في خضم أحداث متلاحقة خاطفة كالبرق بين صعود وهبوط، انتصار وانكسار، ثورة وثورة مضادة، وفرص متاحة وأخرى ضائعة، أتيحت لبعض الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي، فكان التكالب المأفون من طرف والتقديرات والاجتهادات الخاطئة من طرف آخر لوحة فنان ترسم بجلاء صورة المحنة والمستقبل الدموي الذي تعيشه الآن النخبة الإصلاحية في العالم العربي والإسلامي.
وبطبيعة الحال وبرصيد الخبرة المتجذرة في النخبة الإصلاحية من خلال معرفة السنن الكونية ودراسة الرواسب التاريخية والوعي بطبيعة الصراع وفهم الإمكانات والفرص المتاحة، كان لزامًا على هذه النخبة المتمترسة برصيد تجارب سابقة وبرصيد شعبي تراكمي أن تقلل من حجم الاجتهادات الخاطئة وتحسن استغلال الفرصة وترسم لوحة مغايرة لطبيعة الصراع الذي نحياه جميعًا الأن.
ولأننا نفهم دوافع وطبيعة الطرف الأول المتكالب والمأفون والتي ترمي إلى تقويض أي تجربة إصلاحية من شأنها تغيير موازيين القوى ومعايير النخبة الحاكمة والخريطة المجتمعية، والتي أجادت استغلال الفرص المتاحة وتحويلها لنقاط قوة، فلا نفهم دوافع وتبريرات الطرف الثاني في إهدار الفرص وتبني رؤى وأفكار واجتهادات خاطئة استنزفت رصيد القوة لديه، وأفقدته كل شيء، وللأسف فمازال هناك من يرفع لافته المجتهد المخطئ المأجور، والذي يحيا متربعًا تحت شعار قدسية صدق النوايا وطهر الأهداف، على عرش السلطة العقلية والقلبية لمريدين استبد بهم الهوى فأصبحوا لا يرون في أفعال شيوخهم أو قادتهم أو حكامهم إلا يد الله التي تعمل في الخفاء، وقدره الذي يحجب في باطنه صواب أفعالهم ودقة أرائهم، وإن كان ظاهرها في حاضرهم لا يؤول إلا خطئًا، فهم يستظلون بمعية الله وبركته في صوابهم وخطئهم، فهم في كلا الحالتين مأجورون.
كل ذلك بعيدًا عن المؤسسية والشفافية والحق الأصيل في محاسبة المخطئ في محاولة لتدارك حالة الفشل والحيلولة دون تكرار الأخطاء، وأيضًا الخروج من حالة التيه وفقدان بوصلة الأهداف وضبابية المستقبل، والتردي في محاولات تبرير الماضي وتسكين آلامه وتجميل أخطائه.
فأردنا أن نلقي الضوء على مفاهيم مغلوطة وممارسات خاطئة لعلها تساهم في رسم مستقبل مؤسسي يتجاوز التوهمات ويبني معايير الإجادة والجدارة ويحسن استغلال الفرص المتاحة وينجح في تحقيق الأهداف، ويتخلص من حالة الدوران في فلك الفراغ.
المسألة الأولى: طبيعة وحدود الاجتهاد
فالاجتهاد كما عرّفه الغزالي في المستصفى: بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، وسواء أكان هذا الاجتهاد في الشريعة أو الحكم أو الدعوة أو السياسة أو الإدارة أو ما كان، فإنه يرتبط بشروط عدة منها: بذل الجهد، والأخذ بالوسائل والأسباب، وامتلاك سبل المعرفة في المجال، وحيازة أدوات الاجتهاد، وفي الأخير تحقيق المصلحة ودرء المفسدة.
المسألة الثانية: معايير الحكم في خطأ وإصابة المجتهد
هناك معايير للحكم على صواب وخطأ الاجتهاد للحاكم أو القائد أو المدير أو كل راعٍ ومسؤول من خلال:
1- إحراز النتائج وتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات.
2- تقييم آليات الأخذ بالأسباب والوسائل.
3- الارتكاز على قيم مؤسسية وشرعية في الاجتهاد بتبني رأي أو فعل.
وبالتالي فمن حق الرعية على الراعي المحاسبة ومن حق الأفراد على الجماعة الشفافية، ولا يمكن أن تؤول أفعال وقرارات تسببت بمشكلات وأدت إلى كوارث ولم تحرز نتائج ولم تحقق أهداف، وظهر للجميع خطأها بأنها تحمل باطنًا وظاهرًا، ونقول للناس لو كان الظاهر خطأ فمن المحتمل أن يكون في باطنها في قدر الله صوابًا، فالأعرابي قديمًا قال البعرة تدل على البعير وأثر السير يدل على المسير ولم يؤول ولا يبطن فعرف الله سريعًا.
وبالتالي فلا يمكن لأمة عاشت بين ظهراني القرآن العظيم أن تفتقد عناصر تقييم الخطأ وملامح معرفة الصواب وأن تستمر في تبرير الخطأ وتأويله بهذه الطريقة التي تكرس الظلام وتمنع بصيص النور أن يختلج عقول الأمة.
المسألة الثالثة: العلاقة بين الاجتهاد والخطأ والصواب
الأصل في الاجتهاد والدعوة إليه ليس الاجتهاد للوقوع في الخطأ فهذا استثناء مشروط، ولكن الأصل الشرعي والإنساني بأن المجتهد المستفرغ للوسع الآخذ بالأسباب والسنن والوسائل، والمستظل بقدر الله وقدرته، سيصل حتما إلى الصواب مصداقًا لقوله تعالى “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا” وإن لم يصل في أول الأمر فحتمًا مع تكرار الخطأ ونية بلوغ الهدف بشروطه يصل إلى الصواب، فخطأ المجتهد خطوة للوصول إلى الصواب وتحقيق الهدف.
وعندما روي البخاري عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر” وهو حديث أشكل على الناس فهمه واستنباط أحكامه ومقاصده، فالحديث دعوة من الرسول (صلى الله عليه وسلم) لكسر الجمود ومقاومة حالة السكون ورفض الاستكانة والرضي بالدون، هو دفعة نحو الحركة إلى الأمام والتطوير والنهوض المشروط للوصول إلى الغايات وتحقيق الهدف، فالأصل هو الاجتهاد للوصول إلى الصواب، وهو دليل على أن الحق واحد: من أصابه فقد أصاب ومن أخطأه فقد أخطأ، ولو كان الحق متعددًا لكان كل مجتهد مصيب، ولكن الأجر للمجتهد المخطئ في الحديث مشروط بأمور عدة منها:
1- الاعتراف بالخطأ وعدم المكابرة والعناد إذا بان له خطأه وإلا أصبح المجتهد أسوأ من الشيطان نفسه.
2- إعادة تقييم الوسائل والأسباب التي أدت للخطأ لتفادي تكرارها.
3- محاولة تغيير الاجتهاد الخاطئ للوصول الصواب.
فإذا فعل المجتهد المخطئ هذه الأفعال بعد قياس النتائج وتقييم الوسائل، كان مأجورًا على اجتهاده ونال أجرًا واحدًا على جهده ونيته وفقد الأجر الثاني المرتبط بالنتيجة والصواب، ومثال ذلك:
1- ما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) في حادثة تأبير النخل حيث يروي مسلم في صحيحه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقوم يلقحون النخل فقال: “لو لم تفعلوا لصلح”، فخرجت شَيصًا (الشيص: هو التمر الرديء)، فمر بهم فقال: “ما لنخلكم؟” قالوا: قلت كذا وكذا، قال: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”.
فالكل يتعامل مع الحديث بعيدًا عن غاياته ومقاصده وينبرون في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ونفي الخطأ وتبرير الواقعة، ولكن على النقيض فالرسول الكريم يعلمنا كيف يكون الاجتهاد ويحيي نموذجًا للمجتهد المخطئ صاحب الأجر الواحد الذي صحت نيته ولكن أخطأ اجتهاده، فاعترف بالخطأ ودعا الناس إلى الصواب وقام بالشروط سالفة الذكر لينال أجر المجتهد المخطئ.
2- ما فعله أبو الحسن الأشعري فلقد كان معتزليًا على اجتهاده وساد المدرسة الاعتزالية لفترة من الزمان وقال بكلام وآراء خالفت كلام علماء أهل السنة والجماعة، فلما قيم تجربته وأعاد النظر في اعتقاده واجتهاده وتبين خطأه خرج على الناس وأعلن خطأه، وقال لهم إنه خرج مما كان يقوله كما يخرج من جلبابه هذا وتبرأ من كل ما كان يقول، وعاد سيدًا عالمًا ينافح أهل الكلام واعتقادهم ويضرب المدرسة الاعتزالية في صلب أرائها المنفلتة.
هذا الرجل يأجره الله على خطأ اجتهاده أجرًا واحدًا لأن نيته كانت بلوغ الحقيقة ولكنه حاد عنها فله أجر واحد على ما فعل.
وعلى النقيض فلنر بعض النماذج للحاكم المجتهد المخطئ غير المأجور، والذي تحول اجتهاده إلى خطيئة، فكان كالمستظل بمظلة الشيطان، المتكبر فيما يقول والمتجبر فيما يفعل ولو كان الأجر للمجتهد المخطئ مطلقًا لكانوا أول الناس أجرًا منها على سبيل المثال:
– عبد الناصر يغلق مضيق تيران ويسحب القوات الدولية ويعلن الحرب على إسرائيل دون أدنى استعداد أو جهوزية، فنلقي هزيمة 67 وتضيع الأرض وتزهق أرواح الجنود، اجتهاد خاطئ لحاكم مستبد لم يبذل جهده ويستفرغ وسعه ويمتلك أدوات اتخاذ القرار، فأضاع البلاد وأهلك العباد فهل هو مأجور على اجتهاده؟
الأمثلة والأقيسة كثيرة ولا يُعقل في زماننا هذا أن نعذر راعيًا اجتهد في اختيار الطريق وسار برعيته فيه فانتهى بهم الأمر جميعًا صرعى من فوق حافة الجبل لأنه لم يبذل وسعه في امتلاك الأسباب والوسائل التي ترشده وتهديه إلى الطريق الصواب، فهذا الراعي لم ولن يكون مأجورًا باجتهاده الخاطئ لأنه أهلك الناس برأيه واختياراته.