كان الوقت قريباً من الفجر ، حين نزولى قبل نداء الصلاة بقليل .. إذ فوجئ بواب العمارة التى أسكنها بعدد من صبية المراهقين يقذفون مدخل العمارة بوابل من الطوب والحصى ليقوموا بتكسير جزء من زجاج مرآة مدخل البيت ، على سبيل التسلّى والمعابثة والمرح الفارغ ، مع صرخات زجلة وضحكات متشفية ، لم تكن تلكم المرة أولى خطايا هؤلاء وتعديهم على مدخل بيتنا ، ما أدّى بالبواب إلى تعقّبهم والجرى وراءهم – مع اثنين من أبنائه الذكور ، خصوصاً وأنّ زجاج عربة أحد جيراننا المهذبين قد طاله حجر فكسّره ، وكلفة إصلاحه ليست باليسيرة ، وفرّ الصبية ذوى السنوات بين الثالثة عشر والخامسة عشر جميعهم ، ولم يستطع حارس العقار الظفر إلا بواحد منهم كانت له بنية ممتلئة ، وهيئة ضخمة ثقيلة ، حالت بينه وبين السرعة والمراوغة والفرار.
وكان المشهد مصريّاً بشدّة ، صبىُّ مدان بجرم مشهود ، يتحلّق حوله الناس ، ويحاوره البواب وأبناؤه مع انضمام الحاضرين من السكّان والمارّة وأهل الفضول .. للوقوف على هوية شركائه الفارّين ، لكن الولد أبدى صموداً وبسالة ، وتكتماً على تعريف أصدقائه وشركاء فعله ، وبعد التلويح بالذهاب للقسم ، أو التعامل العنيف ، أو الحبس والتقييد بمدخل العمارة حتى الإقرار .. بعد هذا كله لم يزد الولد عن قوله وتسميته لرفيق مجهول
“أنا معملتش حاجة ، سفينة هو اللى عمل .. أنا برئ ، سفينة هو اللى حدف وكسرالإزاز”
وما سبق حال ، والتالى من هنا واقعة وقصة أخرى ، إذ يبدو أنّ إصرار الولد على الإنكار الدائب ألهَبَ قريحة ابن البواب فاستلم ملفّ التحقيق زاعقاً متجهماً – وهو ذو الإحدى عشرة سنة – ونَهَرَ الولد الصامت باستفهام مدوٍّ وصبر قليل متعمَّد
“فين سفينة ياض؟”
وكان ابن البواب – اسمه أحمد – يتقعّر الأحرف – ياض بدل ياد – ويفخّم مخارجها ويذبذب لحن الصوت بجشّة مستجدة جعلت كل المتابعين ينسى الحدث ، ويطيل التركيز مع المذنب الصغير – الطويل صاحب الجسد الممتلئ – والمحقّق الأصغر ذى العود الضئيل والنحافة الظاهرة ، والجرأة المنبثقة من تدرعه بالجمع المتسلّى.
ثمّ نفخ المحقق السعيد بحيثيته وحضوره زفيراً مسموعاً وأعقبه وعيداً يرن فى أصداء الليل
“يعنى معاوزش تجول – تقول – فين سفينة ياض؟ طب أنا راح أعرف أخليك تتكلم”
ودخل أحمد لغرفة أبيه ، والملأ من حوله شغوف ، مستمتع ، منتظرين إسفار مشواره ، والأخيلة مستفزّة ، والتصورات مرسومة ، وإن هى إلا بضع دقائق حتى عاد أحمد – الهارب من المدرسة – بعصا غليظة مطوّلة ، والأكثر إضحاكاً نظارة شمسية مفرط سوادها ، ونحن قبل الشروق بقرب الساعتين ، بدا من ضخامة نظارته كأنها هى التى تلبس وجهه وليس العكس ، وحين كان يتكلم كنا نتخيل تعبيرات وجهه التى استوعبتها النظارة وأخفتها مع الوجه المستور أسفلها.
أمعن أحمد فى التهديد ، والاستنطاق ، والتوعّد ، بشكل أحال المتهوم مرتجفاً ، ووجدت نفسى أنسحب ذهنياً تماماً من الواقعة ، والمفارقة ، والضحكات ، لأضاهى “أحمد” الذى أعرفه قبل الحدث هادئاً قليل الكلام ، يطيل التأمّل ، واللعب ، بأحمد الذى توحّش مفاجأة ، ثمّ أخرج من مخزون شخصياته نقيضه الفعلى الجاهز للحضور فى خطة طوارئ مهيّأة ، مكتملة الأدوات ، الطاغية المبطون الغائب المستحضَر ، الحقيقى المتوارِى المصطنَع المستدعَى ، التحوّل ارتجالى تماماً ، وفق استدعاء طارئ لم يغب عن الافتراض الطفولى فى حالات السلم ، ما رأيت معه قبلها نظارة ولا عصا ، ولا حنجرة زائرة – من “تزأر” لا “تزور” – مستخشنة تجليات صوتها.
مخيف جداً – أكثر من اللحظة – التدبير الوقائى الاستشعارى لها ، خاصة في مشروع أحلام طفل ليس له واقع حقيقى ، وذاك البلاء الحائق بدخيلة أطفال كهذا هو استشراف بؤسنا المجتمعى في مستقبله قبل يومه. فكرة أن تدخّر طاقة قهر وتحيك لوازمها على مدى مطوّل يجعلك تفتح أبوان الخيال لفئات أقل حظّاً كأطفال الشوارع والسجون.
إنه التجلّى التلقائى للطاغوت الكامن فينا مجتمعياً وفى تفاصيل التيه الذى اصطلحناه حياة ، يستوى فى المقام إن كان تلقّاه فى عمل فنىّ أو رنة يد الأسطى على استطالة القفا ، أو تصعيرة خدّ أحد السكان ، ربما تقطيبة لمدرّس ، أو مجرد اختطاف حصته من الخبز – هم لا يرون اللحم – على يد أخٍ أكبر.
وقد كان صاحب “سفينة” هو ظرفية استجلاب الطغيان ، ذاك “الخُلق” الذى يؤاخينا ويخاوينا وينبذر فى نواصينا ومؤسساتنا وجنبات البيوت ، كيف تكيّف الهارب من التعليم ، الفاشل فى ورشتين ، الساكن فى غرفة منحوتة استفراغاً مستقطعاً من بئر السلم ، من التهيؤ الآنىّ المطاع ، أين يُسكّن آلياته ، وكم لديه مما لم نره؟ وكيف استأسد بالجمع المحتشد محيلاً للجميع إلى جند مستخدم لإظهار حلم المحقّق ومنفذ العقوبة؟
تماماً كما يرتجلون المخترعات وآليات تسهيل الحياة فى المجتمعات المفكرة ، فإن أبناءنا لا يحتاجون مدارس ولا مكتبات لتقمّص الاستبداد ، وإنما هو سليقة سلسة تسيل فى وادينا وصحراوات أنفسنا ، وأقسى وأقصى عقوبة لمجتمع أن يتم تمكين مثل هذا الحالم الصغير وأمثاله من رقاب حالمين بالحرية أو حتى بفرصة المجادلة العادلة بغير استخدام القوة الجمعية المُخرِسَة
ونحن لا نَعدم الطواغيت .. ربما لأننا لا نُعدم الطواغيت!
( انصب النون فى “نعدم” الأولى ، وضمّها فى الثانية ، واكسر ثورتك وحلمك فى أول طارق يرتجل الطغيان فيك )
صدقنى لن تَعدَمَ هؤلاء ، لكن لا أعدك بألا يُعدِمَك هؤلاء
مع مراعاة فارق التشكيل.