات ومرات، كان آخرها الانتخابات الديمقراطية في العام الماضي، الأمر الذي يثير تخوف المحللين بأن تظل المشكلة الكردية التركية مفتوحة على كل الاحتمالات المكلفة للطرفين على حد السواء.
دور الجيش
برؤية أكثر تعمقًا على الحكومة التركية باعتبارها صانع القرار بالدولة أن تدرك أن الحلول العسكرية والأمنية وحدها لن تجدي نفعًا، وإن كانت تعول فيه هذا الحل مؤقتًا، على إضعاف المسلحين الأكراد لإرغامهم على التراجع، مع حفظ قامته وقيمته داخليًا أمام المعارضين قبل المؤيدين، المطالبين برد حاسم وحازم، لكن خطورة تزايد نفوذ المؤسسة العسكرية وانغماسها في القرار السياسي، لن تكون في مصلحة أردوغان على المدى الطويل، وتقضي على مكاسب سلفه أربكان بإبعادها عن دائرة صنع القرار الداخلي.
وعليه.. على أردوغان ألا يسمح للأمور بالتفاقم أكثر من ذلك، واقترابها من حد التدويل، وهي نقطة اللاعودة التي ينتظرها الكثير من صقور المنطقة لإسقاط تجربة “العدالة والتنمية” الناجحة حتى الآن، وهو السيناريو الذي يريده حزب العمال الكردستاني.
هنا يجب على حكومة تركيا التفريق عمليًا بين المسلحين الأكراد والمكوّن الكردي من الشعب، والإسراع في ملف إعادة صياغة الدستور الجديد المعلن عنه، وتثبيت مبدأ المواطنة المتساوية، ومراعاة التنوع الثقافي والعرقي والإثني للجميع، والحذر كل الحذر من أي فكرة مجنونة تقضي بحظر حزب الشعوب الكردي، كمتنفس للحالة السياسية للاكراد في حال قرر الجميع العودة للتفاوض، والعمل بسرعة على إعادة إعمار المناطق المتضررة في جنوب شرقي البلاد، وتعويض سكانها؛ لدحض الدعاية الكردستانية حول التهجير القسري وغيره، لوأد فكرة التدويل والفدرلة في مهدها.