انطلقت القوات المسلحة المصرية، للمرة الأولى في تاريخها، في عمليات موسعة ضمن المهام المفترض أن تضلطع بها الشرطة، في تحول خطير للعقيدة القتالية للجيش المصري. ففي كانون أول/ديسمبر 2010، نشر موقع ويكيليكس الشهير وثيقة سرية من وزارة الدفاع الأمريكية تشكو فيها الأخيرة وقوف القائد العام السابق للقوات المسلحة، المشير محمد حسين طنطاوي، كحجر عثرة أمام تغيير عقيدة الجيش القتالية. قاوم طنطاوي تحويل الجيش عن مهمته التقليدية كجيش مدافع عن الحدود تقام تدريباته على أساس الاشتباك مع جيوش معادية، إلى المهام المستحدثة؛ مثل مكافحة الإرهاب والقرصنة. موقف صلب أثنى عليه خبراء العلوم العسكرية والاستراتيجية، الذين رأوا في تحول الجيش إلى جهاز أمني داخلي خطراً قومياً ومصلحة إسرائيلية.
لم يعد الأمر في حاجة للتفاوض تحت قيادة خريجَيْ كلية الجيش الأمريكي للحرب في بنسلفانيا، وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي ورئيس الأركان صدقي صبحي، اللذين أنهيا دراستهما العليا فيها قبل عقدين من الزمان. انطلقت قوات الجيش الثاني الميداني، بقيادة اللواء أحمد وصفي، بتكتيكات غير مسبوقة، حيث تم قطع شبكات الاتصالات كافةً منذ الفجر وحتى المساء يومياً، وانتشرت تشكيلات نوعية برياً، تحت غطاء جوي من مروحيات “الأباتشي” المسلحة، وتم تعطيل الملحق الأمني من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، الذي يقيد بشدة انتشار القوات المسلحة في المنطقة الحدودية من سيناء.
تعطيل من المفترض أن يسعد المصريين باستعادة السيادة الوطنية على شبه الجزيرة التي حرروها بدمائهم، لولا أن بث التليفزيون الإسرائيلي خبراً عن زيارة مختصرة قام بها وفد عسكري رفيع المستوي إلى القاهرة يوم 14 أيلول/سبتمبر. وحين أثير الحديث عن تخفيض المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر إثر سقوط أكثر من 50 متظاهراً في ذكرى انتصارات تشرين أول/أكتوبر في العاصمة، كان موقف إسرائيل رافضاً لتلك الخطوة، وأكدت التصريحات الأمريكية عدم تأثر المساعدات المتعلقة بما أسمته مكافحة الإرهاب في سيناء بهذا التخفيض المحتمل. سياق تتضافر شواهده على تنسيق مصري إسرائيلي حفاظاً على معاهدة السلام الاستراتيجي، برعاية أمريكية.
لم تهدأ قوات الجيش الثاني الميداني عن العمليات شبه اليومية، تلك التي تكررت في أكثر من 15 قرية وتجمعاً سكنياً بدوياً في المناطق التابعة لمدينتي الشيخ زويد ورفح. بمرور الوقت، تراجع الجيش عن نفيه سقوط الأبرياء برصاصه، فقدم العزاء رسمياً لنجل الحاج حسن خلف، شيخ مجاهدي سيناء إبان فترة الاحتلال وبطل حرب الاستنزاف. كما قدم وزير الدفاع اعتذاراً عابراً في خضم حديثه في ندوة أقامها جهاز الشؤون المعنوية عن الخسائر التي أصابت المباني والأراضي، دون ذكر الأرواح البشرية. وتحول خطاب المتحدث العسكري إلى الفخر بتدمير بيوت من أسماهم “تكفيريين” دون ثبوت تحصن مسلحين بهذه المنازل أثناء الاشتباكات، وكذلك دون صدور حكم قضائي – ولو استثنائي – بهذه العقوبة.
إرهاب إعلامي
لم تدع السلطات العسكرية والأمنية مجالاً لظهور رواية إعلامية مغايرة لروايتها الرسمية. فأقرب الصحفيين إلى الجيش، الزميل أحمد أبو دراع، لم تشفع له علاقته الاستثنائية بالأجهزة الأمنية حين أبرز حقيقة القصف الجوي الذي طال قريته “المقاطعة” يوم 2 أيلول/سبتمبر. خرج أبو دراع من مقر نيابة الجلاء العسكرية بالإسماعيلية، بعد الحكم عليه بالحبس 6 شهور مع إيقاف التنفيذ، ليعلن أنه ابن المؤسسة العسكرية وأنه أخطأ ولن يكرر خطأه، في تسجيل مصور بثته وسائل إعلام مصرية. أما منسق اتحاد قبائل سيناء، الشيخ إبراهيم المنيعي (أبو أشرف) الذي كان ينقل وقائع الانتهاكات في حق سكان المنطقة الحدودية في سيناء عبر مداخلات تليفونية مع بعض الفضائيات، فقد نسفت القوات منزله ومقعده بالديناميت.
نجح الزميل حسام الشوربجي، نجل القيادي والبرلماني الإخواني السابق عبد الرحمن الشوربجي، في الهروب من سيناء، في حين وقع المواطن الصحفي سعيد أبو حج في أسر الاعتقال والمحاكمة المدنية الجنائية بتهم مثيرة للفكاهة. أما بقية الزملاء، الذين يضمهم اتحاد المراسلين والصحفيين في شمال سيناء، فهم بين التهديد بالمحاكمات العسكرية والمدنية، وبين الحذر من الجلسات العرفية، وليسوا في مأمن من استهداف الجماعات المسلحة، أو المتظاهرين الذين حطموا كاميرا الزميل أيمن محسن أثناء تغطيته مظاهرة مؤيدة لمحمد مرسي.
وسط هذه المخاطر، نجحت “الأخبار” في التجول الميداني على مدار ثلاثة أسابيع متفرقة، بين مدن العريش والشيخ زويد ورفح وأغلب القرى المحيطة التي تم تنفيذ العمليات فيها.
معاناة إنسانية وانتصارات قليلة القيمة
في الأسبوع الثاني عشر من الحرب/العمليات العسكرية الموسعة، أعلن المتحدث العسكري يوم 26 تشرين ثان/نوفمبر عن مقتل محمد حسين محارب، الشهير بالشيخ “أبو منير”، أحد أخطر قادة الجماعات المسلحة في سيناء، وذلك أثناء الاشتباكات معه ومع بعض العناصر في قرية “المقاطعة” جنوب مدينة الشيخ زويد. كان أبو منير إماماً لمسجد يشتهر باسمه، وهو المسجد الذي سبق أن تم قصفه بمروحية الأباتشي مرتين في بداية العمليات، رغم خلائه من أي مسلحين لحظتيْ القصف.
من آثار الدمار داخل مسجد “أبو منير” بقرية المقاطعة – الصورة التقطت الثلاثاء 10 سبتمبر 2013
خبر مهم، لكنه فقد أهميته إذ أتى قبل مرور أسبوع على التفجير الذي استهدف حافلة للجنود فقتل 11 جندياً وأصاب 35 آخرين. حجم التفجير وتوقيته وكيفية تنفيذه تشكك في الجدوى الحقيقية للعمليات الموسعة التي لم يعد من يقين حولها إلا اكتواء السكان المحليين بنيرانها. وقع التفجير في نهاية الأسبوع الحادي عشر، وهي فترة كفيلة بتحقيق انتصار كبير أو ضرورة تغيير الخطة، لكن أياً منهما لم يحدث. وهو الأسبوع نفسه الذي بثت فيه جماعة “أنصار بيت المقدس” تسجيلاً مصوراً للشاب الانتحاري الذي نفذ تفجير مديرية أمن جنوب سيناء في 7 تشرين أول/أكتوبر المنصرم.
على مدار الأسابيع المتعاقبة لم يبرح الجنود والضباط أن يتساقطوا، بإعلان رسمي أحياناً، وبتعتيم غالباً. لا يستثنى من التعتيم سوى ما يتسرب للمحليين من سكان العريش من أخبار عبر العاملين في المستشفى العام أو العسكري أو مرفق الإسعاف. أخبار يعرفها من كان سعيد الحظ بعدم اعتقاله عشوائياً، أو إصابته برصاص طائش من الجنود الذين يطلقون نيران أسلحتهم الخفيفة والثقيلة كافة، بسبب وبدون سبب.
يعيش سكان العريش في معاناة شديدة بسبب قطع الشوارع بحواجز أمنية من الرمال وتغيير مسارات الطرق إلى دروب غير ممهدة. ويعود الأطفال من مدارسهم مذعورين من التهديدات بالاعتقال العسكري التي يوجهها لهم المعلمون لتحذيرهم من الاقتراب من أسوار المنشآت العسكرية المتاخمة. أما أصحاب المزارع الواقعة جنوب العريش في طريق المطار وعلى الطريق الدائري، فقد خسروا ملايين الجنيهات للموسم الحالي وعدة مواسم مقبلة، بسبب تجريف أشجارهم واقتلاعها لكشف المساحات التي يشكو الجيش من التعرض لهجمات من ناحية بعضها.
لكن معاناة سكان العريش تعد ترفاً مقارنة بأحوال سكان مدينتي الشيخ زويد ورفح وقراهما التابعة الذين يطبق عليهم حظر التجوال مع غروب الشمس، رغم انتهاء الحظر في أنحاء الجمهورية، وذلك دون قانون أو قرار رسمي معلن. المسافة بين العريش والشيخ زويد، التي تستغرق في العادة 20 دقيقة، صارت تستغرق أكثر من ساعة ونصف، في المتوسط، بسبب التفتيش والالتفاف حول نقاط الارتكاز الأمني المغلقة على الطريق الدولي. بعد إحراق إحدى سيارات الإسعاف من قبل مسلحين، صدر قرار من وزير الصحة بعدم انتقال سيارات الإسعاف إلى الشيخ زويد ورفح بعد الساعة الخامسة مساءً، ما يعني حكماً بالإعدام على الحالات الحرجة. وحين يجري السكان اتصالاتهم بالأجهزة الأمنية يكون أفضل ما يصلون إليه هو السماح بمرور سيارة الإسعاف مع التبرؤ من مسؤولية إطلاق النار عليها من قبل الجنود في نقاط الارتكاز الأمني!
العقوبات الجماعية
تعيش المنطقة الحدودية في سيناء أسوأ لحظات التطبيع، فصار الحديث عن الانتهاكات والقمع مرادفاً للسؤال الروتيني عن أحوال الأسرة أثناء ارتشاف الشاي في مقاعد الضيافة. حين تعجبت للجندي الذي أطلق زخات من الرصاص من فوهة المدفع فوق المدرعة أثناء مرورها أمام موقف السيارات في الشيخ زويد، كان اندهاشي الأكبر أن أحداً من المحليين لم يلتفت، وكأنه صار طبيعياً أن يُطلَق الرصاص في الهواء بلا أدنى داع. ولولا أني اعتدت على سماع إطلاق الذخيرة الثقيلة بكثافة شديدة في العريش، لما صدقت رواية الأطفال الذين صاروا يتعلمون الحساب على عد الطلقات، أو الشباب الذين يتنافسون على التمييز بين أنواع السلاح المستخدم بالتفرقة بين الأصوات.
أما الانتهاكات والجرائم النظامية في حق السكان من المواطنين المصريين واللاجئين الفلسطينيين المقيمين بشمال سيناء، فقد صار حديثاً ممجوجاً يزهد فيه أصحاب المظالم الذين يئسوا من دوام الشكوى دون بارقة أمل في رفع الظلم عنهم أو تعويضهم، سواء بوفاء الجيش بوعوده المتكررة عن التعويضات أم بالتعويض القضائي العادل، أو حتى بالإنصاف الإعلامي والحقوقي. فالقصف الجوي والبري قد استهدف المنازل والمساجد والمدارس المبنية بالجهود الأهلية، والنساء والأطفال قد قتلوا داخل منازلهم التي قصفت دون سابق تحذير بالإخلاء، والسيارات وأثاث البيوت قد حرق بلا سبب، وحلي النساء قد نهبت، بل حتى أقوات الأطفال وأغطيتهم طمع فيها جنود القوات المشاركة في العمليات.
من بين مئات القصص والشهادات، تأتي واقعة مصادرة 17 عجلاً قبيل عيد الأضحى من أحد تجار المواشي في رفح كمثال فريد على استباحة القوات النظامية لبيوت السكان وأموالهم. يقص الواقعة محامي التاجر، وهو مؤيد لخارطة الطريق التي فرضها الجيش يوم 3 تموز/يوليو ومن أنصار السيسي، مؤكداً أن العجول كانت تحمل شهادات صحية بيطرية، وأن التاجر ليس له علاقة بالأنفاق. وقد اكتشفوا من العلامات المميزة في آذان رؤوس الذبائح أن القوات قد استولت عليها وأطعمتها لضباطها وجنودها على فترات متقاربة، منها 3 عجول ذبحت صبيحة يوم العيد.
لم تكن هذه هي صورة الخسائر الاقتصادية الأكثر شيوعاً بين سكان رفح، فأغلب الخسائر كانت بسبب تجريف مزارع الزيتون والموالح والفواكه في زمام 500 متر من الحدود مع قطاع غزة، لإقامة المنطقة العازلة التي تكررت مطالبات الجانب الإسرائيلي بها لمكافحة الأنفاق. أما مدينة الشيخ زويد، فلا تزال سوقها الرئيسة معطلة، ولا تزال عشرات المحلات مغلقة دون أفق تتضح فيه موعد إعادة فتحها، لا لشيء إلا لأنها في محيط قسم الشرطة المراد تأمينه. صحيح أن القوات توقفت عن الهدم العشوائي للمنازل في الشريط الحدودي بمدينة رفح، إلا أن التعسف في الاعتقال العشوائي والتعذيب القاسي لم يتوقف بعد. وقد تكرر خلال هذه الأسابيع الاثني عشر أن يختفي معتقلون في غياهب “الكتيبة 101″ بمدينة العريش ثم يتسلمهم أهلهم جثثاً هامدة، أو يكتشفهم المارة ملقين في أوحال نائية على جنبات الطرق في البوادي.
ليس الجيش وحده من يهدد السكان بالعقوبات الجماعية، بل الجماعات المسلحة أيضاً، التي أعلنت في بيان غير مسبوق في الأسبوع الخامس من العمليات أنها تحكم بالكفر على كل من يتعاون مع الجيش، وأن جزاء أولئك هو القتل الفوري. بين مطرقة الجيش وسندان الجماعات المسلحة، سمعت بأذني من يحمد الله على اكتفاء القوات بإحراق سيارته دون تدمير البيت أو اعتقال أي فرد من أسرته، وذلك كي يكون لديه دليل يبرؤه أمام الجماعات من تهمة التعاون مع الجيش.
تفريخ الإرهاب
دخل أحد معلمي إحدى المدارس الابتدائية في المنطقة الحدودية إلى التلاميذ في حصة فارغة، وطلب إليهم رسم ما يشاءون في أوراق من دفاترهم. فكانت أغلب الرسومات لسيارات ذات دفع رباعي تحمل مدافع مضادة للطائرات تشتبك مع قوات الجيش وتقصف نقاط التفتيش والطائرات والمدرعات. اللافت في إحدى هذه الرسومات، وقد نشرها المعلم على موقع “فايسبوك”، أن الرجل الملثم ذا الجلباب الذي يقصف الطائرة، وفق تصور الطفل، يرفرف خلفه علم مصر. وهي تفصيلة مركبة جداً تستدعي التحرر من الصور النمطية السائدة كي يمكن فهمها. لكن بغض النظر عن مغزاها، يظل مجمل الصورة مرعباً في مجتمع لم ير من الدولة ماءً ولا مرافق، ولا تعليماً جيداً، ولا رعاية صحية، ولا توظيفاً وتشغيلاً، ولا حماية للحق في السكن.
الصورة كما نشرها المعلم على صفحته المفتوحة على فيسبوك
في تلك الناحية من مصر، التي لم تر الجيش النظامي منذ الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 إلا بعد انسحاب الشرطة في ثورة يناير 2011، يبدو أن الجيش لم يستوعب الدرس الذي لا تزال الشرطة تدفع ضريبة تعلمه بعد استخدامها العنف المفرط والقمع الجماعي العشوائي ضد البدو. مجتمع لا ير من الدولة سوى الحكومة، ولا يعرف من الحكومة سوى الأجهزة الأمنية، عقد آماله على الجيش الذي طالما ارتبط به وجدانياً بذكريات البطولة والانتصار من أجل التحرير، ثم خابت تطلعاته حين رأى منه قسوة جعلته يترحم على أيام قمع شرطة مبارك. أما كبار السن ممن عايشوا السياسات الإسرائيلية إبان الاحتلال، فإنهم لا يفتأون يعقدون المقارنات بين سلوكيات القوات النظامية الإسرائيلية والوطنية. مقارنة لا تسر نتيجتها أياً من القائل أو السامع.
نُشر هذا التحقيق لأول مرة على مدونة الكاتب المتخصصة في الشأن السيناوي: أحب سيناء