هناك تشابه كبير بين ثلاثة وقائع هي: “لوكربي” القذافي، و”ألب أرسلان شيليك” مفجر الطائرة الروسية، ومقتل الباحث الإيطالي “جوليو ريجيني” تحت التعذيب على أيدي الشرطة المصرية.
ويتبادر سؤال مهم في ظل تصاعد الأزمة المصرية الإيطالية، هل تسلم القاهرة قاتل ريجيني كما حدث في لوكربي، واعتقال مفجر الطائرة الروسية في تركيا.. أم أن إيطاليا ليست أمريكا أو روسيا؟!
بعد فشل لقاء الوفد المصري في روما ومغادرته إيطاليا بطريقة شبه مهينة، ومع الزيارة التاريخية والاستقبال غير العادي للملك سلمان بن عبد العزيز ملك العربية السعودية في القاهرة والتي جاءت في وقت تتصاعد فيه الأزمة المصرية الإيطالية بسبب مقتل الباحث الأكاديمي الشاب ريجيني، وسحب السفير الإيطالي بالقاهرة وتهديد إيطاليا بإجراءات أكثر قسوة على مصر.
هل تتدخل السعودية بثقلها في هذه القضية كما تدخلت من قبل في قضية لوكربي وأنقذت القذافي وليبيا من عقوبات وخسائر بما لدى السعودية من علاقات جيدة بإيطاليا؟!
في كتاب محمد أمين بن بريكة والذي يحمل عنوان “أزمة لوكربي”، تناول الأزمة السياسية الدولية المعقدة، التي كانت ليبيا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أهم أطرافها.
وفي الفصل الثالث والأخير من الكتاب تطرّق المؤلف للكيفية التي عولجت بها أزمة لوكربي، بداية بالجهود الدولية المبذولة لحلّها، مركزًا على الدور الهام الذي لعبته كُلّ من الوساطة السعودية والجنوب إفريقية للوصول إلى حل يُرضي جميع أطراف الأزمة، والمتمثل في قبول السلطات الليبية تسليم المتهمين الليبيين للمحاكمة أمام محكمة العدل الدولية، ودفع التعويضات لصالح أسر ضحايا الطائرة المفجّرة، وبالتالي فك الحصار المفروض على ليبيا، ودخول هذه الأخيرة في علاقات متنوعة مع دول أطراف الأزمة وباقي الدول الأخرى، أو ما يسمى بـ “بداية الانفراج الليبي على العالم “.
السعودية حولت “المستعصي” إلى “ممكن” في قضية لوكربي
قامت السعودية بدور تاريخي حينما قررت حسم قضية لوكربي عبر الدخول كشريك وليس كوسيط مع الليبيين، فالوساطة السعودية كما يقول الأمير بندر بن سلطان بدت برغبة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، وتولى الأمير عبد الله بن عبد العزيز الإشراف والمتابعة وإجراء الاتصالات مع الأطراف المعنية لتذليل العقبات.
وتحركت السعودية بالتعاون مع جنوب إفريقيا، وبالتنسيق مع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، لوضع حد لحالة الجمود، وتوفير حلول عملية ملائمة بما يؤدي إلى إحقاق الحق، وإزاحة الظلم وتكريس مفاهيم العدالة، وعملت السعودية على إيجاد حل مشرف لقضية لوكربي يهيئ لرفع العقوبات المفروضة على ليبيا من قبل مجلس الأمن وينهي المعاناة والضرر على ليبيا وشعبها، فنظام العقوبات المفروض على ليبيا أثر في مختلف المجالات، خاصة قطاعات الصحة والمواصلات والطاقة والزراعة والصناعة، فقد قدر إجمالي حجم الخسائر التي نجمت عن تطبيق قراري مجلس الأمن 748 (1992) و883 (1993) في الست سنوات الأولى من الحصار بأكثر من 23 بليون دولار.
وبدأت جهود الوساطة السعودية في 1998، ففي أبريل 1998 قام مندوب خادم الحرمين الشريفين الأمير بندر بن سلطان، بزيارة وصفت بأنها استكشافية لليبيا بدأ بعدها التحرك باتجاه الولايات المتحدة وبريطانيا بالتعاون مع الرئيس نلسون مانديلا وبالتنسيق مع كوفي أنان، وقد تميز التحرك السعودي بالقدرة على النفاذ إلى جوهر المشكلة والعمل لحل القضية والقدرة على إقناع الطرفين المتنازعين بتقديم تنازلات تمكن من الوصول إلى حل وسط يرضي الأطراف المعنية.
ويبدو أن التحرك السعودي باتجاه الولايات المتحدة وبريطانيا تمحور في إقناع الدولتين بجدية الرغبة الليبية في التوصل إلى حل وسط يرضي جميع الأطراف، وإقناع الدولتين بفصل الجانب القانوني عن السياسي، فجوهر القضية قانوني وبالتالي ينبغي وضع حد فاصل بين الجوانب القانونية والسياسية وإقناع الدولتين أنه لا يمكن أن تدار القضية وفقًا للقاعدة الصفرية وأنهما لا يمكن أن تكونا المشتكي والمدعي والقاضي في ذات الوقت، والتوصل إلى أسلوب لتنفيذ قرار مجلس الأمن 731 بما يحقق التوازن بين أطراف القضية، وقد ساهم التحرك السعودي باتجاه الدولتين في معالجة مشكلة عدم ثقة الجانب “الأمريكي ـ البريطاني” في الطرف الآخر، كما ساهم في وضع حد لحالة الجمود، حيث تم التوصل في أغسطس 1998 إلى تحقيق تقدم جوهري في جهود الوساطة، ففي 24 أغسطس أبلغت الحكومتان الأمريكية والبريطانية مجلس الأمن في رسالة مشتركة قبولهما إجراء محاكمة الليبيين المشتبه فيهما أمام محكمة إسكوتلندية تنعقد في هولندا وتتبع القانون وأصول المحاكمات الإسكوتلندية في جميع الجوانب، مع استبدال ثلاثة قضاة إسكوتلنديين بالمحلفين وبعد تحقيق هذا التحول النوعي في موقف الدولتين، تركز التحرك “السعودي ـ الجنوب إفريقي” على تطمين الجانب الليبي الذي رأى في التحول النوعي في مواقف الدولتين ما يثير الارتياب، فقد كان يخشى أن تكون هناك أجندة خفية لدى الدولتين، بعبارة واحدة كان هناك خوف من أن يكون هناك خداع من قبل الدولتين، إلا أن الوساطة السعودية ـ الجنوب إفريقية استطاعت في نهاية المطاف إقناع الرئيس الليبي أنه لا بد من استثمار الفرصة التي يتيحها التحول النوعي في مواقف الدولتين للوصول إلى محاكمة عادلة للمشتبه فيهما وطمأنته من خلال الحصول على ضمان الأمم المتحدة عبر الأمين العام أنه ليس هناك خداع قد تقع فيه الدولة الليبية.
وفي 12 يناير 1999 قام الأمير بندر بن سلطان وكبير مساعدي الرئيس نلسون مانديلا بزيارة لليبيا وأجريا جولة من المباحثات الهامة مع الرئيس الليبي بهدف الحصول على موافقة نهائية على تسليم الليبيين المشتبه فيهما إلى هولندا تمهيدًا لرفع الحصار على ليبيا، وفي هذه المباحثات أعلن أنه تم تحقيق تقدم في حل المسائل العالقة وأنه سيتم تسليم المشتبه فيهما إلى هولندا في غضون أسابيع.
في 13 فبراير1999 أعلن الرئيس نلسون مانديلا أن الوساطة السعودية والجنوب إفريقية توصلتا إلى اتفاق مع الرئيس الليبي لمحاكمة الليبيين المشتبه فيهما، كما أعلن الأمير بندر بن سلطان في نفس اليوم أنه تم التوصل إلى نتائج إيجابية لقضية لوكربي بفضل الجهود الكبيرة والصادقة لقادة المملكة العربية السعودية والرئيس مانديلا والأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، كما أكد أن جميع التفاصيل ستقدم للأمين العام للأمم المتحدة والذي كانت مهمة المبعوثين السعودي والجنوب إفريقي دعم مجهوداته والتنسيق معه، في 2 مارس أشاد الرئيس الليبي بدور خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز في حل قضية لوكربي، كما أعلن في 6 مارس أنه تم التوصل إلى حل وسط يحفظ ماء وجه كل الأطراف بعد جهود متواصلة من المملكة العربية السعودية.
وفي يوم 5 أبريل أبلغ الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان مجلس الأمن بنجاح عملية تسليم المتهمين الليبيين إلى هولندا، وعليه تم تعليق الحظر المفروض على ليبيا بموجب قراري مجلس الأمن 748 و883 ليتم بذلك إنهاء سبع سنوات من الحصار المفروض على ليبيا.
واستطاعت السعودية، أن تحول “المستعصي” في قضية لوكربي إلى “ممكن”؛ فقد قامت بدور مفصلي في معالجة أزمة الثقة المستحكمة بين طرفي المشكلة، وفي تذليل العقبات وتقريب وجهات النظر بين الطرفين، وبالتالي أوجدت البيئة المناسبة لحل قضية لوكربي حلاً يحق الحق ويرفع الظلم الواقع على الشعب الليبي الشقيق، ويعيد ليبيا لموقعها الطبيعي على الصعيد الدولي والعربي والإفريقي.
فهل تتوسط المملكة العربية الآن بين مصر وإيطاليا في قضية مقتل الشاب الإيطالي جوليو ريجيني على يد الشرطة المصرية، وتنقذ مصر والسيسي مما هو قادم؟
وجوليو ريجيني شاب إيطالي، يبلغ من العمر 28 عامًا، وهو طالب دكتوراة في جامعة كمبريدج البريطانية، وانتقل إلى القاهرة منذ سبتمبر الماضي حيث كان يعد بحثًا حول الحركات العمالية في مصر وكان ينشر مقالات عن مصر تتعلق بالمظالم التي يعاني منها العمال في صحيفة “المنافيستو” بعد ثورة 25 يناير.
ويشغل ريجيني، منصب باحث زائر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ويتمتع بمهارات عالية وقدرات في بحثه، خاصة وأنه يتقن أربع لغات، مما أهله للحصول على عدة منح دراسية.
ذهب ريجيني ضحية القمع والتعذيب الذي يعيشه العديد من المصريين منذ 3 يوليو 2013، وحسب رويترز فإن التشريح الأولي الذي أصدرته السلطات المصرية أظهر أن ريجيني تعرض للضرب على مؤخرة رأسه بآلة حادة.
وما تزال مصر تُصر على التبرؤ من قتل الطالب الإيطالي بروايات متضاربة، ورفض والتهديد الإيطالي بعواقب بعد سحب السفير من القاهرة.
نعتقد أن الأيام المقبلة سوف تظهر ما إذا كانت مصر قد وسطت الملك السعودي للخروج من مأزق قتل ريجيني.