“إن العلاقات الأردنية التركية تاريخية، مبنية على الاحترام المتبادل، ولن تؤثر عليها تقارير صحفية منسوبة لمصادر مجهولة، وتفتقر إلى أدنى درجات المهنية”، بهذه الكلمات استهل وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال، المتحدث الرسمي باسم الحكومة الأردنية محمد المومني حديثه ردًا على ما أثير بالإعلام بشأن تجاوز عمّان بحق أنقره، تجنبًا لمزيد من الانشقاق والخلاف السياسي بين البلدين بسبب تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات الإقليمية، السياسية والأمنية، في مقدمتها سوريا والإخوان المسلمين بمصر والموقف من القضية الفلسطينية.
العديد من الأسباب ساهمت بشكل كبير في اتساع الهوة بين الطرفين لاسيما في الخمس سنوات الأخيرة، منذ انطلاق قاطرة الربيع العربي، الذي تدعمه تركيا بكل قوتها، في مقابل الرفض التام لكل ما له علاقة بالثورات الشعبية من قبل عمّان، وهو ما ساهم في زيادة درجة “البرودة” في العلاقات بين الطرفين بالرغم من التاريخ الطويل المشترك بينهما.
العديد من الأصوات الأردنية طالبت بتجميد العلاقات السياسية والعسكرية والأمنية مع تركيا، وفي المقابل هناك من يرى من الجانب التركي عدم جدوى لاستمرار عمّان على خارطة العلاقات الخارجية لأنقرة، إلا أن زيارة أحمد أوغلو رئيس الحكومة التركية لعمّان مؤخرًا استحضرت معها الأمل في إخراج العلاقات بين البلدين من “الثلاجة” إلى النور مرة أخرى حتى ولو بنسب تدريجية بسيطة.. فهل يحمل المستقبل انفراجة للأزمة بين أنقرة وعمّان بالرغم من حجم الخلافات بين البلدين؟
تاريخ من العلاقات القوية
العلاقات بين تركيا والأردن علاقات أزلية قوية لا يمكن بأي حال أن تؤثر عليها الخلافات السياسية، وتباين وجهات النظر بشأن بعض الملفات المؤقتة، التي سرعان ما تنتهي فتعود مياه العلاقات بين البلدين إلى مجاريها الطبيعية، هذا ما أشار إليه رئيس الوزراء التركي أحمد أوغلو أكثر من مرة في عدد من المناسبات، كان آخرها زيارته التي قام بها منذ أيام للعاصمة الأردنية برفقة مجموعة من الاقتصاديين ورجال الأعمال والتي ستسهم بشكل كبير في إذابة الجليد بين الجانبين على حد قوله.
أوغلو نشر في مقال له أن تاريخ علاقات الأخوة بين الشعبين التركي والأردني يعود إلى قرون عديدة، ويعتبر المستوى الذي وصلت إليه العلاقات التركية – الأردنية نموذجًا رائعًا للتعاون بين تركيا والعالم العربي، فمن دون شك فإن جغرافية الشرق الأوسط عند تأسيس العلاقات السياسية ما بين تركيا والأردن حين التقى قادة الترك في الثلاثينات من القرن الماضي تختلف كليًا عن جغرافية الشرق الأوسط هذه الأيام، فالمنطقة شهدت وثبات كبيرة من التطور، والأردن خير مثال على ذلك، فبالرغم من قلة مصادرها الطبيعية نجحت في أن تصبح أحد مراكز الجذب الاقتصادي في المنطقة، ويعود فضل ذلك إلى الطبيعة السلمية التي ساهمت إلى حد كبير في تميز المملكة واستثمارها في مواردها البشرية، على حد قول أوغلو.
كما استعرض رئيس الوزراء التركي العلاقات بين البلدين من الناحية التاريخية، قائلًا: “بالرغم من التطورات الاقتصادية الملحوظة فإنه وللأسف عبارة الشرق الأوسط لطالما ارتبطت هذه الكلمات بالمشاكل والمسائل والقضايا، وأقصد هنا الصراع العربي – الإسرائيلي وخاصةً القضية الفلسطينية، حيث إن معظم الاختلافات والصراعات في هذه المنطقة يعود أساسها إلى هذه النقطة، وكما نعرف جميعًا فإن مصدر العديد من النزاعات والخلافات في منطقتنا يعود إلى هذه المشكلة والطريقة الوحيدة لإحلال السلام والاستقرار في المنطقة هي حل هذه القضية بطريقة عادلة وشاملة، لذا يجب إعادة إحياء المحادثات الإسرائيلية – الفلسطينية وتطبيق رؤية الدولتين المذكورة في خطة السلام العربية وتفعيل الطرق والقنوات السورية – اللبنانية”.
وتابع: تؤمن تركيا أيضًا أن مبادرات جلالة الملك عبد الله الثاني من أجل إحلال السلام في المنطقة في غاية الأهمية فهي تدعمها وتهتم بها، من أجل التطلع للمستقبل، وعلى جميع الأطراف ذات العلاقة أن تعبر بصراحة عن دعمها لتلك الجهود وإعلان رغبتهم للسلام، وفي الوقت الراهن نرى أنه من الضرورى على إخواننا الفلسطينيين التواصل فيما بينهم للتفاهم لتحقيق الاستقرار والوحدة، ويجب ألا ننسى وجود صلة القرابة التاريخية بين شعبي الدولتين وخاصة تلك الناتجة عن المصاهرة، حيث إن أعدادًا كبيرة من الأتراك استقروا في الأردن الشقيقة ويعتبرون أرضها بلادهم وهم بلا شك حلقة وصل قوية بين تركيا والأردن.
الربيع العربي ومدارات الخلاف
كثير من المحللين والخبراء أعلنوا أن ثورات الربيع العربي كانت السبب الأبرز في توتر العلاقات الوثيقة والتاريخية بين تركيا والأردن، وإعادة رسم خريطة العلاقات بين البلدين، وذلك بسبب الموقف السياسي المتباين تجاه محطات هذا الربيع في بعض الدول العربية.
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأردنية الدكتور حسن المومني، أشار إلى أن ملف الإخوان المسلمين، كان له الأثر الأهم في تذبذب العلاقات بين أنقرة وعمّان، مشيرًا لعدم ارتياح الأخيرة من الدعم التركي المطلق للإخوان في المنطقة خاصة في سوريا ومصر، مضيفًا أن “أن الانفتاح التركي الأخير على دول المنطقة يأتي في سياق محاولة تكيفها من جديد مع الوضع الإقليمي السياسي الذي يهدف إلى احتواء النتائج السلبية لعلاقتها المتراجعة مع روسيا”.
وشاركه الرأي البرلماني الأردني ممدوح العبادي، الذي أكد أن العلاقة التاريخية بين البلدين ظلت تمزج بين السياسي والشخصي لفترات طويلة، إذ إن علاقات مميزة كانت تجمع ملك الأردن بالرئيس التركي رجب الطيب أردوغان الذي كان قد وجه دعوة للملك عبد الله الثاني لحضور عقد قران ابنته.
وأردف العبادي قائلًا: “إلا أن شعور أنقرة خلال سنوات الربيع العربي بأنها الأب الروحي الذي يستطيع تغيير الأنظمة في المنطقة العربية استنادًا لعلاقتها مع الجماعات الإسلامية، أدى إلى تراجع العلاقات بين عمّان وأنقرة، بالإضافة إلى الموقف التركي في سوريا من ناحية دعم المعارضة وتمويلها وتسليحها، وهو ما يعارض الموقف الرسمي الأردني الملتزم بالحل السياسي لإنهاء الصراع في سوريا، مما باعد وجهات النظر بين البلدين”.
وفي المقابل يرى السيد الربوة، المحلل المتخصص في الشؤون العربية أن عمّان وأنقره تعاملوا مع الملفات بحسابات شخصية أكثر من حسابات المصلحة، إلى الحد الذي وصل إلى “العناد السياسي” بين الطرفين، وهو ما تجسد في التلاسن الواضح هنا وهناك في أكثر من مناسبة بين ملك الأردن والرئيس التركي.
وأضاف الربوة أن انضمام الأردن للحلف المصري السعودي الرافض لكل ما يمت بصلة للثورات العربية في مقابل تأييد تركيا لكل التحركات الثورية الشعبية هو ما تسبب في حالة التوتر المستمر بين الطرفين، مؤكدًا أنها مسألة وقتية وستعود الأمور إلى طبيعتها عقب حلحلة تلك الأزمات والجلوس على مائدة الحوار والتفاوض.
الاقتصاد وإذابة الجليد
العديد من العقول المتطرفة لدى الجانبين طالبت بقطع العلاقات على خلفية تباين وجهات النظر في الملف السوري والمصري والفلسطيني، إلا أن بعض الأصوات العاقلة طالبت بالتوقف عن “تعكير” الأجواء بين البلدين، والنفخ في نار الأزمة ليل نهار، ومحاولة البحث عن قضايا ذات اهتمام مشترك، تكون قاعدة انطلاق نحو تحسين العلاقات وانفراجة للأزمة.
بعض المسؤولين الأردنيين أكدوا في تصريحات لبعض وسائل الإعلام أن عمّان تستطيع الاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع تركيا حتى وهي ترتاب في أجندتها السياسية سواء في سوريا أو عندما يتعلق الأمر بمسارات الإسلام السياسي واحتضان الإخوان المسلمين.
وفي المقابل عبر عدد من البرلمانيين والمثقفين عن أملهم في تحريك المياه الراكدة في العلاقات بين البلدين، تذكيرًا بأجواء الانفتاح وبأن العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني كان الشاهد الأبرز على عقد زواج ابنة أردوغان قبل سنوات وبأن أنقرة تتطلع لعلاقات إيجابية تمامًا مع كل جيرانها بصرف النظر عن الاختلاف في وجهات النظر.
من يتابع المشهد عن كثب يجد أن فرص التعاون العسكري الأمني السياسي بين البلدين ضعيفة للغاية، خاصة في ظل تمسك كل فريق باستراتيجيته الخارجية دون التلميح لبعض التنازلات، الأمر الذي أعلنت عنه المؤسسة الأمنية الأردنية والتي رفضت التعاون أو التفاعل مع نظيرتها التركية إلا في الحدود البيروقراطية الرسمية، حيث تعارض عمّان بضراوة مساعي أنقره للإطاحة بنظام الأسد في سوريا، وتوحيد الجبهتين الشمالية والجنوبية، وهو ما اعتبرته عمّان “دعمًا للإرهاب” غير مقبول، مما يجعل فرص التعاون في الوقت الراهن تكاد تكون صفرية.
وفي سياق آخر نجد أن الزيارة الأخيرة التي قام بها أوغلو للأردن غلب عليها الطابع الاقتصادي، وهو ما يؤكد حرص أنقرة على استمرار العلاقات مع عمّان حتى وإن كانت “اقتصادية” مؤقتًا، حيث حضر بصحبة 30 من رجال الأعمال وسط رسائل من أنقرة توحي بإمكانية التوافق في مجال الاستثمار على أساس عدم الوقوف عند محطة الخلاف الكبير بين الجانبين وتحديدًا في ملفي سوريا والإخوان المسلمين.
وقد تمخضت هذه الزيارة عن توقيع الجانبين اتفاقيات تعاون في مجال العمل والضمان الاجتماعي، وأخرى في مجال التعاون في الملاحة الجوية، كما وُقعت اتفاقيات أخرى في مجال حماية الغابات وتشجيع الاستثمارات المتبادلة، ومشروع ترميم الخط الحديدي الحجازي، ومذكرات أخرى في مجال النقل الجوي والأرصاد الجوية.
ومن ثم فلا يوجد في الأفق احتمالات قوية لبناء جسور ثقة خصوصًا في المجالين الأمني والسياسي، لاسيما في ظل دوران عمّان في فلك النظام المصري والذي يمثل المعضلة الأساسية في سياسة أنقره الخارجية، مما يدفع بكلا الطرفين – إن رغبا في استمرار العلاقات – إلى الإبقاء على الباب ولو بـ “نصف فتحة” دون خطاب تحريضي دعائي، أو تصعيد للخصومة، إذ ربما يكون التعاون الاقتصادي هو “الشمعة” التي تذيب “جليد” العلاقات السياسية والعسكرية والأمنية بين الجانبين.