“كيف أحقق فائضًا في الإنتاج؟” رهان من أشد رهانات فلاحي دول العالم النامي في جميع المجالات: إما الزراعة أو قطاع اللحوم وتربية الدواجن أو قطاع الأبقار والحليب… إلخ.
وقد عرفت العديد من البلدان النامية مشاكل جسيمة في كيفية تحسين مستوى الإنتاج الفلاحي الذي يلعب المناخ ومشكل الري دورًا هامًا في وفرته وجودته، وهو ما قد ينعكس إما سلبًا أو إيجابًا على وضعية الفلاح وعلى اقتصاد الدولة.
ومن المضحكات المبكيات في تونس، إحدى دول العالم النامي، أن تصبح مشكلة الفلاح الحقيقية هي “الوفرة في الإنتاج”، لا قلة الإنتاج أو صعوبته، وخاصة بين مربي الأبقار الذين يحلبون بكثرة ولكن يصعقون بواقع الصعوبة في التوزيع، وأن الدولة بدورها غير قادرة على استيعاب كمية إنتاجهم من الحليب.
ومع حلول فصل الربيع وارتفاع ذروة الإنتاج، بدأت مشاكل الفلاح ومربي الأبقار في كامل البلاد وفي شتى الولايات والجهات تتفاقم لأنه من المعلوم أن قطاع إنتاج الحليب يعرف وفرة كبيرة في هذا الفصل.
على سبيل المثال في ولاية باجة الواقعة تحديدًا في إقليم الشمال الغربي التونسي وتبعد قرابة 105 كيلومترات عن العاصمة تونس، والمتميزة بالأراضي الخصبة والمناخ الملائم للنشاط الفلاحي والتي تعد من المدن الأكثر خضرة في تونس، خرج فلاحوها منذ أيام للتظاهر أمام الولاية، تعبيرًا منهم عن غضبهم أمام تواصل تأزم الوضع وارتفاع الإنتاج، حيث بادر الفلاحون إلى توزيع الحليب مجانًا على المواطنين بسبب رفض مراكز التخزين قبوله لعدم قدرتها على الاستيعاب.
الفلاحون يقومون بتوزيع الحليب مجانًا
فالفلاحون رغم أزمتهم لم يقوموا بسكب كميات هائلة من ليترات الحليب في الشوارع والطرقات ككل مرة، بل اختاروا توزيع الحليب مجانًا على المواطنين وهي بادرة جديدة اختارها الفلاحون ومربو الأبقار للتعبير عن العجز الحقيقي لتوزيع الحليب وعدم القدرة على تسويقه ولتحسيس الحكومة من جهة أخرى بتواصل تفاقم الأزمة في هذا القطاع الحساس.
وفي معتمدية فرنانة من ولاية جندوبة أيضًا أقدم مجموعة من الفلاحين على غلق الطريق الوطنية رقم 17 الرابطة بين مدينتي جندوبة وفرنانة على مستوى جسر وادي غزالة احتجاجًا على رفض مركز التجميع الكائن بقرية سيدي عمار بالجهة كميات الحليب المنتجة بالإضافة إلى قطع مياه الري عن مزارعهم.
في هذه المناطق الخصبة والخضراء أصبحت وفرة الإنتاج معضلة حقيقية تهدد واقع الفلاح التونسي ومصلحته منذ سنة أو يزيد، ولم يجد لها حلاً جذريًا في ظل تواصل رفض مراكز تجميع الحليب قبول كافة الكميات المجمعة نظرًا لعدم قدرتها على استيعابها، فمراكز الحليب لا تقبل سوى 220 ألف لتر يوميًا مقارنة بـ 500 ألف لتر يوميًا في الأعوام الماضية، وذلك في خضم الأزمات المالية والصعوبات المادية التي تعوق الفلاح والتداين والالتزام مع البنوك.
وفي ظل غياب حلول حكومية فاعلة، بدأت مشاكل الفلاح التونسي الذي ينتج بكثرة ولكنه يعجز عن تسويق إنتاجه من قطاع الحليب والألبان، تتفاقم، فغضب واحتج وتظاهر في مرات عديدة ولكن لا حلول شافية تساهم بجدية في إخراجه من عمق مأزقه.
وقد أدى الفائض المسجل في إنتاج الحليب إلى العديد من الاحتجاجات في صفوف الفلاحين ومربي الابقار وتنامي ظاهرة إتلاف الحليب وسكبه في الطرقات من طرف المنتجين في إشارة إلى حجم الخسائر التي تكبدوها بسبب رفض مراكز التجميع قبول الكميات المنتجة.
وقد ساء قرار تخفيض مركزية ومصنع الحليب كميات الحليب المقبولة من المنطقة من 30 ألف لتر إلى 17 ألف لتر، مما تسبب في إتلاف كمية كبيرة من الحليب يوميًا تصل إلى 100 ألف لتر، الفلاحين وزاد هذا القرار الطين بلة وعمق من أزمة الفلاح المهدد بالإفلاس.
ومن الوضعيات الكارثية التي يواجهها مربو الأبقار، كذلك، هي ارتفاع تكلفة الإنتاج وغياب هامش الربح حيث تبلغ 850 مليم للتر الواحد، يبيعه الفلاح بـ 736 مليم.
رئيس الغرفة الوطنّية لمراكز تجميع الحليب، كان قد صرح في أحد المنابر الإعلامية أّن مراكز تجميع الحليب تهّدد بدورها بالإضراب وتعليق العمل لثلاثة أيام في الأسبوع في حالة عدم التدخل العاجل للحّد من مشكل الفائض الذي يعاني منه القطاع.
واعتبر رئيس الغرفة أن الحل يكمن في التدخل العاجل للحكومة وذلك بشراء كميات الحليب الفائضة وتوزيعها لمنع الفلاح من الإفلاس وبيع أبقاره، إضافة إلى تسوية وضعية مصنع تجفيف الحليب وتوفير إمكانيات أكبر للتخزين.
كما يعد الاستهلاك اليومي للشعب التونسي للحليب من المشاكل التي يواجهها كل من الفلاح ومركز التجميع، فوفق آخر الإحصائيات ثبت أن الاستهلاك اليومي لا يتجاوز 1 مليون و600 ألف لتر، في حين أن الإنتاج اليومي للحليب هو 1 مليون و900 ألف لتر، مما يضطر مراكز التجميع إلى إتلاف المنتوج الفائض.
الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري دعا من جانبه إلى مطالبة المجمعات ووحدات التجفيف باستيعاب الفائض المسجل في إنتاجهم، بالإضافة إلى حث الحكومة على ضرورة الإسراع بفتح مصنع تجفيف الحليب وفتح باب التصدير، مقابل منع التوريد بالنسبة لمادة الحليب المجفف.
“فائض الانتاج” معضلة تهدد الفلاح في تونس الذي يتداين من البنوك ليعمل وينتج ويوفر حاجيات السوق ليصدم بواقع العجز عن استيعاب الوفرة ولا حلول حكومية مقنعة تأخذ بيده لتخطي الأزمة.