لم تكتف الثورة في تونس بما حققته للشعب من حرية تعبير، بل ساهمت منذ اندلاعها في فضح المستور من القضايا المغيبة التي كنا نظن إلى وقت قريب أن البلد في مأمن منها، لا بفضل حكمة الدولة في حل هذه القضايا بل بنجاحها في التغطية والتعتيم على وجود هذه الظواهر التي تعاظمت في غفلة عن الجميع وأصبحت تمثل خطرًا على المجتمع التونسي ومنها ظاهرة أطفال الشوارع أو الوجه المخفي للنمط المجتمعي التونسي.
يتواصل التعتيم الرسمي على ظاهرة أطفال الشوارع في تونس حتى بعد الثورة رغم بعض المحاولات للنبش في هذا الملف الذي كان محظورًا، فالنظام السابق قبل الثورة كان يمنع تناول الإعلام لهذا الموضوع، حتى إن عبارة أطفال الشوارع كانت ممنوعة من الاستعمال ويتم تعويضها “بالأطفال المهددين” أو “أطفال في الشوارع”، وواصلت دولة ما بعد الثورة في تونس تهميش هذا الموضوع رغم إثارته إعلاميًا في مناسبات قليلة، فلا أرقام رسمية تقدم حول عدد أطفال الشوارع في تونس رغم كثرتهم ولا حديث عن سياسة واضحة لمحاربة هذه الظاهرة من قِبل المسؤولين ولا حتى مجرد البحث في أسبابها أو الكشف عنها.
جولة قصيرة في شوارع العاصمة وضواحيها ستكشف لك الكثير عن عورة المجتمع التونسي؛ ففي كل زاوية أطفال يجمعون من القمامة أو ينامون تحت الحائط أو يتسولون بنظرات حزينة تكشف عن نقمة تتعاظم يومًا بعد يوم، ورغم كل ذلك لا تجد أحدًا يهتم لذلك، نسق الحياة السريع أصبح غالبًا على تصرفات التونسيين، فهذه المظاهر التي لم تكن مألوفة في الشارع التونسي أصبحت في فترة قصيرة منظرًا اعتياديًا لا يلقى أي اهتمام من المواطن التونسي، الذي أصبح غير مكترث لذلك الفتى الصغير الذي يقترب منه في المقهى أو يعترض سبيله في الشارع ليطلب منه شراء علكة أو وردة أو حتى سجائر مقابل أثمان زهيدة.
تقول الإحصائيات غير الرسمية إن الشارع التونسي يجمع بين 5 أو 8 آلاف طفل يقضون يومهم في الشارع، فيهم من يعيشون وينامون هناك دون مأوى، وفيهم من يخرجون إلى الشارع للعمل طوال اليوم لفقرهم ثم يعودون إلى منازلهم ليلاً، ورغم الاختلاف حول تعريفهم إلا أن ذلك يفضي إلى حقيقة واحدة وهي أنهم فئة اجتماعية خاصة لا يعيشون مثل أقرانهم، ففي الوقت الذي يزاول فيه الآخرون دراستهم يشتغل أطفال الشوارع لكسب قوت يومهم، وفي الوقت الذي يحاط غيرهم بالرعاية والاهتمام من قِبل عائلاتهم لا يجد هؤلاء الأطفال أي سند عائلي ولا اجتماعي.
في بلد مثل تونس حيث ترتفع نسبة التعليم مقارنة بالعديد من الدول العربية الأخرى، وحيث تتمتع المرأة بحقوق قل نظيرها عند غيرها من النساء في العالم العربي، هنا أيضًا تجد عالمًا آخر غير مرئي ولا يحظى بأي اهتمام، فهذا الواقع الذي يحاول العديدون عدم تسليط الضوء عليه وعدم البحث عن الأسباب التي أوصلت الآلاف من الأطفال إلى الشارع يكشف عن الكثير من التناقض الذي يحمله النمط المجتمعي في تونس، فرغم التشريعات التقدمية التي تحمي الأطفال في تونس فإن الدولة لا تعطي أي اهتمام لملف هؤلاء الأطفال المنكوبين، ورغم تباهي الدولة وخصوصًا وزارة المرأة والأسرة والطفولة برعايتها لبعض الأطفال ممن يعيشون في الشارع فإن الآلاف منهم يذهبون إلى مصيرهم المحتوم حيث الانقطاع عن الدراسة والعمل في الشارع، إدمان المخدرات، دخول عالم الجريمة والتعرض إلى الاعتداءات الجنسية، وهناك يكون من المنطقي أن نخلق جيلاً جديدًا تكثر فيه نسب الجريمة وينتهي بهؤلاء الأطفال إلى النقمة على الدولة وعلى المجتمع والذهاب في طريق التطرف والانتماء إلى الجماعات الإرهابية.
تقدم لنا الأرقام حقائق مفزعة حول هذا الملف وهي وحدها الكفيلة بالتعبير عن فظاعة الوضع، فقد أثبتت دراسة أعدت في هذا الغرض أن ارتفاع نسبة أطفال الشوارع هو نتيجة طبيعية لما تعانيه نسبة كبيرة من الأطفال في تونس، فقد أظهرت هذه الدراسة أن 94% من بين الأطفال الذين يتراوح عمرهم بين السنتين والرابعة عشرة يتعرضون لأقسى أنواع العنف، كما يجبر 3% منهم على العمل، فيما تؤكد أرقام أخرى أنه رغم ارتفاع عدد خريجي الجامعات في تونس فإن نسب المنقطعين عن الدراسة أصبحت مهولة وتتجاوز 100 ألف طفل سنويًا بين التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، وهؤلاء الذين تلفظهم المدارس التونسية كل سنة لن يكون لهم أي طريق غير الشارع والانحراف والجريمة.
ليس غريبًا أن نتنبأ أن المستقبل سيكون أكثر خطرًا من الحاذر في صورة تواصل الوضع على ماهو عليه الآن، فكل التجارب السابقة تظهر أن المشاكل التي لا تجد حلولاً ستزيد في التفاقم كل ما مر الوقت أكثر، وهنا صار من الواضح أننا لا نلمس أي جدية من قِبل الدولة رغم تعاقب الحكومات قبل وبعد الثورة في إيجاد حل لهذه الأزمة التي أصبحت تمثل قنبلة موقوتة من الممكن أن تنفجر في أي لحظة، لذلك فقد أصبح لزامًا الالتفات إلى هذا الملف الشائك من قِبل كل المتدخلين انطلاقًا من الحكومة والوزارات المعنية وصولاً إلى منظمات المجتمع المدني وحتى الإعلام الذي لا يجب أن يواصل تجاهله لتنامي هذه الظاهرة، وغير ذلك فإن أطفال الشوارع سيتحولون من مجرد أبرياء حكمت عليهم الحياة بالعذاب إلى وحوش قادمة من أجل الانتقام.