هل ترمم القمة الإسلامية العلاقة بين الرياض وبيروت؟

على مدار ما يقرب من 65 عامًا، شهدت العلاقات السعودية اللبنانية العديد من التطورات الإيجابية التي ساهمت بشكل كبير في إثراء المناخ الأخوي بين البلدين في شتى المجالات: السياسي، الاقتصادي، الثقافي والمجتمعي، إذ لعبت الرياض دورًا محوريًا في إنهاء الصراعات والانقسامات الحادة التي شهدتها بيروت طيلة العقود الماضية، وهو ما ساعد في استقرار لبنان ونجاحها في مواجهة التحديات المحلية والإقليمية التي تواجهها.
ونظرًا لسيطرة “البراجماتيكية” على توجهات الدول وسياسات الأنظمة، فقد دخلت العلاقات بين الجانبين نفقًا مظلمًا أدى إلى قطيعة شبه تامة بين البلدين نتيجة قرار حكومة الملك سلمان بقطع المساعدات المقدمة للجيش اللبناني ووقف كافة أشكال الدعم الأخرى، فضلاً عن مناشدة السعوديين المقيمين في لبنان بمغادرته وما تلاه من مواقف إماراتية وبحرينية مماثلة دعمًا للموقف السعودي، وذلك بسبب “المواقف اللبنانية المناهضة للرياض على المنابر العربية والإقليمية والدولية في ظل مصادرة حزب الله اللبناني لإرادة الدولة”، حسبما أشار بيان الخارجية السعودية.
العديد من الأسئلة يطرحها نون بوست في محاولة للوقوف على أبعاد المشهد وما يمكن أن يؤل إليه مستقبلاً، فالقيادة السعودية تدرك جيدًا أن حكومة الرئيس تمام سلام تقف بصعوبة على قدميها أمام التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي يتعرض لها لبنان، ولكن هل تدرك الرياض أن إسقاط حكومة الرئيس سلام حاليًا في ظل فراغ كرسي الرئاسة، وشلل المجلس النيابي الممدد لنفسه، سيضع لبنان بكل مكوناته السياسية والاجتماعية في دائرة الخطر؟ كما أن صناع السياسة السعودية يعرفون بشكل جيد خريطة لبنان الطائفية، وبنيته المذهبية، وما أصابها من تصدع جراء الأحداث الجارية، ابتداءً من سوريا ووصولاً إلى اليمن؛ فهل يكون هذا التصعيد بداية لتوترات داخلية من شأنها جعل لبنان ساحةً لمواجهة مباشرة بين السعودية وإيران؟ ثم هل تحمل بعض المؤشرات الإيجابية التي تلوح في الأفق حاليًا تضميدًا للجراح الملتهبة وفتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين؟
بيروت والرياض.. تاريخ طويل وتعاون بنّاء
تعود العلاقات اللبنانية السعودية إلى عام 1952م، حين زار الرئيس اللبناني كميل شمعون بلاد الحرمين على رأس وفد رفيع، بعد جلوسه على كرسي الحكم مباشرة، ليكون بذلك أول رئيس لبناني يزور المملكة، حيث قوبل بحفاوة وترحاب شديدين من قِبل الملك عبد العزيز آل سعود.
وبعد سلسلة من اللقاءات والحوارات المطولة بين الجانبين، قررت الرياض الاستعانة بالخبرات اللبنانية من مفكرين وأصحاب رأي واستشارات فنية وإدارية في دفع منظومة التنمية لديها، على غرار ما يحدث مع مصر وسوريا والعراق، وقد أثبت اللبنانيون تفوقهم في العديد من المهام الموكلة إليهم، وهو ما أوصلهم إلى مراكز متقدمة في الديوان الملكي، وعملوا سفراء في الدول المهمة، وكان اللبناني فؤاد حمزة بين هؤلاء المستشارين الذين أمضوا عقودًا من العمل السياسي السعودي.
ونظرًا للأحداث المؤسفة التي شهدها لبنان في أوائل ثمانينات القرن الماضي من اقتتال أهلي بين اللبنانيين أنفسهم وبينهم وبين الفلسطينيين المقيمين هنالك، فقد أنعقد في الفترة من 16 إلى 18 أكتوبر 1976 وبمبادرة سعودية كويتية، مؤتمر قمة سداسي في الرياض، شارك فيه زعماء السعودية ومصر وسوريا والكويت ولبنان، بالإضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، بهداف معالجة تلك الأحداث.
وبذلت الرياض حينها جهدًا مكثفًا لاحتواء الأزمة، حيث تمكنت في أكتوبر 1976 من وقف إطلاق النار وإنهاء الاقتتال في كل الأراضي اللبنانية، وتشكيل قوات ردع عربية في حدود 30 ألف رجل، تعمل داخل لبنان وتحت إمرة رئيس الجمهورية لفرض الالتزام بوقف إطلاق النار وإنهاء الاقتتال والفصل بين القوات المتحاربة والإشراف على انسحاب وعودة المسلحين إلى المواقع التي كانوا فيها قبل 13 أبريل 1975، ومتابعة جمع الأسلحة الثقيلة، ومساعدة السلطة اللبنانية على تسلم وحماية المرافق والمؤسسات العامة.
ومنذ ذلك الوقت والعلاقات بين البلدين تحيا حالة من الانتعاش على كافة الأصعدة، إلى أن تباينت الرؤى في الآونة الأخيرة بسبب تدخلات حزب الله في بعض الدول العربية التي تمثل أمنًا قوميًا للسعودية، وفي مقدمتها اليمن وسوريا، وهو ما اعتبرته الرياض خرقًا واضحًا للعلاقات بين البلدين، في ظل صمت الحكومة اللبنانية عن هذا التدخل الممارس من الحزب المدعوم إيرانيًا.
تعليق المساعدات واشتعال الأزمة
فوجئ اللبنانيون صبيحة يوم الجمعة 19 فبراير 2016 بقرار بلاد الحرمين وقف مساعدتها التي كانت مقررة لتسليح الجيش اللبناني من خلال شراء أسلحة من فرنسا تقدر بـ 3 مليار دولار، بالإضافة إلى وقف مساعدة عسكرية أخرى تبلغ قيمتها مليار دولار كانت مقررة لمساعدة الأمن الداخلي اللبناني، مع تأكيد المملكة على استمرار مؤازرتها للشعب اللبناني الذي لا تُمثل الإدارة الحالية موقفه وذلك حسبما نشرته وكالة الأنباء السعودية الرسمية “واس”.
البيان الصادر عن الخارجية السعودية أشار إلى أن قرار وقف المساعدات جاء نتيجة عدم انسجام المواقف اللبنانية مع العلاقات الأخوية بين البلدين، ملفتًا أن المملكة وقفت بجانب لبنان في كافة المراحل الصعبة التي مر بها وساندته، دون تفريق بين طوائفه وفئاته، ورغم هذه المواقف المشرفة، فإن المملكة العربية السعودية تقابل بمواقف لبنانية مناهضة لها على المنابر العربية والإقليمية والدولية في ظل مصادرة حزب الله اللبناني لإرادة الدولة، كما حصل في مجلس جامعة الدول العربية، وفي منظمة التعاون الإسلامي من عدم إدانة الاعتداءات السافرة على سفارة المملكة في طهران والقنصلية العامة في مشهد، حسبما أشار البيان.
القرارات السعودية بحق لبنان جاءت كالتالي: أولاً: إيقاف المساعدات المقررة من المملكة لتسليح الجيش اللبناني عن طريق الجمهورية الفرنسية وقدرها ثلاثة مليارات دولار أمريكي، ثانيًا: إيقاف ما تبقى من مساعدة المملكة المقررة بمليار دولار أمريكي المخصصة لقوى الأمن الداخلي اللبناني.
وتجدر الإشارة إلى أن صفقة التمويل السعودي بتسليح فرنسي للأمن اللبناني تعود إلى نهاية عام 2013 وبدايات عام 2014، أثناء تولي الملك عبد الله الحكم في السعودية قبل وفاته بحوالي عام، وجاء إثر لقاء جمع ولي العهد السعودي آنذاك وخادم الحرمين حاليًا الملك سلمان بن عبد العزيز مع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الذي قال آنذاك: “إن لبنان بلد رائع وفي الوقت نفسه غير حصين ويحتاج بدوره إلى الأمن في الوقت الذي يستضيف فيه آلاف اللاجئين، من هنا فقد اتفقنا سويًا، السعودية وفرنسا، على مساعدة لبنان بشرط أن يساعد هو نفسه، من أجل حفظ أمنه”.
لبنان يلطف الأجواء وحزب الله ينفي
تسبب القرار السعودي في إزعاج الحكومة اللبنانية، وهو ما دفعها لالتزام الهدوء في رد الفعل بعيدًا عن التصعيد الذي قد يؤدي إلى مزيد من النتائج السلبية على لبنان لاسيما في ظل الأزمات الطاحنة التي تواجهها.
بيروت استقبلت الخبر بعبارات الود والتسامح، آملةً في إعادة نظر سعودية للقرار، إذ أصدر رئيس الوزراء اللبناني تمام سلام بيانًا قال فيه: “تلقينا بكثير من الأسف قرار المملكة العربية السعودية المفاجئ القاضي بإيقاف المساعدات المخصصة لتسليح وتجهيز الجيش وقوى الأمن الداخلي”، لافتًا “إننا ننظر إلى هذه الخطوة باعتبارها أولاً وأخيرًا شأنًا سياديًا تقرره المملكة العربية السعودية وفق ما تراه مناسبا، على الرغم من أننا ما كنا نريد أن تصل الأمور إلى ما يخالف طبيعة العلاقات التاريخية بين لبنان وبلاد الحرمين، التي نحرص على إبقائها علاقات أخوة وصداقة ومصالح مشتركة ونسعى دائما لتنزيهها عن الشوائب”.
واختتم البيان: “إننا، إذ نعبر عن أسمى آيات التقدير لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وإخوانه في القيادة السعودية وأبناء الشعب السعودي الكريم، نتمنى إعادة النظر بالقرار الخاص بوقف المساعدات عن جيشنا وقواتنا الأمنية”.
على الفور حمّل رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، حزب الله، مسؤولية خسارة مليارات الدّولارات من جراء تهجمه الدائم على السعودية”، حيث دعا في تغريدة له على مواقع التواصل الاجتماعي، الحكومة إلى الالتئام فورًا واتخاذ التدابير اللازمة، والطلب رسميا من حزب الله عدم التعرض للسعودية من الآن فصاعدًا، وتشكيل وفد رسمي برئاسة الرئيس تمام سلام لزيارة السعودية والطلب منها بإعادة العمل بالمساعدات المجمدة.
وفي المقابل رفض حزب الله تحميله مسؤولية القرار الأخير مُرجعًا سببه لـ “أزمة مالية خانقة تعاني منها السعودية” على حد وصف البيان الذي جاء فيه “إن السعودية تعاني من أزمة مالية خانقة أدت إلى إجراءات تقشف غير مسبوقة داخل السعودية وخارجها، ومن بينها تندرج خطوة وقف تمويل الصفقات المفترضة لدعم الجيش اللبناني”.
وتابع البيان “إن تحميل حزب الله المسؤولية عن القرار السعودي بسبب مواقفه السياسية والإعلامية” ملفتا إلى أن المسؤولين المعنيين في الحكومة والوزارات المختصة والمؤسسة العسكرية وإدارات القوى الأمنية، كانوا على إطلاع تام بأن هذا القرار قد اتخذ منذ فترة طويلة، وخصوصًا منذ بدء العهد الحالي في السعودية.
مؤشرات إيجابية لحلحلة الأزمة
حالة من الترقب والقلق تسود الشارع اللبناني طيلة ما يقرب من شهرين منذ قرار الرياض بتعليق مساعداتها للجيش، فضلاً عن توابع هذا القرار من القلق بتهجير مئات الأسر اللبنانية المقيمة بالسعودية والإمارات والبحرين، إلا أن هناك بعض المؤشرات الإيجابية التي تلوح في الأفق تحمل معها إمكانية حلحلة الأزمة، وإذابة جليد العلاقات المتوترة بين بيروت والرياض.
المحلل السياسي السيد الربوة التقط بعض الإشارات التي اعتبرها إيجابية وبناءة وتحمل بين ثناياها إشراقه جديدة في العلاقات السعودية اللبنانية، ملفتًا إلى رغبة الطرفين في تحسين العلاقة وفتح صفحة جديدة وفق رؤية قائمة على بعض الأسس المشتركة أهمها تحييد حزب الله من المشهد السياسي العام.
الربوة ألمح إلى أربعة إشارات سياسية تحمل دلالات إيجابية لمستقبل العلاقة بين البلدين، الإشارة الأولى تتمثل في الزيارة التي قام بها السفير السعودي في لبنان علي العسيري، إلى وزير الخارجية جبران باسيل وهو اللقاء الأول من نوعه بعد الأزمة التي تسبب فيها باسيل حين امتنع عن التصويت لصالح قرار بإدانة الاعتداء على السفارة السعودية في طهران، واعتبار حزب الله منظمة إرهابية.
ثم جاء حكم المحكمة العسكرية المعدل بشأن الوزير السابق ميشال سماحة والذي قضى بسجنه 13 سنة بدلاً من إخلاء سبيله ليمثل إشارة إيجابية جديدة على إمكانية تحسن العلاقات بين البلدين، خاصة وأن سماحة كان من المحسوبين على حزب الله والتي اعتبرته الرياض ترجمة عملية لمصادرة الحزب المدعوم إيرانيًا إرادة الدولة وبسط نفوذه على عدد من القطاعات في لبنان.
أما ثالث هذه الإشارات حسبما أشار الربوة، فهو رسالة الطمأنة التي بعثت بها وزارة الخارجية والمغتربين اللبنانية إلى اللبنانيين العاملين والمقيمين في دول الخليج، لاسيما بعد الأنباء التي تواردت بشأن ترحيلهم وإعادتهم إلى بلادهم مرة أخرى وهو ما تسبب في حالة من الجدل والقلق بين اللبنانيين.