ترجمة وتحرير نون بوست
يعتقد نور، وهو قائد أحد الميليشيات الموالية للحكومة قرب دمشق، بأن الرئيس السوري بشار الأسد سينتصر بالمحصلة بالحرب الأهلية التي تدور رحاها في سوريا، ولكن على الرغم من ذلك، يعترف بأن تعافي البلاد سيستغرق ما لا يقل عن جيل كامل من الزمن، “بعد أن ننهي هذه الحرب، سننفق 10 سنوات أخرى ونحن نطهر جماعتنا من البلطجية وأمراء الحرب”، قال لي نور عندما التقيته في جرمانا، إحدى ضواحي دمشق، في شقة تطل على الطريق السريع حيث تدور الاشتباكات ليلًا ما بين القوات الحكومية وعناصر المعارضة المسلحة.
كان ذلك في الخريف الماضي، بعد فترة وجيزة من مباشرة روسيا لحملتها لدعم الحكومة السورية، حيث ساعد حينها ضخ النيران الروسي على تغيير مسار الصراع؛ فبعد سنوات من الجمود، خرجت الحرب الأهلية في سوريا من جمودها، ولكن هذه التحرك لم يجهزها للتسوية والاستقرار.
استؤنفت المفاوضات حول مستقبل سوريا في جنيف الأسبوع الماضي وسط تفاؤل حذر باستعداد النظام والمعارضة أخيرًا لمناقشة صفقة محتملة، كما طفقت الأحاديث الصادرة عن الدبلوماسيين الروس والأمريكيين حول الأهداف المشتركة، ويبدو بأن كلا البلدين أضحيتا مستعدتان أخيرًا لإجبار وكلائهما على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتزامن ذلك مع تصريح جماعات المعارضة ورعاتها بأنها حققت مستويات من الوحدة والتناسق تمكّنها من انتزاع تنازلات حقيقية من حكومة دمشق، وأعلنت للمرة الأولى بأنها على استعداد للعمل مع بعض شخصيات النظام.
ولكن جميع ما تقدم يغفل النقطة المركزية، وهي أن سوريا، إحدى أكثر الدول أهمية في العالم العربي، تمزقت إربًا، ولا تستطيع أي تسوية سلمية أن تعيدها إلى ما كانت عليه مرة أخرى.
بصرف النظر عن الأحاديث الدائرة حول “النظام” و”المعارضة”، سوريا اليوم هي عبارة عن فسيفساء من الإقطاعيات الصغيرة، حيث تنازلت الحكومة عن مساحات شاسعة من الأراضي لصالح إيران وروسيا وحزب الله، ويتراوح معارضوها ما بين مسلحي داعش المروعين إلى زمرة من الجماعات المتمردة الصغيرة التي يقودها أمراء الحرب المحليون الذين يعتمدون على المانحين الأجانب، حيث يعمد أمراء الحرب، ضمن كافة أطراف الصراع، لتحديد أراضيهم بنقاط تفتيش مسلحة، ونتيجة لتذوق صغار الزعماء هؤلاء لطعم القوة، من الصعب أن نتصور أنهم سينصاعون بسهولة إلى أي حكومة وطنية.
انهيار سوريا يشكل تهديدًا كبيرًا على الاستقرار في الشرق الأوسط؛ فسواء بشكل سلبي أو إيجابي، كانت سوريا لاعبًا رئيسيًا في العالم العربي منذ الحرب العالمية الثانية، حيث لعبت في كثير من الأحيان دور الكابح، المتحكم بالخيوط، أو المنقذ في الصراعات التي عصفت بجيرانها، ومن ذلك، الدور الرئيسي الذي لعبته في معرض تدخل القوى الأجنبية المذهلة في الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت لـ15 عامًا، حيث استطاعت سوريا وضع حد للصراع في البلاد من خلال احتلال لبنان الصريح، الأمر الذي باركته الولايات المتحدة.
سوريا، إحدى أكثر الدول أهمية في العالم العربي، تمزقت إربًا، ولا تستطيع أي تسوية سلمية أن تعيدها إلى ما كانت عليه مرة أخرى.
لولا دمشق، لما استطاعت مجموعة كبيرة من المليشيات المارقة أن تصمد؛ حيث ارتقى حزب الله ليصبح لاعبًا إقليميًا قويًا من خلال مساعدات سورية المستمرة، نجا قادة حماس سنوات النفي العجاف في دمشق، ووجدت العديد من الجماعات التي تُصنف كإرهابية من قِبل الحكومات الغربية ملجأ في سوريا، فضلًا عن أن رعاية حكومة الأسد للمتمردين العراقيين ساعدت على إذكاء الانتفاضة ضد الاحتلال الأمريكي، وقدمت دعمًا مبكرًا حاسمًا للمتطرفين الذين أضحوا اليوم قادة تنظيم داعش.
ولكن مع ذلك، ورغم كافة تحركاتها المزعزعة للاستقرار، كانت سوريا تشكّل نقطة محورية متماسكة في منطقة تفتقر للقادة القادرين على التصدي للمشاكل وحلها، وفي بعض الأحيان، حتى الولايات المتحدة وإسرائيل تعاونتا بشكل وثيق مع دمشق.
اليوم، يبدو بأن سوريا ستؤثر في المنطقة، ولكن ليس بوصفها دمية رئيسية، بل كثقب أسود؛ فالحرب السورية ولّدت بالفعل حالة من الفوضى، ابتداءًا من ملايين اللاجئين الذين يبحثون عن الأمان خارج حدود بلادهم، وحتى صعود داعش وحركة المرور الهائلة للأسلحة والأموال إلى أيدي المسلحين.
ولكن القادم قد يكون أسوأ؛ فحتى لو ارتضت أجزاء من المعارضة بالوصول إلى اتفاق مع الحكومة، فإن المنطقة التي سيحاولون السيطرة عليها ستكون ضئيلة بشكل غير متناسب، فقلب الحركة الصناعية في البلاد، والمدينة الأكثر اكتظاظًا بالسكان، حلب، دُمرّت بالكامل تقريبًا، وأنظمة الاقتصاد والتعليم والصحة السورية، التي أدت وظيفتها بشكل جيد قبل الحرب وفقًا للمعايير الإقليمية، من غير المرجح أن تتعافى، ومن المحتمل أن يلعب مشهد ما بعد الحرب دور المضيف للمتطرفين وأصحاب المشاريع العنيفة والتكسب غير المشروع.
إذن، لماذا يتحلى البعض بالأمل في محادثات جنيف؟
أحد أسباب ذلك هو سياسة القوى العظمى، فروسيا والولايات المتحدة تبحثان عن سبل لتهدئة التوترات، ودبلوماسيو كلا البلدين يعتقدون بأن التوصل إلى اتفاق في سوريا قد يفسح المجال لإحداث تقدم في قضايا على مستوى أكبر من الأهمية، كقضية أوكرانيا.
العامل الحاسم الآخر هو الإنهاك، فإيران وحزب الله دعما وساندا النظام السوري لسنوات، ولكن لولا مساعدة روسيا، لن يستطيعا مساعدته على المحافظة على مواقعه، ناهيك عن مساعدته على الفوز بالحرب، وعلى الجهة المقابلة، عمدت تركيا والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، وهم الرعاة الرئيسيون للمعارضة السورية، إلى التراجع عن تقديم الدعم بمجرد تحقيق وكلائهم على الأرض لانتصارات معتبرة، وربما ينبع هذا الموقف من تشككهم من قدرة هذه الفصائل على التصرف بمسؤولية في حال تقلدوا السلطة.
الحرب دخلت مرحلتها النهائية، ولكن الأمر سيستغرق بضعة سنوات أخرى على الأقل من القتال قبل أن ينخرط الطرفان بمفاوضات جدية، وحتى الآن، لا يأخذ أي من اللاعبين على الأرض محادثات السلام القائمة على محمل الجد.
المدنيون في سوريا يائسون، وصفوف المقاتلين تتضاءل، خاصة على الجانب الحكومي، وعلى الرغم من أن أيًا من الطرفين لم يتخل عن أمل تحقيق فوز صريح، يعترف عدد متزايد من الثوار ومؤيدي الحكومة متوسطي المستوى بأنهم إما سيضطرون إلى تسوية تترك البلاد منقسمة أو للتحالف مع ألد أعدائهم؛ فبعض قادة الثوار الذين قابلتهم في مارس الماضي، أوضحوا لي بأنهم يعتقدون بأن الحرب دخلت مرحلتها النهائية، ولكن الأمر سيستغرق بضعة سنوات أخرى على الأقل من القتال قبل أن ينخرط الطرفان بمفاوضات جدية، وحتى الآن، لا يأخذ أي من اللاعبين على الأرض محادثات السلام القائمة على محمل الجد.
جذبت إعادة تأكيد روسيا وأمريكا على انخراطهما بالعملية أنظار المفاوضين، ولكن هذه التأكيدات تعني بأنهما تعتقدان بإمكانية الشروع في عملية مفاوضات حقيقية فقط، لا أنهما تتوقعان نتيجة قريبة لها؛ فالوصول إلى اتفاق حقيقي بين المتنافسين كإيران والسعودية، أو روسيا والولايات المتحدة، لإنهاء الحرب هو أمل بعيد المنال، وفكرة أن هذه الدول ستعمل معًا لمنع انجراف سوريا المستمر نحو منطقة العنف، هو أمل أكثر بعدًا.
حتى الآن، لا زال مفاوضو الأسد ينظرون إلى المعارضة المسلحة كعناصر “إرهابية”، في الوقت الذي تصرّ فيه المعارضة على أن الأسد، الوباء الذي يجتاح سوريا، يجب أن يتنحى فورَا، وفي خضم ذلك، تبدو الدولة التي يساوم الطرفان على مصيرها عصية على الإنقاذ.
المصدر: نيويورك تايمز