لا يكاد يمر يوم في تونس إلا ويطل علينا أحد المواطنين برواية جديدة أو مقطع فيديو جديد يظهر تجاوزات أحد أفراد الأمن التونسي وهو يهين مواطنًا في الشارع أو في أحد الأماكن العمومية لأسباب تكون في غالبها بسيطة وفي أغلبها يكون رجل الأمن قد أخذ مكان القانون لمعاقبة مرتكبها أو التعدي عليه مستقويًا بسلطته كرجل أمن كان من الأولى أن يحمي المواطنين لا أن يضطهدهم.
تكثر الروايات حول الاعتداءات البوليسية في تونس على المواطنين من أشخاص ظنوا أن مهنتهم تجعلهم أناسًا فوق القانون، فمرة أمني يضرب محاميًا ثم يبادره بالاعتذار لأنه اعتقد بأنه مواطن، وفي الأخرى رجل أمن بزيه المدني يعتدي على مواطن ويعتقله بسبب أنه طلب من مرافقة هذا الأمني احترامه في الشارع، وفي ثالثة رجل أمن مخمور يعتدي على مواطن دون أي سبب واضح، وفي رابعة تظهر لقطات فيديو رجل أمن وهو بصدد تهشيم محتويات أحد المقاهي في العاصمة والاعتداء على الموجودين داخله بهراوة، حتى بات التونسيون ينتظرون كل يوم جديد لمشاهدة مقطع فيديو جديد وفضح المذنبين من رجال الأمن والذين صاروا غير آبهين بما يقال حولهم وبما يلحق مؤسستهم الأمنية جراء تصرفاتهم الصبيانية.
في الحقيقة لا يمكن تحميل كل الأمنيين في تونس مسؤولية تصرفات الآخرين أو القول أن كل الأمنيين يحملون نفس العقيدة القائلة بأنهم فوق القانون إلا أنه بات أكيدًا أن عددًا كبيرًا من رجال الأمن إن لم نقل الأغلبية قد صاروا عبئًا على المؤسسة الأمنية، فهؤلاء الأمنيون الذين غفر لهم الشعب التونسي تواطؤهم مع النظام السابق قبل الثورة واستعمالهم كعصا زين العابدين بن علي الحديدية لترهيب المواطنين وفرض الديكتاتورية وتعذيب المعارضين، منحتهم الثورة فرصة تاريخية لمصالحة الشعب والوقوف إلى جانبه أولاً وأخذ حقوقهم كمواطنين بدرجة ثانية؛ حيث كانوا مضطهدين بدورهم وقت بن علي، إلا أنهم انتهزوا الحرية التي منحتهم إياها الثورة فكونوا النقابات الأمنية التي تدافع عنهم وغنموا الزيادات في الأجور لكنهم في نفس الوقت واصلوا فرض الاستبداد كأن الثورة لم تكن وكأنهم يحملون الحقد على هذا الشعب الذي لولاه لما تغير وضعهم.
لم يجد التونسيون أي حرج في الوقوف مع قواتهم الأمنية بعد الثورة في حربها على الإرهاب خصوصًا مع الشهداء الذين سقطوا من الأمنيين والذين بكاهم التونسيون دمًا، تقديرًا لمجهوداتهم في حماية الوطن وتقديرًا لدورهم الكبير في إنقاذ تونس من عشرات الكوارث الإرهابية التي كانت ستعصف بالبلاد، وذلك يبدو أمرًا بديهيًا بحكم أن حربنا واحدة ضد الإرهاب وضد كل من يحاول ضرب أمن البلاد، إلا أن بعض الأمنيين ظنوا أن الحرب على الإرهاب تمنحهم صكًا على بياض لفعل ما أرادوا وصك الغفران حتى لا تتم محاسبتهم على أفعالهم، ويظهر ذلك واضحًا من ردود بعض النقابات الأمنية التي تدافع عن الأمنيين حتى في أخطائهم وتقوم بتبرير أفعالهم وترفض معاقبتهم وحتى تغيير الواقع من أجل ألا يعاقب أي من الأمنيين الذين يعمقون بهذه التصرفات من الأزمة التي أصبحت قائمة بين المواطن ورجل الأمن.
يبدو جليًا أن العلاقة بين المواطن ورجل الأمن متشعبة في كل دول العالم العربي تقريبًا، إلا أن تونس التي تعتبر الدولة الوحيدة التي شهدت ثورة ناجحة وانتقالاً ديمقراطيًا سلسًا لم ينتقم فيه الشعب من جلاديه ولم تتم فيه المحاسبة الكاملة لمن انتهكوا حق هذا الشعب، تبدو استثناءً في تعامل الأمنيين مع أبناء وطنهم خصوصًا وأن كل التجارب الديمقراطية الناجحة أظهرت أن الثورات الناجحة غيرت من العلاقة بين المواطنين ورجال الأمن الذي يكفرون عن أخطائهم متذرعين بكون الأنظمة الديكتاتورية هي من جعلتهم في موضع عداء مع الشعب وأن الثورة تمنحهم الفرصة التي كانوا ينتظرونها للمصالحة والانطلاق في مسار جديد يكون فيه احترام القانون هو الفاصل بين المواطن ورجل الأمن، ومثال ذلك ما نراه اليوم في التعامل الأمني مع المواطنين في الدول الأوروبية التي كانت في زمن بعيد تعاني هي أيضًا من الويلات ومن العداء بين المواطنين ورجال الأمن.
يرجع العديدون أسباب التغول البوليسي الذي عادت تونس لتعاني منه بعد الثورة إلى الانتدابات العشوائية التي تقوم بها الدولة وإلى شروط القبول في الوظائف الأمنية، فالمستوى الدراسي غير مطلوب لدى مختلف الانتدابات في السلك الأمني، وعادة ما يكون التكوين الذي يتلقونه مبنيًا على الأساليب التطبيقية في العمل الأمني دون الاهتمام بالجوانب النفسية الأخرى ولا حتى في كيفية التعامل مع المواطنين مع احترام حقوق الإنسان، لذلك لن تكون النتيجة مختلفة أبدًا عما نراه اليوم من سلكويات بعض الأمنيين الطائشة رغم إصرارنا المبدئي إلى حد الآن أن ذلك لا يعتبر سياسة منتهجة بل أخطاء ناتجة عن سياسات خاطئة.
من الأكيد أن العلاقة بين المواطن في تونس ورجل الأمن لن تشهد أي تحسن في ظل عدم اتخاذ السلطات المعنية أي إجراءات ردعية في حق المذنبين من رجال الأمن خوفًا من ردة فعلهم ومن رد فعل النقابات الأمنية، فكل القضايا الخاصة بالاعتداءات الأمنية ظلت حبيسة خزائن ملفات وزارة الداخلية جراء عدم جدية لجان التحقيق التي سمعنا عنها مرارًا في كل اعتداء، ولعل الحل الوحيد يكمن في إعادة طرح تلك القضايا التي لفها النسيان ومعاقبة المعنيين من الأمنيين أو إنصافهم في صورة إن كانوا مظلومين ليكون هذا الإجراء باكورة الانطلاق في علاقة جديدة بين رجال الأمن والمواطنين في انتظار إيجاد حلول أخرى تقضي على هذه الأزمة نهائيًا.