تعالت في تونس، منذ فترة الدعوات المطالبة بتعديل الدستور لإعطاء صلاحيات إضافية للرئيس، تجعل نظام الحكم أقرب إلى الرئاسي منه إلى شبه البرلماني الذي نص عليه دستور الثورة.
وأعلن رئيس تونس الباجي قائد السبسي، منذ أيام نيته إجراء تعديلات دستورية، قائلاً إنه لا يرى مانعًا من تعديل الدستور بهدف اعتماد شكل جديد لنظام الحكم وإنه لن يكون ضد أي مبادرة في هذا الاتجاه ،وأرجع السبسي تأييده للتعديل إلى أن النظام السياسي الحالي “شبه البرلماني” غير مثالي وقابل للتحسين والتطوير، واعتبر أن أغلبية الشعب التونسي مع النظام الرئاسي، وأن الوضع العام في البلاد يمكن أن يتحسن مع تنقيح الدستور واعتماد نظام سياسي جديد، يمنح صلاحيات أوسع لرئيس الجمهورية.
هذه التصريحات المطالبة ضمنيًا بإجراء تعديل في الدستور، فرضتها رغبة السبسي في تعديل النظام السياسي من برلماني معدل إلى رئاسي معدل، بما يزيد في صلاحيات رئيس الجمهورية ويحد من سلطة البرلمان الذي كثيرًا ما تردد أنه عطل إصدار عديد من التشريعات الضرورية لاستكمال مؤسسات الدولة ولتحقيق التنمية.
ووجه السبسي، مؤخرًا، رسالة إلى مجلس نواب الشعب اعتمادًا على نص الدستور الحالي، انتقد فيها بطء عمل البرلمان، وسبقه في ذلك رئيس الحكومة الحبيب الصيد الذي طالب بمنحه تفويضًا استثنائيًا لإصدار مراسيم تعوض القوانين دون المرور بالبرلمان، وهو طلب لم يرد عليه مجلس النواب بعد.
وينص الفصل 143 من دستور يناير 2014 على أنه “لرئيس الجمهورية أو لثلث أعضاء البرلمان حق المبادرة باقتراح تعديل الدستور، ولمبادرة رئيس الجمهورية أولوية النظر”.
حديث السبسي حول عدم معارضته لتعديل الدستور بهدف تغيير شكل نظام الحكم، وقوله بأن الشعب التونسي يفضل النظام الرئاسي، لم يكن الأول من نوعه في الساحة السياسية التونسية، حيث سبقه في ذلك القيادي في حركة “النهضة” والمستشار السياسي لراشد الغنوشي لطفي زيتون، في مقال له نشر في صحيفة التونسية، في 23 فبراير، داعيًا إلى ضرورة إجراء تعديل دستوري، يتم بمقتضاه توسيع صلاحيات الرئيس، مؤكدًا أن البلاد تحتاج لأن تخرج مما أسماه “نظام الشبه – شبه.”
ويتولى رئيس الجمهورية حسب الفصل 78 من الدستور تعيين مفتي الجمهورية التونسية وإعفائه، والتعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها، وتضبط هذه الوظائف العليا بقانون، والتعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية والمتعلقة بالأمن القومي بعد استشارة رئيس الحكومة، وتضبط هذه الوظائف العليا بقانون، كما يتولى تعيين محافظ البنك المركزي باقتراح من رئيس الحكومة، وبعد مصادقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب، ويتمّ إعفاؤه بنفس الطريقة أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس نواب الشعب ومصادقة الأغلبية المطلقة من الأعضاء.
واعتبر زيتون أن البلاد تسير وفق النظام السياسي الحالي المعتمد “برأسين للسلطة التنفيذية وبرلمان لا تتوفر له أدنى شروط العمل لترجمة الدستور إلى قوانين، لا من حيث الإمكانات البشرية ولا المادية”، داعيًا إلى “تحوير في الدستور يحسم في اتجاه نظام متناسق”، وفق تعبيره.
ويؤكد متابعون أن التقاء مطالبة مستشار الغنوشي، زيتون، بضرورة اعتماد نظام متناسق (برلماني صريح أو رئاسي صريح)، وتصريح السبسي بأنه لا يمانع في المضي نحو تعديل دستوري، وأن النظام الرئاسي مقبول في المجتمع التونسي، يعلن على ما يبدو انطلاق حملة تمهيدية لخلق رأي عام مناصر لهذه الفكرة، وهو ما قد يتحول قريبًا إلى جوهر العملية السياسية في تونس، في انتظار إعلان مواقف باقي الفاعلين في تونس عن مواقفهم من هذه المسألة.
ويقول مراقبون إن دعوة زيتون “ليست رأيًا شخصيًا” بل هو موقف حركة النهضة، باعتبار أن زيتون هو المستشار السياسي لزعيمها، راشد الغنوشي، و”صوته السياسي” الذي يعكس مواقفه.
إثر ذلك أقرّ القيادي بحركة نداء تونس فوزي اللومي في تصريحات صحفية، أن الكتلة البرلمانية للحزب تعتزم تقديم مشروع قانون لتوسيع صلاحيات الرئيس، معتبرًا أن الصلاحيات المتوافرة في القانون الحالي غير كافية.
وبحسب خبراء فإن نظام الحكم الحالي “برلماني معدل” قاد إلى إضعاف أداء مؤسسات الدولة وسلطة القرار نتيجة اختلال التوازن بين صلاحيات رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان في وقت تحتاج فيه تونس إلى دولة قوية تنأى بنفسها عن سياسات الأيادي المرتعشة، في معالجة الأوضاع العامة، كما ساهم في بطء تركيز مؤسسات الدولة والهيئات الدستورية التي نص عليها الدستور.
حزب النداء برر مبادرة تعديل الدستور بقوله: “إن التفكير في التعديل الدستوري كان نتيجة الإقرار بوجود أزمة حكم في تونس بسبب توزع السلطات وتفاوتها بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فرئيس الحكومة هو رأس السلطة التنفيذية بينما هو غير منتخب، أما رئيس الجمهورية المنتخب مباشرة من الشعب فسلطاته محدودة.”
في مقابل ذلك، يؤكد خبراء أن الشلل – وإن حصل في مؤسسات الدولة – لا يرجع سببه إلى طبيعة النظام السياسي الذي جاء به الدستور، بل لأن رئيس الجمهورية قد خسر الأغلبية في البرلمان، بعد تفكك نداء تونس، وفقدانه الأغلبية البرلمانية لفائدة حركة النهضة.
وتساءل مراقبون كيف يمكن لرئيس دولة وحزب حاكم أن ينقلب على إرادة شعب هلل كثيرًا عقب المصادقة على الدستور الجديد وفرح بقدومه والإجماع الذي حظي به، كما يؤكد آخرون أنه من غير الممكن الحديث عن تغيير للدستور وغالبية مواده لم تترجم إلى قوانين.
ويدافع العديد من النواب في البرلمان عن السلطة التشريعية، معتبرين أن التذرع بضعف البرلمان غير منطقي، نظرًا لافتقار هذا الأخير للإمكانيات اللازمة للقيام بعمله على الوجه الصحيح، بالإضافة إلى تراكم مشاريع القوانين في مكتبه وعدم اعتياد النواب على عمله بعد، كما يرون أنه لم تمرّ إلا سنة واحدة فقط على العمل بالنظام السياسي الجديد، وهو ما يستلزم التأقلم معه دون الانتكاسة بالعودة للوراء، خاصة ما يستلزمه التعديل الدستوري من توافق وطني واسع، يبدو غائبًا في الوقت الحاضر.
بدوره قال النائب بمجلس نواب الشعب عن حركة النهضة والمقرر العام للدستور الحبيب خضر إنّه لا يمكن تقنيًا تعديل الدستور التونسي في الوقت الحالي، على اعتبار أن المحكمة الدستورية طرف أساسي في المسار وهي لم تتركز بعد، وتركيزها رهين قانون المجلس الأعلى للقضاء الذي لم يستكمل بعد، وأكد خضر في تصريحات صحفية، أنّ تنقيح الدستور في الأمد القريب مسألة غير ممكنة.
وشدد خضر على أنه ليس من السليم في تونس توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، لأن تونس عانت كثيرًا من استبداد الفرد وهو ما يستوجب تقييد صلاحياته سيما وأن بلادنا عانت من انحرافين سابقين للفرد الساكن في قرطاج حسب قوله، وأضاف الحبيب خضر أنه من غير المعقول تقييم النظام السياسي قبل دخوله حيز التنفيذ.
ويختص رئيس الحكومة في تونس حسب الفصل 92 من الدستور بإحداث وتعديل وحذف الوزارات وكتابات الدولة وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها بعد مداولة مجلس الوزراء، وإقالة عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة أو البت في استقالته، وذلك بالتشاور مع رئيس الجمهورية إذا تعلق الأمر بوزير الخارجية أو وزير الدفاع، وإحداث أو تعديل أو حذف المؤسسات والمنشآت العمومية والمصالح الإدارية وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها بعد مداولة مجلس الوزراء، باستثناء الراجعة إلى رئاسة الجمهورية فيكون إحداثها أو تعديلها أو حذفها باقتراح من رئيس الجمهورية، وإجراء التعيينات والإعفاءات في الوظائف المدنية العليا، وتضبط الوظائف المدنية العليا بقانون، ويعلم رئيسُ الحكومة رئيسَ الجمهورية بالقرارات المتخذة في إطار اختصاصاته المذكورة.
من جهته قال الخبير الدستوري قيس سعيد إن دستور 2014 مثله مثل دستور 1959، وُضع على مقاس التوازنات السياسية التي أفرزتها الانتخابات؛ فلما جاءت انتخابات 2014 بتوازنات جديدة بدأ التفكير بإدخال تنقيح على الأحكام المتعلقة بالنظام السياسي وخاصة تلك المتعلقة بتوزيع السلطة التنفيذية بين كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فهل يجب كلما تغيرت التوازنات تتغير أحكام الدستور؟
كما اعتبر سعيد في حوار صحفي أنه ربما كان هناك حنين لدستور 1 جوان 1959، مضيفًا: “بل إن هذا الدستور الأول بعد الاستقلال مازال يلقي بظلاله على المؤسسات السياسية التونسية في ظل دستور يوصف بأنه جديد،”وأضاف “لو أن المنافس الأول لرئيس الجمهورية الحالي أي المنصف المرزوقي هو الذي فاز بانتخابات 2014 هل كان سيتم التفكير في إدخال تنقيح على الدستور يقضي بإضافة اختصاصات جديدة لرئيس الجمهورية؟ ربما فكّر البعض، لو حصلت مثل هذه النتيجة، بإدخال تنقيح يقضي لا بإضافة اختصاصات جديدة لرئيس الجمهورية ولكن بالتقليص في الاختصاصات التي خوّلها له الدستور الحالي.”
وتخشى المعارضة في تونس من إمكانية تعديل الدستور مخافة الانزلاق نحو الاستبداد مجدّدًا بتجميع السلطة التنفيذية بيد رجل واحد خاصة وأن البلاد مازالت تخطو خطواتها الأولى في تركيز مؤسساتها الديمقراطية.
ويتضمّن دستور تونس الجديد فصولاً تم التنصيص على أنه “لا يجوز تعديلها”، تمثل أساسًا في الفصول التي تحدد دين الدولة ونظامها وباب الحقوق والحريات والفصل المتعلق بتحديد عدد الدورات الرئاسية.
وشهدت تونس خلال صياغة الدستور الجديد، نقاشات معمقة واستشارات داخل لجنة النظام السياسي في المجلس الوطني التأسيسي حول طبيعي النظام السياسي، انتهت باعتماد النظام البرلماني المعدل الذي منح البرلمان صلاحيات التشريع والرقابة ومنح الثقة للحكومة وسحبها منها والرقابة على عملها، وأسند لرئاسة الحكومة أغلب الصلاحيات التنفيذية، في حين بقي رئيس الجمهورية ذو صلاحيات محدودة في مجالي الدفاع والسياسة الخارجية.