فاجأني في الآونة الأخيرة قرار الحكومة التونسية القاضي بإعادة تمثال الرئيس الراحل وأبو الجمهورية الأولى الزعيم الحبيب بورقيبة من منطقة حلق الوادي الواقعة في الضاحية الشمالية للعاصمة إلى مركز المدينة أي بشارع الحبيب بورقيبة أهم الشوارع الرئيسية.
الحقيقة أن المفاجأة لم تتعلق أبدًا بشخص هذا الزعيم ولا بأي خلاف أيديولوجي بين ما أتبناه من أفكار وما دافع عنه الرئيس طيلة حياته مطلقًا، وهذا يعود أساسًا لعدم اختلافي معه في عدد من النقاط رغم تحفظي على عدد آخر.
إلا أن المفاجأة تعلقت بحجم المبلغ الذي خصصته الحكومة لنقل التمثال وتعميم القرار على عدد من المحافظات منها المنستير معقل الزعيم وبنزرت وسوسة والمهدية والقيروان وغيرها من المحافظات والذي ناهز 300 ألف دولار لكل محافظة لإتمام نصب التمثال أي ما قيمته مليون ومائتي ألف دولار تقريبًا، في وقت تعيش فيه الدولة أزمة مالية خانقة ونسبة مديونية مرتفعة قاربت الـ 47% من الناتج المحلي وهو ما ينبئ بكارثة اقتصادية تتجه نحوها الدولة.
من ناحية أخرى وبعيدًا عن لغة الأرقام والنسب دعونا نلقي نظرة بسيطة على واقع الدولة إبان العهد البورقيبي الذي مثّل مرحلة مهمة من تاريخ تونس؛ حيث شهد بناء الدولة القائمة على المؤسسات، وتم التركيز على التعليم والصحة كقطاعين أساسيين في الجمهورية الأولى التي طالما مثّلت تجربة فريدة في العالم العربي، حيث كونت رصيدًا لا يستهان به في مجال التعليم من حيث الجودة ومن حيث تخريج الكفاءات وجعل منها مقصدًا لبلدان عربية وإفريقية حتى بداية التسعينات، أما على مستوى الصحة فلا تزال المؤسسات الصحية التي شيدت في عهد الزعيم الراحل شاهدة على توجه سياسته بغض النظر عن طريقة الحكم القائمة على منطق الحزب الواحد والرجل الواحد وقمع كل معارضيه من قوميين وإسلاميين وشيوعيين.
وحتى تتضح الصورة دعونا نلقي نظرة أخرى على ما هو موجود الآن وكيف تحولت هذه الدولة من دولة تستثمر في أهم قطاعين إلى دولة تستثمر في التماثيل والصور والأوثان.
وهنا تجيبني أرقام وزارة التربية المفزعة والتي تعكس حجم أزمة التعليم – القطاع الذي مثّل ولسنوات قليلة مضت عصب الدولة وشريانها – حيث قاربت نسبة المنقطعين عن الدراسة الـ 130 ألف منقطع نصفهم من الأطفال أي في المراحل الابتدائية، فيما تغيب الجامعات التونسية عن ترتيب الجامعات في العالم وهو ما يعكس أيضًا عمق الأزمة التي تمر بها الدولة على جميع الأصعدة.
أما الحديث عن قطاع الصحة فهو لعمري أمر مخجل؛ حيث بقيت دار لقمان على حالها منذ عقود وربما ازدادت سوءًا بعد أن تهالكت الأنظمة الصحية وتخلفت كوادرها عن ركب التطوير والبحث العلمي، وهنا تظل صورة ذلك الشيخ الذي يفترش الأرض في أحد ممرات مستشفى شار نيكول أكبر مؤسسة صحية في تونس حيث طال انتظاره ولم يسعفه الحظ في الظفر بعيادة طبيب تخفف آلامه، أتساءل وأنا أودعه ومتمنيًا له الشفاء العاجل، عما وصلت إليه البلاد من جمود وتقهقر؟
تونس التي انخرطت في مرحلة التحديث والتطوير وعصرنة المؤسسات منذ أكثر من أربعين عامًا، والتي كانت سباقة في تحديث وعصرنة مجتمعها ومؤسساتها، هاهي اليوم تتخلف عن الركب وتتأخر إلى ما دون المطلوب في مضمار الحداثة، فيما تقدمت دول كانت ولسنوات قليلة مضت تعتمدنا نموذجًا يحتذى به.
هنا يحق لي أن أتساءل عما ورثناه من الحكمة البورقيبة والسياسة التي اعتمدها في بناء دولة خرجت من حقبة استعمارية امتدت لثمانين سنة ونيف تنهشها القبلية والتخلف والفقر؟
أليس من باب احترام الذات واحترام التاريخ أن نواصل ما بناه الرجل بدل الاستثمار في التماثيل وتحجير الأفكار وتجميدها؟ ألا يحق للرجل أن يسألكم عما قدمتموه من بعده بعيدًا عن تصدير الأوهام وتكليس العقول بالخرافة والمثيلوجيا التي لا طائل منها سوى مزيد من الاختلاف والتعصب وتسطيح القضايا وتشتيت الجهود؟