فجر الثورة التونسية لاح وبانت آثاره في كثير من مجالات الحياة المختلفة في تونس، أبرزها الجانب السياسي بتتويج مسيرة ديمقراطية توافقية جنبت البلد مخاطر الفتنة والحرب الأهلية التي عاشتها باقي دول الربيع العربي التي عرفت مآسي ودمار وتهجير ملايين الشعوب من أوطانهم.
غير أن الواقع المعيشي للتونسيين بالكاد طالته رياح التغيير، فلا تزال جهات وولايات تعيش تحت خط الفقر، ولا تزال فئات مختلفة من أبناء هذا البلد بعد خمس سنوات على ثورة رفعت مطالب الحرية والكرامة تعيش ظروف اجتماعية صعبة، تأبى الظروف الاجتماعية أن تتحسّن في غياب شبه تام لبرامج تنموية بهذه الجهات المهمّشة.
وكان لا بد لمثل هؤلاء أن يواجهوا الحياة ولا يقفوا مكانهم في انتظار من يمدّ لهم يد العون، في ظل تأكيدات عديد المحللين والمتابعين للشأن التونسي على اندثار للطبقة المتوسطة وانقسام المجتمع بين طبقة غنية تستفرد بالثروات وتدير عوالم المال والأعمال والسياسة والاعلام، وطبقة منكوبة تعيش على الهامش، وتواجه بمفردها وفي عزلة من الجميع قدرها المحتوم بصبر وعزيمة على الاستمرار.
بساطة في المعيشة تفوق الوصف، وحالات اجتماعيّة صعبة، يصر أصحابها على مواجهة قسوة الحياة بصبر وتجلد، وأمل في بصيص من الامل يعيد لهم حقهم في العيش في وطنهم بكرامة.
مشاهدة مؤلمة ومهينة
إبان اندلاع شراراة الثورة تناقلت وسائل الإعلام التونسية والأجنبية صورًا موجعة صدمت المشاهدين من مختلف بلدان العالم عن عشرات العائلات التونسية التي تعيش من المزابل، مؤكدين أن ضنك العيش بين أكوام الفواضل والبحث عن شيء يمكن بيعه أو مبادلته لم يكن خيارًا، بل إنهم أجبروا في مواجهة واقعهم المعيشي على خوض هذا الصراع مع الحياة بالعيش متنقلين بين المزابل والقمامات غير مبالين بأضرار التلوث والمخاطر التي تهدد صحتهم.
ولئن أسدل الإعلام الستار على هذه الوضعيات الاجتماعية الحقيقية والمؤلمة والتي تعيش تحت خط الفقر المدقع، إلا أنها لم تختف، وأصبحت مشاهد الباحثين وسط القمامات المنزلية وأكداس الفواضل خلف المؤسسات والوزارات والمعامل مألوفة للجميع.
وقد أكدت عديد الإحصائيات التي نشرتها منظمات بالمجتمع المدني أن مئات العائلات تعيش من جمع قوارير البلاستيك ومما قد يعثر عليه بالمزابل صالح للاستعمال أو البيع أو المبادلة.
كانت سيدة في الأربعين أو يزيد، فالظلام الذي يلف ساعات الصباح الأولى لم تسمح لي بالتعرف عليها أو رؤية ملامحها ولكنها كانت تنبش في إحدى قمامات المزابل هناك في ضواحي مدينة بنزرت الجنوبية، ولكم خفت مرارًا وتكرارًا من خطر انزلاقها وسط صندوق القمامة ذاك الكبير الحجم وألا يدرك أحد بوجودها فتصبح بدورها “قمامة” لترمى فيما بعد هناك بعيدًا حيث المزابل الجماعية.
العم علي شيخ في السبعين من العمر، رب أسرة من خمسة أفراد، يدرسون بين المدرسة والمعهد والجامعة، يعود مساءً يجر عربته التي ملأها بكل ما أمكن جمعه في تنقله بين مصبات الفواضل وقمامات المنازل، من بقايا مادة الخبز والمواد البلاستيكية وما يمكن أن يكون له ثمن، يقول إنه لم ينقطع عن عمله المضني هذا منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة، بإصرار على توفير تكاليف عيش أسرته ودراسة أبنائه.
يتحدث عن ظروف صعبة مرت بها عائلته، بإصابة أحد أفرادها بمرض مزمن تطلب الأمر عمله صباحًا ومساءً لتوفير ثمن الدواء ومصاريف للعلاج، “كنّا حينها عاجزين حتى عن شراء الخبز، وبهذه العربة ومن أكداس المزابل جمعت ما يمكن أن يباع وبعته وأنقذت عائلتي من الضياع، نتعايش مع العجز والفقر مُرغمين مُجبرين، لكننا قادرون على الاستمرار ومواجهة صعوبة الحياة، عساها تكون شدّة وتزول، نتحمّل أعباء تعجز عن حملها الجبال”.
قالها بأبلغ معاني الأسى، ليس همًا وغبنًا وحزنًا بل هي أحاسيس لا تترجم بالكلمات المجردة، تعدّت الهم بكثير واجتازت الغبن بمراحل وأصبح إحساس الحزن صغير أمامها.
يوم الجمعة خلال جولتنا بالسوق الأسبوعية بجهة منوبة، آلمني أن أراها في ثيابها الرثة تبحث فيما رماه الباعة خلفهم من بقايا خضر فاسدة ثم تسرع وتضع ما جمعت في عربتها الصغيرة التي كانت تجرها خلفها، ربما لتعود إلى منزلها وتوهم صغارها أنها فعلاً كانت كغيرها من النساء “تتسوق” ليفرح الأطفال ويهرعوا إلى ما أحضرته أمهم.
وقد ذكرني هذا المشهد المؤلم ببيت شعري درسته في السنة الخامسة الابتدائية ومايزال يرن في أذني: “لقيتها ياليتني ماكنت ألقاها تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها، أثوابها رثة والرجل حافية والدمع تذرفه بالخد عيناها”.
وهذا المشهد الأسبوعي يتكرر في السوق الأسبوعية بجهة منوبة؛ حيث تعي جيدًا أن هناك فئات تتعشى من القمامة ولشدة سعادتها حين يسمح لها البائع بالاقتراب من فواضل الخضر لتقوم بجمع ما قد يصلح منه.
متسولون بالنهار … مشردون بالليل
في أعتاب إحدى البوابات الخلفية لمؤسسة حكومية وسط العاصمة ترقد امرأة على فراش بالية، علامات المرض والعجز بدت واضحة على جسدها وملامحها، رأيتها مرات عديدة أمام المساجد القريبة تستجدي مساعدة، لتعود مساءً إلى حيث تنام وتعيش في العراء، بلا مأوى ولا أهل.
صورة لعشرات الأفراد شيبًا وشبابًا ونساءً ورجالاً، يعترضوا سبيلك في عربات المترو أو المحطات أو على عتبات المساجد، ربما هربوا أو طردوا حين تمزق النسيج الأسري، لكل منهم حكايته الخاصة، التي يشيب منها رأس الوليد، فهم في وضع لا يحسدون عليه، يرسلون صرخات لهذا العالم الصامت والمجتمع المنشغل عنهم من أجل الوقوف بجانبهم، فقد أصبحوا اليوم في حاجة ماسّة إلى أيادي تمسح دموعهم وتداوي آلامهم وتساعدهم على تجاوز مشكلاتهم بتوفير ملجأ لهم يحميهم من الضياع، بعد أن قست عليهم الحياة وغلبهم غول الفقر بكل تجلياته.