بعد أن تناولنا في الجزء الأول كيف تبدلت موزاين القوى بين الغرب والعالم الإسلامي، وما نتج عن هذا التبدل من تطويق لعالمنا الإسلامي واحتلال، من ضمنه الحملة الفرنسية الفاشلة على مصر، وكيف أسهمت في تقويض البناء القديم دون قصد لتمهد الطريق لمحمد علي لحكم مصر، وكيف استتب له الأمر، وسيطر على مراكز القوة في مصر، وتناولنا حروبه وجيشه وكيف بناه، يتناول هذا الجزء كيف أعاد الوالي الكبير بناء مصر من جديد، والرد على تقويمات خاطئة خاصة بمحمد علي والحملة الفرنسية، ولماذ فشل مشروع محمد علي، ومحمد علي في ميزان التاريخ، لنختم ببعض العبارات ذات الدلالة لفهم الماضي والحاضر والتطلع للمستقبل كتبت بميزان مؤرخ ومفكر وقاض عاش عمره – بارك الله فيه – من أجل مصر قوية في إطار انتماؤها العربي الإسلامي الإنساني.
الوالي الكبير يعيد بناء مصر
وطريقة الوالي الكبير في إعادة بناء دولته صارت في طريقين
الأول: ما يسميه المؤلف بـ “المشروع العاجل قصير الأمد” بالمتاح من الإمكانيات الفنية والتقليدية، وهو ما أوضحناه أعلاه في تعامله مع موجودات الدولة في بداية حكمه.
والثاني: إرساء الأسس التي يقوم عليها البناء الحديث للدولة، وهو ما نتناوله عبر جهاز الدولة والجيش والتعليم.
جهاز إدارة الدولة المصرية
أنشأ محمد علي جهاز إدارته الحديث من مادة وطنية خالصة، واستطاع أن يرسي القواعد الأساسية لنشوء الدولة في مصر بأجهزتها الحديثة وفقًا لممعايير القرن التاسع عشر وأسسها الإدارية التنظيمية والعلمية التقنية، وليس ذلك بغريب على من يريد أن ينشئ جيشًا حديثًا ومدارس ومصانع وقناطر تتحكم في مياه النيل أن يبني إدارة وأجهزة للدولة حديثة وقائمة على التخصص وتقسيم العمل وتوزيع الاختصاصات الفنية، وعلى نوع ما من أنواع العمل الجماعي الذي تتبادل به الخبرات وتتجمع.
ويعبر قانون سياستنامه الصادر 1837 عن ذلك إذ يعتبر نوعًا من التقنين الإداري لما سبق أن تبلور عن نظم إدارة الدولة خلال العقود السابقة من السنين، حيث نظم وقسم أنشطة الإدارة العامة التي تقوم بها الدولة وهو تقسيم حديث يوحي بالاطلاع على نظم الإدارة الحديثة، بمعايير القرن التاسع عشر في الدول والمجتمعات الأوربية، عبر تأسيس الدواوين والنظارات.
سر الأسرار ومخزن الرهبة وقلعة الحاكم
كان نظام الإدارة الذي بناه محمد علي يؤدي لتجمع الصورة الكلية في القمة المركزية لهذا التكوين الهرمي فقط حيث تتجمع الخيوط كلها والمعلومات كلها وخبرات الخبراء كلهم والمتخصصين جميعًا على تعددهم وتباينهم، فالقمة المركزية عنده هي وحدها تتجمع لديها خبرة الحلول للمشاكل والاستفادة المثلى من الممكنات الواقعية، وإمكانات العمل وتكامله وتناسقه، وهي وحدها من يستطيع اتخاذ القرار ويمكن أن تكون دلالاته والمقصود منه بعيدًا عن التداول والمعرفة العامة المشتركة، وهذا من شأنه أن يبلور نوعًا من السلطة المركزية يصعب تحديها من داخل أجهزة الإدارة ذاتها، كما يصعب الوقوف مع هذه السلطة موقف ندية ما، لأن من يطمح إلى أن يتخذ موقف التساوي مع القمة المركزية، لابد أن يدرك فورًا أنه يفتقد من قدرات المعارف ما تجمع لدى الأعلى، وأنه يفتقد من قدرات العمل ما يملكه الأعلى، وكان هذا أحد أسباب استقرار الحكم لمحمد علي، لأن النظم الحديثة بما تنطوي عليه من توزيع للعمل وتقسيم له، إنما تكسب السلطة المركزية قوة يصعب جدًا تحديها من داخل الأطر النظم إلا في فترات التفكك والاضمحلال.
التعليم
أدرك محمد علي أنبناء جيش وتطويره من خلال تشكيل جديد للجندية يتفق مع أدوات القتال الحديثة وفنون إدارة جديدة تناسب هذا الشكل، وأساليب تدريب غير مسبوقة، يحتاج نفقات، والنفقات تستلزم ايرادات، وهذه تحتاج الي زيادة الانتاج بمشروعات جديدة في الزراعة والحرف والصناعات وغيرها وصناعة للسلاح. والجيش يتكون من بشر، وللبشر عقول يتحركون بها وهي تحتاج إلى ثقافة وتشكيلات فكرية.
ومن ثم أنشأ محمد علي المدارس الحديثة فقد كانت مما تحتاجه نهضة يشكل بناء الجيش عمود الارتكاز فيها، وعند النظر في نوعية مواد الدراسة وحجم كل منها وما يتعلق بعلوم الغرب وفنونه، وما منها يتعلق بعلوم الثقافة والفكرية السائدة في المجتمع المصري نجد غير ما يروج في كثير من الدراسات عن عصر محمد علي.
فقد كانت علوم اللغة والدين تشكل ثلثي مناهج العلوم الكلية في المستوى الابتدائي، والثلث في المستوى التجهيزي، ومن ثم يمكن القول أن سياسة التربية والتعليم في عهد محمد علي طبقًا لمناهج المبتديان والتجهيزية إنما تصدر عن تنمية أواصر الثقافة الإسلامية واللغات الشرقية السائدة بين النخب الإدارية والفنية، ثم يرد بعد ذلك من علوم الغرب ما يمكن أن نسميه العلوم الطبيعية،أو العلوم المتصلة بالصنائع وفنونها..
وبالنسبة للبعثات فقد بدأها بإيطاليا ثم صارت فرنسا هي بلد المبعوثين المصريين، ومن خلال البعثات في عصره نجد أن غالبها كانت بعثات ليس فيها دراسة العلوم الإنسانية كالفلسفة والأدب والقانون وعلوم المجتمع، ولكنها كانت تتعلق بالبناء والإنتاج المادي ولم يدخل تعليم اللغات الأوروبية إلا من سنة 1840 بالفرنسية، ويستند المؤلف لدراسة دكتور جمال الدين الشيال عن الترجمة في عصر محمد علي ليؤكد أن الترجمة كانت لما ينقص من معارف وأن ما ترجم لم يكن من العلوم الإنسانية بما يفيد الاستغناء عن هذا الجانب الثقافي.
المرجعية والتبعية
المرجعية هي الأصول الفكرية والثقافية العامة التي يسود الإيمان بها في جماعة معينة، فهي تشكل ثقافي عام ينبني عليه النظرة السائدة في الجماعة المعنية حول ما هو الصواب والخطأ، وما هو الصحيح والفاسد، أي ما هو الحسن والقبيح، والمرجعية أيضًا هي الأصول الفكرية والثقافية التي تصدر عنها مبادئ المشروعية في المجتمع من حيث شرعية الأوامر والنواهي السائدة والمرجعية ثالثًا هي الأصول الفكرية والثقافية التي تنبني عليها تنظيمات المجتمع وتشكيلاته الحياتية كنظم اجتماعية ونظم حكم وهيئات وتشكيلات عامة.
إن المرجعية والمصدرية بالمعاني السابقة هي ما يتوقف عليها القول بأن ثمة نظامًا تشريعيًا لبلد صار تابعًا لبلد آخر، أم أنه فيما أخذ احتفظ باستقلاله الفكري والحضاري، وهل صار البلد الآخذ تابعًا لثقافة وحضارة خارجية أم أنه احتفظ بأصول ثقافته وحضارته، والمؤلف يرى أن أكثر ما صدر عن الوالي فيما لا نص فيه من قرارات تنظيمية إنما كان يدور في إطار ما يعرفه الفقه الإسلامي من “السياسة الشرعية” وهي هذا النطاق من المصالح التي لم يصدر فيها نص إسلامي بأمر ولا نهي، وترك إدراك المصالح فيها لولي الأمر حسب أوضاع الزمان والمكان، وأن الأوامر والقرارات التي اتخذها لم يثبت أنها تضمنت أحكامًا مخالفة للشريعة، فلا يوجد نص صريح في أي أمر أو قرار بالإحالة إلى الشرع الإسلامي فيما لا نص فيه، أو الإحالة إلى تشريعات أجنبية أوروبية فيما لا نص فيه.
كما أن المجالس التي تشكلت لاتخاذ القرارات والأحكام لم تتضمن عنصرًا أجنبيًا أوربيًا، والحاصل أننا عندما ننظر في تشريعات محمد علي في مصادر عصره، وبخاصة في المنتخبات والسياست نامة يظهر ما كان عليه عهد محمد علي من الناحية الثقافية واستدعائه من فكر الغرب ما يفيده في نهضته المادية، مع بقاء الهيمنة الفكرية والثقافية الإسلامية السائدة لدى الجماعة.
مشروع محمد علي السياسي
يؤكد المؤلف أننا عندما نتكلم عن مشروع سياسي لا نقصد تكوينًا فكريًا سياسيًا معدًا سلفًا قبل البدء في تحقيقه، ولا نقصد برنامجًا سياسيًا صيغ من قبل العمل على تنفيذه، إنما نقصد مجموعة السياسات الإرادية التي يجري اختيارها من خلال البدائل المتاحة وتتراكم تفاصيلها من خلال مسلسل الأفعال وردود الفعل على المدى الزمني الذي جرت فيه هذه السياسات.
فقد يكون المشروع فكرًا وبرامجًا وأهدافًا مسبقة، وقد لا يكون، وهو في كل الأحوال يجري تخلقه الواقعي في سياق حركة سياسية تتابع أفعالاً وردودًا على مدى زمني، وهذا التتابع هو الذي يكشف أوضاع هذا المشروع في الواقع وبالتحقق العملي، وليس في الأذهان والتصورات المسبقة، ونحن هنا أمام تاريخ جرت أحداثه تباعًا وتمت، ولسنا أمام مقاصد ودعوات جرت أقوالاً مروية أو مكتوبة، إننا أمام حقائق ولسنا أمام أماني ولا وعود.
وأن ما يساعدنا على فهم المشروع السياسي الذي تبلور في سياسات محمد علي، أو دار في فلك تحقيقه، هو أن نعرف طبيعة الدور الذي قام به الرجل وهو يصعد إلى السلطة السياسية في مصر، وأن ندرك المفاد السياسي الذي لعبه في الأحداث الكبيرة التي جرت في عهده، ذلك العهد الذي شغل النصف الأول من القرن التاسع عشر جله.
لم يكن مشروع محمد علي السياسي أمرًا معدًا سلفًا ولا مشروعًا متكامل الأركان لبناء مصر الحديثة، لقد قام بترتيب أوضاع الإدارة المصرية لتنشأ بها أجهزتها الجديدة بالنظم الجديدة، عبر تراكم بطيء حسب الاحتياجات لينمو وتتضح معالمه في نحو سنة 1837، وكان يسير جنبًا إلى جنب التقدم في الزراعة والري والمدارس والبعثات ونمو الجيش وتقدم الانتصارات في الحروب.
ونخطئ – كما يؤكد المؤلف – إن تصورنا محمد علي في بداياته كانت له من الأهداف ما تحقق على يديه من بعد.
عوامل نجاح محمد علي
نجح محمد علي أكثر كثيرًا من غيره في القرن التاسع عشر في تحديث إدارة الدولة وتجديد مؤسسات المجتمع، وفي حل المعضلة التي كان لا بد أن تلازم حركة التحديث، والمتمثلة في أن من يريد إصلاح إدارة الدولة، لابد أن يصلحها بواسطة أداة لديه، وأدوات الحاكم هي أجهزة الدولة، أي أن من يريد التجديد لا بد أن يجريه بواسطة لقديم، أي أنه يكون مطلوبًا من الإدارة القديمة أن تنفذ ما من شأنه أن ينفيها.
جهاز الدولة ساعد محمد علي وأتعب من جاء بعده
عندما ارتقى محمد علي لحكم مصر، كان جهاز الدولة مفككًا، وهو أصلاً كان جهازًا مهترئًا، ثم أتت عليه سبع سنوات من غزو وجلاء وثورات وحروب واضطرابات، فجعله هذا كله مزقًا وإربًا، وكان على الوالي الجديد محمد علي أن يعيد البناء وأن يعيد تركيب ما انفك وأن يكمل ما نقص، ما يكون لازمًا لتحريك آلة الدولة في إدارتها للمجتمع.
ولعل هذا الانفكاك كان من الفرص المواتية لمحمد علي، فهو لم يجد أمامه جهاز إدارة يقاومه وقد يستعصي على قيادته إن كان الجهاز مكينًا، بل وجده أجزاءً وأشطارًا بغير فاعلية، فكان عليه جهد التركيب دون أن يكون عليه عبء مواجهة من يقاومه داخل جهاز الإدارة، فالمقاومون لمحمد علي كانوا بين شيخوخة الذاهب الآفل كالمماليك، وبين يفاعة الصبي الغر كالقوة الناشئة للشيوخ والأعيان المصريين.
كان محمد علي محظوظًا أيضًا، لأنه لم يكن في إسطنبول حيث تتمركز قمم الدولة، وحيث تتماسك قوى القديم، وكما أن حظه الطيب جعل بداياته في مصر في الصفوف الثواني، فلم يحمل وزر صراعات القمم، كان في مصر البعيدة عن صراع القمم الإسطنبولية، فلا كان جيش الإنكشارية وقواده الكبار عنده ولا كان في بؤرة الصراعات، كان مصدر المشغلة لمحمد علي فرقته الألبانية التي أرسلها للجزيرة العربية ليتخلص من عبئها.
الرجل الكبير بمن حوله
لم يقم محمد علي ببناء مصر بمفرده، بل ساعده معاصروه ومشاركوه، فلا يجوز أن نرد كل الأعمال الكبيرة إلى فرد مهما كانت قدرته الذاتية، ومهما كانت درجة قيادته لمن معه، والزعيم والقائد مهما بلغ علمه وتجاربه وذكاؤه وإقدامه، فهو لا يعدو أن يكون “علامة” على فريق جماعي غير محدود بفرد ولا بأفراد قليلين.
لماذا فشل مشروع محمد علي؟
يؤكد المؤلف أن فشل مشروع محمد علي السياسي لم يأت من داخل تجربته، ولا كان من أسلوب بنائه لدولته، بمراعاة معايير العصر الذي عاش فيه، والسياق التاريخي الذي عمل فيه، إنما جاء انكسار مشروعه من خارجه، وبموجب موازين القوى الدولية التي فرضت أوضاعها – بكل ما فيها من قسوة وظلم – على الواقع العالمي في القرن التاسع عشر.
محمد علي في التاريخ
يرى الحكيم البشري محمد علي “تركي جاء ضمن الفرقة الألبانية، وهو ليس من عشائر الأرناؤط، ولا من الإنكشارية، ولعل ذلك مما ميزه وأتاح له قدرًا من مرونة الحركة والقدرة على المناورة الواسعة في الإطار العام للقوى العثمانية دون أن يستوعب تمامًا داخل أي من هذه القوى وفرقها وفصائلها المتصارعة، كان محمد علي حاكمًا ومصلحًا، امتدت قامته فصارت من أعلى القامات التي عرفتها بلادنا العربية والإسلامية على مدى القرن التاسع عشر، وكانت أيامه كلها نظامات وتأسيسات نافعة للبلاد، حتى أنه لم يترك شيئًا إلا جعل له قاعدة يجري عليها، حتى لائحة الحمارة وبيان مواقفهم والمخالفات التي تقع منهم وكيفية معاملتهم حسب تعبير فتحي باشا زغلول.
لم يكن محمد علي داعية فكر ولا صاحب إنتاج ثقافي، وإنما كان رجل دولة من أعلى طراز في عهده، كان زعيمًا وطنيًا ومستقلاً، أراد أن يبني أجهزة دولة تتفق في صيغتها السياسية مع هذا الطابع الوطني والمستقل، ليس كما نعرفه اليوم، وإنما حسب المعنى الوطني والاستقلالي الذي كان سائدًا في بدايات القرن التاسع عشر، والذي يجعل مصر ولاية مشمولة بدولة الخلافة الإسلامية، وتتحرك في إطار الحكم الذاتي داخلها.
لم ينشئ محمد علي مؤسسات إنتاج فحسب ولا مؤسسات خدمات فحسب، لقد أنشأ مؤسسات “سيادة” يدور في فلكها كل شيء آخر، وهذا هو أهم ما بقي من تكوينات محمد علي إلى اليوم، ومجمل حركة محمد علي ومجمل مرحلته أنه كان مصلحًا سياسيًا عظيمًا، بنى أنظمة حديثة، كلتا ذراعيه كانتا ذراعي عثماني ويديه كانتا يدي مملوك، وهو في كل الأحوال ابن زمانه ووقته بكل دقة.
رد تقويمات خاطئة
محمد علي داعية تغريب
دحض المؤلف مجموعة من التقويمات الخاطئة لمحمد علي وبعض رجاله كرفاعة الطهطاوي ورفض كل ما يشيع من كتابات ترى أن محمد علي، هو من أدخل الفكر والثقافة الغربية في بلادنا، أو أن رفاعة رافع الطهطاوي كان الداعية للفكر الغربي الذي يمثل وجه التثقيف المتفق مع صنيع محمد علي السياسي والإنشائي، ورأى في كتابه تلخيص الإبريز أنه لم يكن معبرًا عن فكرية تتعلق بمحمد علي وحكومته، ولا كان فيما ورد به يمثل دعوة للمفاهيم الفكرية والفلسفية والسياسية الغربية في مصر.
مجرد حملة لم تحمل تنويرًا
أكد المؤلف أن الغزو الفرنسي لا يمكن أن يكون ذا أثر في القضايا الثقافية الخاصة بالتنوير والتحديث التي نعرف جميعًا أن التحولات بشأنها تستلزم أوقاتًا أطول ومجاهدات أشق وأزمانًا تتوالى، فقد كان عملية غزو أجنبي فاشل لم يكتب لها البقاء أكثر من 1200 يوم، لا تكفي وليدًا لأن يحسن الكلام، فالتنوير والتحديث كان من نصيب ودور محمد علي عندما صار واليًا على مصر.
ليست حركة قومية
ليس من الصواب من وجهة نظر المؤلف أن حكم محمد علي لمصر كان يعكس حركة مصرية قومية تستهدف الاستقلال لمصر عن الدولة العثمانية، لأن سوابق عزل الولاة وتغييرهم والمساهمة في اختيار البديل كانت قائمة، وحركة المصريين كانت لاختيار وال عثماني تركي المنشأ، وهو من النخبة العسكرية ذات السهم في حكم مصر وقتها من بين الكثير من المتصارعين على هذا الحكم من داخل هذه النخبة، والإرادة المصرية التي اختارت محمد علي كانت تدور في هذا الإطار، وهي تعبر عن حركة ترفض الظلم من الحكام وتستهدف الأعدل والأصلح، وليست تستهدف انفصالاً واستقلالاً سياسيًا تبلوره جماعة سياسية وتفصله عن دولة الخلافة وقتها، فهي حركة تدور في الإطار العثماني.
عبر التاريخ للحاضر والمستقبل من خلال كلمات البشري التي اختلط فيها التاريخي بالسياسي
إن من أحداث التاريخ ما يأخذ أهميته لا من ذاته وأهميته الخاصة، ولكن مما تداعى عليه من آثار ليست من صنعه ولا من تصميم من أحدثوه، كما أنه قد يصير علامة على هذه الأحداث دون أن تكون نتيجة له.
النخبة الواهنة تسير في طريق الضمور والتحلل التاريخي مهما طال بها الزمن.
عندما يفشل الحكام في الدفاع عن بلادهم ويتخلون عن الدفاع عنها والفرارأمام الغزاة، ينتهي دورهم في حكم أي بلد، لأن أول واجبات من يتأهل للحكم ويبقى فيه هو قدرته على الدفاع عن هذا البلد ضد مخاطر الخارج.
حتى تفهم تاريخ حاكم أنظر في وقائع حكمه في إطار عصره ودون أن تضيف إليها عناصر أخرى من عصرك.
عندما يتولى الحاكم السلطة، يجد على الفور أول مشغلة له هي إدارة الشؤون اليومية للمجتمع الذي تسلطن عليه، ويجد على الفور، وبل إدارة المجتمع، أن يمسك بمفاتيح جهاز الدولة، وأن ينظر في احتياجات هذا الجهاز وما يكفل له استمرار الحركة وعدم التوقف، وما يكفل له الانصياع والاستجابة لقيادته الجديدة.
وأول ما يواجه الحاكم أن يمسك بـ “الآلة” وهي دائرة، ولا بد أن تبقى دائرة، وأن يوجه أولى حركاتها لإدارة الشؤون اليومية للمجتمع، حتى لا يفاجأ بما لم يعمل له حسابًا، ثم بعد ذلك يفكر ويعمل على تطوير هذه الآلة وتحديثها وعلى تغيير ما يرى تغييره من شؤون المجتمع.
عندما تمسك بآلة الحكم الدوارة، ففي البداية هي التي تديرك ولست أنت الذي تديرها ولن تستطيع أن تقبض عليها وتسيطر إلا إذا درت معها دورات تزيد وتنقص حسب قدرتك عليها وقدرتها عليك وحسب سابق خبرتك بها أو بما يماثلها.
الحاكم أيًا كان سعيه للإصلاح لا بد أن يبدأ بالقوى الموجودة، بحسبانها الأدوات التي يبدأ بها تناول الأعمال.
الأصل أن كل من شارك في حدث سياسي ما، من القوى السياسية المحيطة بهذا الحدث، كل من شارك في هذا إيجاد الحدث إنما يشارك في نتائجه، إلا أن تطغى إحدى القوى المشاركة على غيرها، أو أن يوجد من الأسباب الذاتية لإحداها أن تنسحب.
كلما كانت السلطة الدولة متبلورة بأجهزتها وهياكلها وقواتها التنظيمية، كلما كان الصراع السياسي عليها أوضح رشدًا، وكلما كانت السياسات المتنازع على أتباعها أكثر تبلورًا، وكلما كان هذا الصراع السياسي أكثر حسمًا في نتائجه وأسرع في الوصول إلى غاياته، إنه مثل الصراع على السيطرة على قلعة مشيدة، يدور لامتلاك نواصيها، وإن القوة التي تمسك الزمام ينكفل لها سريعًا إدارة القلعة لحماية نفسها بها وإخماد أنفاس المنافسين، بعكس ما إذا جرى الصراع لا حول قلعة مؤسسة، و لكنه يجري في العراء لبناء قلعة، فيكون الصراع معارك متناثرة غير قابلة للحسم السريع.
من عادة الحاكم الفرد ألا يبقي من ولاه أو ساهم في ذلك ممن يستطيع إبعادهم
في السياسة أنت ترث من تغلبه ويئول إليك موقعه وتضاف إليك قوته.
على الرغم مما نلقاه من عنت مع أجهزة الإدارة المصرية فإنها تظل أبقى ما شيده المصريون من مؤسسات استطاعت أن تنمو في ظروف تاريخية شديدة الصعوبة، وهي أنجع ما راكم من خبرات المصريين وتجاربهم في الحكم و في الإدارة، وفي القضاء، وفي الإشراف على الإنتاج، وهي من خرج منها الغالبية الغالبة من زعماء مصر وقادتها، عسكريين ومدنيين، على امتداد القرنين الأخيرين، وهي أهم ما جمع من كفاءات التخصصات العلمية والإنتاجية والحكومية والعسكرية والأمنية.
النظم الحديثة بما تنطوي عليه من توزيع للعمل وتقسيم له، إنما تكسب السلطة المركزية قوة يصعب جدًا تحديها من داخل الأطر النظم إلا في فترات التفكك والاضمحلال.
الأثر الفكري للفكر التشريعي لمجتمع آخر لا يرد من أنواع الحلول والأحكام التفصيلية التي تستدعي لتنظيم المعاملات، لكن المهم هو المرجعية الفكرية التي تصدر عنها هذه الأحكام من حيث أصل التناول الفكري والتي يرجع إليها في النهاية الحكم بالصواب والخطأ من الناحية الثقافية العامة.
المرجعية هي الأصول الفكرية والثقافية التي تنبني عليها تنظيمات المجتمع وتشكيلاته الحياتية كنظم اجتماعية ونظم حكم وهيئات وتشكيلات عامة.
من يريد إصلاح إدارة الدولة، لا بد أن يصلحها بواسطة أداة لديه، وأدوات الحاكم هي أجهزة الدولة، أي أن من يريد التجديد لا بد أن يجريه بواسطة القديم، أي أنه يكون مطلوبًا من الإدارة القديمة أن تنفذ ما من شأنه أن ينفيها.
إن القوى المتصارعة في ظروف تكاد تتعادل فيها موازين هذه القوى ضد بعضها البعض، من شأن ذلك أن يفقد القوى المتصارعة الغالب من قواها، وهذا مما يمكن القوى الصغرى من الترجيح والظهور، ومع إدارة رشيدة للصراع يمكن لها أن تسيطر.
فكر رجل الدولة لا يعبر عنه بالكتابة ولا بالخطابة في الأساس، وهو فكر لا نستقيه فقط من أقواله ونصوص عباراته، لأنه لا يعمل بالدعوة بقدر ما يعمل بتقرير وجوده واقع جديد، ومن ثم فنحن نستخلص فكره من أفعاله، ومن طرائقه في رد الفعل، من قرارته وما ينشئ من مؤسسات وتشكيلات، ونحن نعرف مثلاً وطنيته لا من دعاويه، ولكن من أنه ينشئ جيشًا قويًا، وسياساته نعرفها من توجهاته العسكرية والعملية وهكذا.
معضلة أي حاكم في بلاد محاطة بالطامعين الذين يحتاج لمعونتهم، كيف يمكنه أن يأخذ من الطامعين فيه ويحتفظ بمناعته إزاءهم، وأن يستفيد من علومهم وصنائعهم ليقوي نفسه على أطماعهم فيه.
من عادة الحاكم الفرد في أي مجال أن يتخلص من القرناء أو الأنداد أو القريبين من مستواه، باعتبار ذلك مهيئًا ومسوغًا لفرض الهيمنة وإسلاس علاقات الآمر بالمأمورين.
خاتمة
اتفق أو اختلف ما شئت أن تختلف مع تقويم البشري لمحمد علي وأعماله وأسباب فشل مشروعه أو تحليل وتفسير حروبه وسياساته أو وضعه في تاريخ عصره وتاريخنا، وقل ما شئت في رأيه في محمد علي، لكنك واجد الكثير من اللمحات الذكية التي تفيد زماننا وحاضرنا ومستقبلنا، وتعيننا في فهم متعاطف عقلاني مع تاريخنا ونظم حكمنا، ورجالنا، يعيد للتاريخ قيمته ووظيفته، وللمؤرخ دوره ومهمته، وللسياسة مكانتها، وللجغرافيا حيويتها،و للوطن استقلاله، وللأمة مناعتها.
ملحوظة أخيرة بخصوص تاريخ كتابة ونشر هذا الكتاب
كتب هذا البحث في ظروف عصيبة من تاريخ مصر(2005)، في لحظة تحول أنتجت فيما بعد ثورتها، كانت نخبة مصر الحاكمة في سبيلها للزوال عندما فقدت أي مبررات لاستمرارها في حكم البلاد، وتاريخ نشر هذا الكتاب (2013) لحظة زلزال سياسي ضرب مصر وعالمها العربي ومحيطها عبر ثورات الربيع العربي وتوابعها المستمرة معنا لزمان ليس بالقصير، وفي هذا الإطار وبإضافة وجود المؤلف في مكان قريب من مواقع صناعة القرار في لحظة يناير المجيدة بل وصناعة الدستور والقوانين تجعل من قراءته أمرًا يتعدى بكثير محمد علي ونظام حكمه، إن قراءة هذا الكتاب تأخذنا بعيدًا لنقف على مشارف مستقبلنا القادم لا أمسنا الذاهب.
في هذا الكتاب أجندة بحث في السياسة والتاريخ والجغرافيا والاستراتيجيا وعلم النفس السياسي وفنون الحكم والإدارة وفهم طبيعة البشر والمؤسسات والحكام، ودليل عمل لاستقلال وطني لنا نفيد منه في قابل أيامنا ومسيرة ثوراتنا نحو المستقبل حيث تحقق أهدافها.