العلاقات المدنية العسكرية في تركيا: هل انتهى عصر الانقلابات؟

1e5675cffcb34012b72830b71eeada05

تاريخ الجيش في تركيا

لعب الجيش التركي منذ تأسيس الجمهورية التركية في العام 1923 دورًا بارزًا في الحياة السياسية التركية، وذلك بعد إلغاء الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك، وهو الأمر الذي يجعل للجيش طبيعة خاصة في تركيا بسبب الجذور التاريخية والأيديولوجية المتعلقة ببناء الدولة ذاتها على يد كمال أتاتورك القائمة على الأسس العلمانية.

اعتبر الجيش نفسه حامي للجمهورية التركية ونظامها السياسي، الأمر الذي أدى إلى تنفيذه أكثر من ثلاثة انقلابات عسكرية في تاريخ تركيا، حيث يستولي الجيش على الحكم وينصب نفسه حارسًا لتعاليم أتاتورك ومبادئ الجمهورية العلمانية، وخط الدساتير والقوانين بعد كل انقلاب، فنأى بنفسه عن وزارة الدفاع وأصبح مؤسسة مستقلة تابعة لرئاسة الوزراء مباشرة بعد انقلاب عام 1960، ثم وضع دستور عام 1982 الذي تعمل به البلاد حتى الآن.

كان للجيش التركي في تلك الفترات مزايا اقتصادية واجتماعية خاصة، حيث سُمح للمؤسسة العسكرية التركية بالدخول في مشروعات اقتصادية توفر للمنتسبين إليها عوائد مالية إضافية دون الإفصاح عن الموازنة الحقيقية للجيش.

كما كانت عملية الالتحاق بالجيش في ذلك الوقت معقدة وتخضع لتقارير استخباراتية تستبعد كافة المرشحين للجيش من ذوي الميول السياسية حتى يحافظ الجيش على قوامه العلماني الأتاتوركي.

هذا الوضع التاريخي للجيش التركي يشبه كثيرًا الأوضاع في بلداننا التي تعاني من تسلط نخبة الجيش الحاكمة لذا من الجدير الاطلاع على تجربة تركيا في إدارة العلاقات المدنية العسكرية والتي أدت في النهاية إلى نجاح التجربة التركية الحديثة في إبعاد الجيش عن السياسة وإحراز تقدم في ملفي السياسة والاقتصاد بشكل غير مسبوق.

تاريخ الانقلابات العسكرية التي مرت بها تركيا

مرت تركيا بأربعة انقلابات عسكرية في تاريخ الجمهورية الحديثة، أول هذه الانقلابات كان في مايو  1960 أول انقلاب عسكري أطاح بالحكومة الديمقراطية المنتخبة ورئيس البلاد.

حيث قام الجنرال الجنرال “جمال جورسيل” ومجموعة من الضباط بالسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد، وأحالت وقتها هذه المجموعة بزعامة جورسيل عدد 235 جنرالا وخمسة آلاف ضابط بينهم رئيس هيئة الأركان إلى التقاعد، كما تم وقف نشاط الحزب الديمقراطي “المنتخب للحكم” واعتقل رئيس الوزراء “عدنان مندريس” حينها ورئيس الجمهورية  “جلال بايار” مع عدد من الوزراء.

صدرت أحكام بالإعدام ونفذت بحق رئيس الوزراء عدنان مندريس ووزير خارجيته ووزير المالية، كما صدر حكم بالسجن مدى الحياة على رئيس الجمهورية، وكل هذا بتهمة محاولة إلغاء النظام الكمالي وتأسيس دولة دينية.

الانقلاب العسكري الثاني كان في العام 1971 وهو ما عُرف آذاك باسم “انقلاب المذكرة”، بعد إرسال الجيش حينها مذكرة عسكرية إلى الحكومة بعد أن شهدت تركيا نزاعًا حادًا داخليًا على خلفية الانقلاب السابق، وهو ما أدى إلى انتشار أعمال العنف والاضطرابات طوال أيام الستينيات من القرن العشرين، وقد أدت هذه المذكرة إلى استقالة “سليمان ديميريل” رئيس الوزراء بعد أن هدده الجيش إما تشكيل حكومة جديدة قوية تسيطر على البلاد أو تدخل الجيش وفقًا للدستور.

ثم بعد ذلك قام انقلاب في العام 1980 على يد كنعان إيفرين وهو الانقلاب الأشد دموية في تركيا على الإطلاق بعدما تخوف من صعود النبرة الإسلامية مرة أخرى في تركيا، لذا قرر الجنرال كنعان الانقضاض على الحكم تحت ذريعة حماية مبادئ الدولة الأتاتوركية.

اعتقل الجنرال كنعان إيفرين في هذا الانقلاب أكثر من نصف مليون شخص وهرب أكثر من 30 ألف تركي إلى المنفى وأعدم عشرات الأشخاص، ومات المئات من المواطنين تحت آلة التعذيب التي انطلقت في عهده.

هناك انقلاب رابع وقع في تركيا لكنه انقلاب أبيض كما يحب أن يسميه البعض حيث عجل باستقالة حكومة رئيس حزب الرفاه آنذاك نجم الدين أربكان في العام 1997، حيث أجبرت حكومته من قبل الجيش على الخروج دون حل البرلمان أو تعليق العمل بالدستور، وقد ترتب على هذا الانقلاب تضييق الحريات الدينية في تركيا وانهيار الأوضاع الاقتصادية بشكل غير مسبوق حتى عام 2002 من بزوغ نجم حزب العدالة والتنمية الجديد.

صفات مشتركة

كانت هناك عدة صفات مشتركة جمعت حكم الانقلابات العسكرية في تركيا أبرزها الفشل في تحقيق الاستقرار المزعوم بعد كل انقلاب، حيث كانت تزداد أعمال العنف والفوضى التي تمهد للانقلاب التالي.

بالإضافة إلى الفشل الاقتصادي للحكم العسكري وتردى الأوضاع المعيشية للمواطنين، مع ازدياد وتيرة القمع السياسي، كذلك انتشار الاضطرابات الاجتماعية والفوضى الأمنية.

هذه المؤثرات الناتجة عن الانقلابات أدخلت تركيا في حالة المعاناة من الأزمات الاقتصادية الحادة خاصة مع ازدياد معدل البطالة يومًا بعد يوم، وزيادة الدين الخارجي ومعدل التضخم في الاقتصاد التركي.

مادة الانقلابات في الدستور

المادة 35 من قانون الجيش التركي هي التي كانت تقف دائمًا وأبدًا خلف الانقلابات العسكرية في تركيا، حيث منحت الشرعية لكل انقلاب بعد أن نصت على أن القوات المسلحة التركية مسؤولة عن حماية الأراضي التركية والجمهورية الدستورية، وهي صياغة مطاطة تبرر التدخل في شؤون السياسة من قبل الجيش.

التحرر من نفوذ المؤسسة العسكرية التركية

تأسس حزب العدالة والتنمية في العام 2001 على يد مجموعة ترأسها الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان والرئيس السابق عبدالله جل الذي كان أول رئيسًا للحكومة في عهد الحزب الجديد الذي يُنسب إليه الفضل في الحد من النفوذ الجيش التركي في السياسة الداخلية.

ومنذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في نوفمبر 2002، حدث تحول هائل في ميزان القوى على حساب الجيش، ونشأ نظام كان للمدنيين فيه اليد العليا، هذا النظام الذي نجح فيه العدالة والتنمية في فرض السيطرة المدنية على الجيش التركي بصورة تدريجية.

اعتمد حزب العدالة والتنمية في بداية حكمه على إصلاحات الاتحاد الأوروبي وهي شروط وضعت للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي من قبل دولة تركيا إذا قامت بتنفيذها، فكانت الذريعة الأولى المتخذة لتقليص نفوذ الجيش، تم ذلك من خلال إجراء تغييرات قانونية ومؤسسية أفقدت الجيش آلياته.

بدأ حزب العدالة والتنمية يحتل الفراغ الذي تركه الجيش التركي في مساحات التهديدات التي كان يتذرع بها دائمًا للتدخل في الحياة السياسية، وكان أهمها القضية الكردية التي بدأت في عصر التهدئة مع صعود العدالة والتنمية الذي أدار الصراع مع الأكراد في هذا الوقت بشكل ناجح أبطل حجة الجيش.

ثم جاءت ذروة الإصلاحات والتحرر في عام 2010 بالتعديلات الدستورية التي حدت من اختصاص المحاكم العسكرية، وألغت حق الجيش في القيام بعمليات أمنية داخلية من دون الحصول على موافقة من السلطات المدنية، وأقرت الإشراف المدني على النفقات العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، عدلت الحكومة المادة 35 من قانون الخدمة الداخلية بالجيش التي تمنح القوات المسلحة الحق في التدخل في مواجهة التهديدات الداخلية.

محاولات زعزعة لهذه العلاقة

استقرت هذه المحاولات للتحرر من نفوذ المؤسسة العسكرية في تركيا على يد حكومة العدالة والتنمية، حتى جاء وقت القطيعة مع الإرث السابق بعد تردد الأنباء عن وجود سخط داخل الجيش التركي على حكومة رجب طيب أردوغان الذي حاز شرعية الانجاز بين الشعب التركي.

فجاءت عملية إجراء تحقيقات ومحاكمات وصدور أحكام بالسجن الطويل ضد المئات من ضباط الجيش ومن المتقاعدين العسكريين فيما عرفت بقضايا أرغنكون والمطرقة.

كيف نجح حزب العدالة والتنمية في سحب البساط من تحت الجيش؟

لم يصطدم الحزب مباشرة بتوجهات الجيش وإنما دأب على التأكيد عليها بداية من صعوده إلى سدة الحكم وتأكيد على مسألة علمانية الدولة، مع البداية بأجندة اقتصادية بحتة راقت للجيش لأنها تمهد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

ومن أجل تلبية متطلبات الاتحاد الأوروبي التي كانت على رأسها ظهور الطابع الديمقراطي على العلاقات المدنية العسكرية في تركيا. قامت حكومة العدالة والتنمية بإجراء تعديلات دستورية وحزم إصلاحية في الأعوام الأوائل من الألفية الثالثة، قلصت من صلاحيات الجيش عن طريق الحد من صلاحيات مجلس الأمن القومي ليصبح هيئة استشارية. كما تم تشكيل غالبية أعضاء المجلس من المدنيين، وخفضت عدد الاجتماعات، وجعلت الأمانة العامة الخاصة به مدنية، وألغيت سلطات الأمين العام الواسعة والإشرافية، وألغيت وصول المجلس إلى الهيئات المدنية، ووضعت ميزانيته تحت سيطرة رئيس الوزراء.

 بعد ذلك عملت الحكومة على إبعاد النزعة الإشرافية العسكرية من بقية مؤسسات الدولة، فأُبعدت الممثلين العسكريين من المجلس الأعلى للتعليم،  والمجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون. كما ألغيت المحاكم العسكرية التي تسمح بمقاضاة المدنيين أمامها، وفي الشق المالي ومن أجل تحجيم استقلالية الجيش في المعاملات المالية، ازدادت صلاحيات البرلمان في المحاسبة والرقابة على الميزانية العسكرية وممتلكات الدولة المملوكة للقوات المسلحة، وقد قام البرلمان التركي بإقرار هذه التعديلات بشكل مباشر دون الرجوع إلى قيادات الجيش.

ومع أن الجيش التركي وبعض قياداته كانوا يعارضون كل فترة هذه الإصلاحات ويحاولون العودة إلى صدارة المشهد عبر الضغط بالقضية الكردية أو مسألة دولة قبرص، كانت الحكومة التركية تتعامل مع هذه الضغوطات بشئ كبير من الحكمة دون الصدام، لكن في النهاية كانت تنجح في حسم جولات الصراع لصالحها، وقد كان أبرز جولات الصراع هذه معارضة الجيش لترشح عبدالله جل لمنصب رئيس الجمهورية في العام 2007، لكن بعد حصول الحزب على نسبة في الانتخابات أكبر من السابقة، حسم عبدالله جل منصب بالرئاسة بسهولة، وهو الأمر الذي كان بمثابة الإعلان عن نهاية حقبة حكم الجيش في تركيا.

محاكمات الجيش

انطلقت بعد ذلك محاكمات طالت جنرالات عدة في الجيش التركي بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري على حكومة العدالة والتنمية وصدرت أحكام عدة بالسجن ضد عسكريين في الخدمة وآخرين متقاعدين فيما عرف بقضية أرغنكون والمطرقة والتي أظهرت التحقيقات فيها تخطيط هذه المجموعات العسكرية للانقضاض على الحكومة الحالية بصورة غير مشروعة ستدمر المشروع الاقتصادي الذي بدأ ينهض في تركيا، وهو ما أسهم في ارتفاع شعبية حزب العدالة والتنمية مقابل انخفاض مصداقية الجيش التركي.

كذلك بدأت التحقيقات والمحاكمات مع مخططي انقلابات أعوام 1980 و1997 من خلال التعديلات الدستورية لعام 2010 التي ألغت المادة 15 المؤقتة من الدستور التي منحت قائدي الانقلابات حصانة شاملة من الملاحقة القضائية.

ومن هنا دخلت تركيا عصر جديد في العلاقات المدنية العسكرية قائم على خضوع الجيش للقيادة السياسية المدنية، بعد أن حاولت قيادة العدالة والتنمية على مر حكوماتها انتزاع القضايا الأمنية إلى مربع السياسة لإبعاد الجيش عن التدخل فيها.

أما الآن تواجه القيادة التركية حاليًا مأزق ازدياد المخاطر الأمنية داخليًا وخارجيًا أمام النزعة السياسية التي تتعامل مع هذه الأوضاع، وهو ما سيعطي هامشًا أكبر للجيش مرة أخرى للتدخل في القضايا السياسية الخارجية والداخلية، في الوقت الذي يرى فيه مراقبون أن قيادة العدالة والتنمية  ترقب بحذر هذه المسألة بحيث لا تحدث انتكاسة في قضية إبعاد الجيش عن السياسة بصورة نهائية.