بعد انهيار الإمبراطوريات الكبرى قديمًا في نهايات القرن التاسع عشر وأوائل ومنتصف القرن العشرين، نشأت كيانات ودول جديدة – قديمة، بحدود ملتهبة، كانت مقصودة من الدول الاستعمارية وقت تقسيم الحدود؛ لتظل تلك الدول فريسة للخلافات بين بعضها البعض، لئلا تلتفت لمواردها وثرواتها الطبيعية، وتفكر في بناء نهضتها الداخلية التي دمرها الاستعمار على مدى قرون، ووجدت بعض الدول نفسها ملتزمة باتفاقات دولية لم تكن لها فيها ناقة ولا جمل.
على مستوى المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، بدأت الخلافات البينية تظهر مع التاريخ المعاصر لنشأة تلك الدول، التي ظهرت بحدودها الحالية مع انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، والتي صاحبها تدخل الدول الكبرى وقتها: إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا في صوغ اتفاقات الحدود بطريقة تسمح بخلافات مستقبلية بينها.
مصر تشتعل
لم تكن المنطقة العربية والشرق الأوسط هما فقط من عانا من شيطان الدول العظمى في وضع الحدود الملتهبة، بل عانت منطقة آسيا أيضًا من تلك العصابة الدولية.
مؤخرًا، أعاد توقيع اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية بشأن جزيرتي تيران وصنافير، بعد 66 عامًا من الخلافات الباردة، تلك الأزمة إلى الذاكرة خصوصًا قضايا الجزر المتنازع عليها بين الدول العربية بعضها وبعض، وبينها وبين دول أخرى مثل الإمارات وإيران، والتى كانت سببًا في حروب امتدت لسنوات بين الأطراف المتنازعة، ولم تحسم أمرها حتى الآن.
الاتفاق المصري السعودي فتح المجال على خلافات مصرية أخرى مع جيرانها، أهمها وأخطرها مثلث حلايب وشلاتين، الذي تتنازع مصر ملكيته مع جارتها الجنوبية السودان، حيث تقطن قبائل تمتد بجذورها التاريخية بين الجانبين، وتتنقل بسهولة عبر الحدود.
ظهر الخلاف بين الجانبين مع العام 1958، عندما أرسلت الحكومة المصرية مذكرة إلى الحكومة السودانية اعترضت فيها على قانون الانتخابات الجديد الذي أصدره السودان، الذي خالف اتفاقية 1899م بشأن الحدود المشتركة وأدخل المنطقة الواقعة شمال مدينة وادي حلفا والمنطقة المحيطة بحلايب وشلاتين على سواحل البحر الأحمر ضمن الدوائر الانتخابية السودانية، وطالبت حينها مصر بحقها في هذه المناطق التي يقوم السودان بإدارتها شمال خط عرض 22 درجة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أعلن فيها نزاع على الحدود بين البلدين.
واحة جغبوب وأم الرشراش
أما المعضلة الثانية على الحدود المصرية فظهرت هذه المرة على الحدود الغربية لها بـ “واحة جغبوب”، التي شهدت نزاعًا مع ليبيا بدأ في العام 1977 عندما زار الرئيس المصري أنور السادات القدس مع معارضة ليبيا لهذه الزيارة، وبدأ الرئيس الليبي وقتها معمر القذافي في إثارة المشكلات على الحدود والمطالبة بواحة جغبوب، وتقرر حسم الموقف بالقوات الضئيلة المتوافرة على الجبهة الغربية.
أما منطقة “أم الرشراش، التي احتلتها إسرائيل في العام 48 وحولت اسمها إلى إيلات في العام 1952، فتمثل أزمة كبرى لمصر، باعتبارها رابط استراتيجي لها مع باقي دول الخليج، وممر هام للحجيج، وتشكل تهديدًا مستمرا لقناة السويس.
صراعات الخليج
على المستوى الخليجي، تعد قضية الجزر الإماراتية المختلف عليها مع إيران، واحدة من تلك الخلافات التاريخية التي لم تستطع جميع الأطراف وضع حلول لها، على الرغم من محاولات التسوية التي قامت بها عدة أطراف خليجية ودولية لحسمها وإعادة ترسيم الحدود بصورة نهائية، والتي كانت ما تنتهي غالبًا إلى التأجيل، أو التعنت من الجانب الإيراني.
“طنب الكبرى، وطنب الصغرى، اللتان تتبعان إمارة رأس الخيمة، وأبو موسى التي تتبع إمارة الشارقة” جزر ثلاث تشهد خلافات بين دبي وطهران، منذ نوفمبر عام 1971، حينما احتلتها إيران قبل أيام فقط من استقلال الإمارات عن الحماية البريطانية، وتكمن أهميتها في الموقع الاستراتيجي لها على مدخل الخليج العربي ومضيق هرمز، الذي يسمح لإيران بالهيمنة عليه، بالإضافة لغنائها بالموارد النفطية والثروة المعدنية، وما زالت، أبرز القضايا الخلافية الحدودية بين الإمارات خصوصًا، والخليج عمومًا مع الجانب الإيراني.
لم يقتصر الخلاف الحدودي بمنطقة الخليج على علاقاتها بدول الجوار، بل امتد لداخل البيت الخليجي نفسه، وإن كانت لم تأخذ شكل الخلافات الساخنة والمعلنة مثل خلافاتها مع إيران، وشكلت جزر “الزبارة وحور” ، نقطة خلاف كبيرة بين البحرين وقطر، منذ العام 1937م، إلى أن وافق الطرفان على تسوية النزاع مبدئيًا في العام 1987، بوساطة سعودية تقضي باللجوء للقانون الدولي في حال لم تفلح الوساطات الودية، وفي العام 91 توجه الطرفان لمحكمة العدل الدولية بلاهاي، التي قضت في العام 2001 بأحقية قطر في “الزبارة” والبحرين في “حوار”.
الخفجي وشريط هرمز
لم تتوقف الخلافات الخليجية عند أزمة قطر والبحرين، وتعدتها للمملكة والكويت، بالنزاع على بئر الخفجي البترولي، والتي ساهمت في توقف الإنتاج منه إلى الآن، لكن الخلاف الأبرز بمنطقة الخليج كان بين عمان،وشقيتها الإمارات على مقطع حدودي بمضيق هرمز في العام 1977 وتحديدًا في المقطع البحري بطول 16 كيلومترًا، الواقع بقرب مضيق هرمز، بعدما اكتشفت الإمارات فيه مخزونات كبيرة من النفط، فبعثت عُمان بقوات مشاة وسفينة حربية مطالبة بأن توقف رأس الخيمة إنتاج النفط في المكان، إلا أن تدخل عقلاء الخليج وضع حلاً للأزمة بنهاية العام 96، فوقعت عمان والإمارات اتفاقية ترسيم المنطقة المتنازع عليها لتنتهي الأزمة.
بحر الصين
على المستوى الدولي، شهدت قارتي آسيا وأمريكا الجنوبية، خلافات مماثلة مازالت بعضها مشتعلة إلى الآن، وتهدد بحروب مدمرة بين الفينة والأخرى، بين الدول المتنازعة، وتأتي أزمة جزر بحر الصين الجنوبي على رأس تلك الخلافات، وهي مجموعة جزر صغيرة غير مأهولة ساهمت بشدة في توتر العلاقات بين الصين والولايات المتحدة ودول منطقة شرق آسيا (اليابان والفلبين وتايوان وإندونيسيا وبروناي وماليزيا).
جغرافيًا وأمنيًا، تعتبر الصين الجزر منطقة تحت سيادتها، وتصف المناورات الأمريكية التي تجري فيها اختراق للسيادة، وهو ما دفع بحكومة بكين للعمل على تأكيد سيادتها بعدة طرق، سواء بإجراء المناورات البحرية، أو حتى إنشاء القواعد العسكرية بها.
المعضلة هنا أن أزمة الجزر الصينية ليست ثنائية، بل إنها متعددة الأطراف، فبيكين تختلف مع تايوان وإندونيسيا على الجزر الشمالية منها، بينما تختلف مع الفلبين على الجزر غربي جزر سبارتلي، فيما تختلف مع تايوان والفلبين في وقت واحد، على ملكية جزر باراسيل، ما يجعل أزمة بحر الصين الجنوبي من أعقد مشكلات المناطق المتنازع عليها.
شبه جزيرة القرم
أما شبه جزيرة القرم، فهي معضلة قديمة جديدة، فالقرم جزء من الأراضي الروسية منذ بداية القرن الـ18، بعدما غزتها روسيا وطردت منها الحكم العثماني، وظلت أرضًا روسية طوال العهد القيصري حتى العهد السوفيتي، لكن تغير الحال مع تفكك الإمبراطورية السوفيتية، حين انتقلت السيادة لأوكرانيا، ولكن بها مجموعة إثنية روسية، ومع اشتعال الثورة الأوكرانية في أواخر 2013، جاءت الفرصة لروسيا لاستعادة القرم، باستفتاء عام 2014 والذي واجه اعتراضات أمريكية وغربية.
قبرص
وفي قبرص، استمر نزاع تركيا واليونان على الجزيرة لعقود، لكن السيطرة الآن مقسمة فيها، حيث تحكم تركيا 37% منها، واليونان تحكم 63%، فيما تقع بينهما منطقة عازلة يديرها الناتو.
بقايا استعمارية
بالعودة لإفريقيا تبرز أزمة مدينتي سبتة وميليلة، بين المغرب وإسبانيا، حيث تقع هذه المدن على الساحل الشمالي للمغرب، وهي الأراضي الإسبانية الوحيدة الموجودة في إفريقيا، وطلبت المغرب من الحكومة الإسبانية نقل السلطة إليها لكنها رفضت.
أما النزاع على مضيق جبل طارق، فهو مشتعل بين المملكة المتحدة وإسبانيا ومازالت إسبانيا تسيطر على شبه الجزيرة.
جزر الفوكلاند
في أقصى جنوب الأمريكتين، برزت مشكلة جزر الفوكلاند، وهي أرخبيل مكون من 200 جزيرة صغيرة بالقرب من الشواطئ الأرجنتينية، وتسببت في حرب بين بريطانيا والأرجنتين عام 1982، بسبب الخلاف على ملكيتها ومن اكتشفها، كون الأرخبيل كان عبارة عن مستوطنات بين السيطرة البريطانية والفرنسية والإسبانية والأرجنتينية، ثم أكدت بريطانيا السيادة في 1833، وفي عام 1982 شنت الأرجنتين عملية عسكرية للسيطرة على الجزر، لكن تدخلت بريطانيا عسكريًا، ما أدى لاستسلام القوات الأرجنتينية وعودة الجزر لبريطانيا، واعتبار مواطنيها بريطانيين منذ عام 1983.