لم تمر القمة الإسلامية بسلام على الأمة، هذا هو ملخص بسيط في عدد كلماته، لكنه يعكس صورة لأوضاع شديدة التعقيد تعيشها الأمة في الوقت الراهن، أخذت مجالها في ردهات القمة الـ13 التي عقدت في إسطنبول، مثلما تأخذ مجالها في ميادين القتال والسياسة الأخرى، مثل اليمن وسوريا، وغيرها.
ولعل أهم وأخطر الظواهر التي أفرزها اجتماع كان من المفترض أنه يمثل الأمة، ويجمع قادتها، من أجل وضع سياسة موحدة للتعامل مع قضاياها العاجلة والملحة؛ هو كيف بدا قادة الدول الإسلامية الكبرى، بدلاً من أن تجتمع كلمتهم بشأن قضايا الأمة، وقد تحزبوا لقضايا دولهم، وتحولوا إلى مجرد رؤساء وشيوخ وأمراء وملوك كيانات أسسها الاستعمار في الأصل لشرذمة الأمة.
عبَّر الكثير من “المواطنين” المسلمين، عن سخطهم على القمة، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب طغيان الطائفية والقومية الضيقة على مصالح وقضايا الأمة.
بدا فشل القمة في أول أيامها، عندما وقع الموقف الذي رأه العالم كله، بين وزير الخارجية المصرية سامح شكري، الذي مثل مصر، الرئيس السابق للقمة، وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي مثَّل تركيا، رئيس الدورة الجديدة للقمة الإسلامية، عندما رفض شكري مصافحة أردوغان، ولم يعلن تسليمه لرئاسة القمة، في تعبير واضح عن انسداد كافة السبل للمصالحة بين بلدَيْن من أكبر بلدان العالم العربي والإسلامي.
جاءت بعد ذلك كلمة أردوغان نفسه، التي عرَّض فيها بشكل واضح بدول الخليج، والمملكة العربية السعودية، عندما تكلم عن التدخلات والقوات الأجنبية في المنطقة، وكيف عاونت بعض الدول على تسهيل استقدام هذه القوات، وتأكيده على أنه هذه القوات لم تأتِ “لحماية” هذه الدول، وإنما طمعًا في “نفطكم”.
هذه الكلمة دفعت العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وأمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، إلى مغادرة القمة بعدما ألقوا كلمتيهما مباشرةً قبل نهاية اليوم الأول للقمة، من دون أن يستكمل العاهل السعودي برنامج الزيارة فيما يخص الجانب المتعلق بالعلاقات السعودية التركية، فيما أطلق وزير الخارجية السعودي عادل الجبير تصريحًا أشار فيه إلى “المزيد من التنسيق” مع تركيا “خلال الفترة المقبلة” بخلاف لغة الخطاب الدبلوماسية الدافئة التي كانت في بداية الزيارة.
لقاء أردوغان – روحاني وبواعثه
بدت أزمة القمة في أجلى صورها، في لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مع نظيره الإيراني، حسن روحاني؛ حيث تبدت فيه الكثير من معالم الأزمة التي من المُرجَّح أن تتصاعد أكثر بين الرياض وأنقرة، بعد أن بدت مكتومة بسبب رفض أنقرة الاستجابة لطلبات الرياض في صدد المصالحة مع مصر السيسي.
لقاء أردوغان مع روحاني له أكثر من بُعد في رسم الصورة الراهنة للعلاقات السعودية – التركية، وأوضاع المشرق العربي والإسلامي بشكل عام.
أولاً، وضح من حديث أردوغان خلال لقائه مع روحاني، الهاجس الأساسي الذي يؤرق مضجع تركيا، وهو موضوع الأكراد.
كان أهم ما ركز عليه أردوغان، هو “اتفاق” إيران وتركيا على وحدة الأراضي العراقية والسورية، وكان من اللافت ذكر أردوغان خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه بروحاني، السبت 16 أبريل، أي بعد انتهاء القمة بيوم، ومغادرة كل ضيوفها؛ للعراق، مما يشير إلى أن هاجس الأكراد في ذهن صانع ومُتَّخِذ القرار التركي، بالضبط كما تشكل إيران أولوية في ذهنية صانع ومُتَّخِذ القرار السعودي.
وكانت “الطعنة النجلاء” و”الخيانة العظمى”، من أردوغان للرياض، عندما قال: “تركيا وإيران بلدان هامَّان على الصعيد الدولي والإقليمي، ولذلك علينا العمل معًا من أجل التغلب على مشاكل الإرهاب والطائفية، وما ينجم عنهما من أزمات إنسانية”.
فذلك يضرب بعرض الحائط كل ما تقوله الدبلوماسية السعودية، وتحاوله في موضوع حشر إيران في الزاوية في أمرَيْن؛ الأول هو محاصرتها دبلوماسيًّا، والثاني، تصويرها على أنها هي “أُس” الطائفية في العالم الإسلامي.
أول درس في هذا الأمر، هو ما عبَّر عنه الكاتب الإسرائيلي تسفي بارئيل، في الهآرتس، يوم 15 أبريل، بالقول أنه يتعين على سلمان أن يتعايش بسلام مع حقيقة أن المساعدة الاقتصادية، مهما كانت كبيرة، لا تضمن الطاعة السياسية من جانب الزبائن”.
فالمغريات الاقتصادية السعودية لم تقُد في تركيا إلى نفس النتائج التي قادت إليها في مصر، كما حدث في موضوع تيران وصنافير الذي تسبب الاعتراف المصري بسعوديتهما، إلى أزمة حقيقية لدى الرأي العام المصري.
كلام بارئيل جاء بعد مقالٍ مطوَّل له عن زيارة الملك سلمان إلى مصر ثم تركيا، وفشل جهود الرياض في المصالحة بين الطرفَيْن، وعمق الأزمة – التي أرجعها إلى رعاية تركيا للإخوان المسلمين – بين القاهرة وأنقرة، بالشكل الذي أدى إلى مشهد شكري – أردوغان الشهير، والذي لفت بارئيل إليه في مقاله هذا الذي حمل عنوانًا لافتًا بدوره، وهو “في الطريق إلى كامب ديفيد جديد مع السعودية”.
الدرس الثاني، هو أن هناك تباعد أكيد في المواقف بين الرياض وأنقرة في الملف الأهم لكلتَيْهما، وهو ملف مصر.
ففي الصورة الذهنية الرائجة في الإعلام والدوائر الدبلوماسية في المنطقة، والمحيطة بها؛ فإن الأزمة السورية هي أهم الملفات التي تتقاطع فيها دوائر أنقرة والرياض، لكن الحقيقة غير ذلك، فمصر هي الصلب والمحور الأهم.
فالملف السوري على أهميته؛ فإنه بالنسبة للرياض داخل في إطار التدافع ضد إيران ومشروعها في الإقليم، بينما في مصر الأمر يتعلق بوجود النظام السعودي ذاته، وهو الذي دفع السعودية إلى الممانعة ضد ثورة يناير، وضد نظام الرئيس محمد مرسي والإخوان المسلمين، ودعم النظام الحالي بكل ما أوتيت من مليارات وثقل سياسي إقليمي ودولي.
أما بالنسبة لتركيا؛ فلمصر ذات أهمية الموضوع السوري، فلو مسَّت الحرب في سوريا الأمن القومي التركي في أكثر من محور، من بينها ملف الأكراد، فإن الموضوع المصري، يتعلق بالرئيس التركي، وبالتحديد بمشروعه لاستعادة هيمنة تركيا الإقليمية، ودور النظام التركي كأحد آخر حصون مشروع الإخوان المسلمين الإقليمي، بعد تداعي التنظيم في مصر، وحصاره في الأردن، وفي غزة، وتنازلاته الكبيرة في تونس وفي المغرب، لأجل الإبقاء على جذوة التواجد السياسي الحكومي الرسمي.
والموقف السعودي مدهش في تبايناته وتداخله في الواقع، بحيث يبدو غير منطقي بالفعل؛ فبينما هو “يحرِّض” أردوغان على تسليم قيادات الإخوان والسياسيين المعارضين للنظام المصري، المطلوبين للقضاء في مصر، وطرد الباقين؛ فإنه يستجدي بالفعل دورًا إخوانيًّا في اليمن، وفي الموضوع الإيراني، في العراق، وحتى “حماس”، التي هي كما هو مفترض، من أعدى أعداء النظام المصري الذي أبقت الرياض إلى الآن، رأسه فوق الماء، وحالت دون اختناقه غرقًا!
كما أن ما تطلبه الرياض من تركيا في هذا الملف، يعني، وبلا مناقشة هدم أردوغان ومشروعه سياسيًّا بالكامل؛ حيث إن ذلك معناه ألا يكون هو أردوغان صاحب المشروع الإسلامي الذي يسعى إلى استعادة هوية تركيا العثمانية، وإقامة خلافة جديدة، كما يردد مريدوه، يعني ببساطة، ألا يكون هو أردوغان، وهو انتحار سياسي بلا شك.
ثم إنه من المستغرَب بالفعل أن تتصور الرياض أن يتجاوب أردوغان مع سياساتها، بينما الرياض هي العامل الأهم الآن في الحفاظ على حياة النظام “الانقلابي” المصري، الذي من بغض طلعته كأنما يمشي على كَبِد أردوغان، والقوى التي تؤيده في الداخل والخارج.
فأردوغان لن يستطيع ذلك، على الأقل لاعتبارات مصداقيته أمام الجمهور الذي يؤيده في الداخل والخارج، وهو بالفعل الذي تعرَّض لانتقادات سابقة بسبب علاقاته المطردة مع السعودية التي هي عامل إسناد لنظام عبد الفتاح السيسي في مصر.
ولذلك، وعندما أسفرت الضغوط السعودية عن تبني القمة الإسلامية لبيان يدين تدخلات إيران وحزب الله اللبناني، في الإقليم، ووصفها بالإرهابية؛ فإن أردوغان، بحسب مصادر خاصة في أنقرة، تعمد أن يجتمع بالرئيس روحاني، لإثبات أنه لا يتبنى ما جاء في البيان بشأن إيران، حفاظًا على مصالح الأمن القومي لبلاده.
وهو أمر خطير، لأنه مثل بلاده رسميًّا في القمة، وتركيا من المفترض أنها تترأس القمة الحالية لمنظمة التعاون الإسلامي، وبالتالي فهي مسؤولة – كما هي العادة في المنظمات الإقليمية من هذا النوع – عن متابعة تنفيذ مقررات القمة الأخيرة، وحتى تسليم الرئاسة في الدورة المقبلة للقمة، للدولة التالية لتركيا في الدور لترؤس القمة الإسلامية.
الإخوان المسلمون.. حسابات محيرة!
إذًا أردوغان، تنصل من مقررات القمة تبعًا لمصالح بلاده، ولكنه، ولئن كان على قدر من الحرية في هذا الأمر، فإن هناك طرف يبدو أنه سوف يكون أكثر تضررًا من الجميع لهذا السبب.
هذا الطرف هو الإخوان المسلمين، فالإخوان هم – في حقيقة الأمر – أكبر ضحية للسياسات الإقليمية المتناقضة في الوقت الراهن، على هذه الصورة.
ولئن كان هناك تفسيرات لهذا الأمر، فإن أهمها يعود إلى الجماعة نفسها؛ حيث إنها ارتضت منذ البداية بتبني سياسات الارتهان لقوى أخرى، مُتخليةً عن بديل آخر، وهو بناء عناصر قوتها الذاتية الذكية التي تتلاءم مع مثل هذه النوعية من الكيانات التي تنتمي إليها الجماعة، ككيان عابر للحدود، يتبنى أجندة – كانت – مستقلة عن خيارات الدول التي يوجد فيها، قدر المستطاع.
إلا أن التحولات التي وقعت في مصر وفي دول عربية أخرى، ربما أدت إلى حالة من الضعف جعل من الجماعة رهينة في قبضة أطراف أخرى أكبر وتتمتع بالمناعة في الوقت الراهن.
لكن، وبشكل عام، فإن الأزمة بين تركيا والسعودية، لا تحمل أنباء سعيدة للإخوان المسلمين، أو على الأقل لبعض أركان الجماعة المهشمة في أكثر من اتجاه في الوقت الراهن.
فبينما تبذل أوساط إخوانية سعودية وأخرى إخوانية مصرية مقيمة في السعودية، الكثير من الجهد للحفاظ على “شعرة معاوية” بين الإخوان وبين القصر الملكي والحكومة السعودية؛ استغلالاً لملفات أمن قومي سعودية، مثل الحرب على داعش، وقضية مكافحة الفكر المتطرف، ومواجهة الأفكار الطائفية التي تروجها إيران في الإقليم، والتصدي للتدخلات الإيرانية في المملكة وفي اليمن والبحرين، فإن سلوك أردوغان، والذي يدعمه فيه بعض الإخوان المصريين المقيمين في تركيا وأطراف من التنظيم الدولي، تميل إلى توطيد العلاقات مع إيران في المرحلة الراهنة.
بدا التناقض في أكثر من موقف في الفترة الأخيرة.
فوزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، قال خلال تواجده في القاهرة، إن الرياض تميز بين الفكرة وبين التنظيم في حالة الإخوان.
كما أن تحالف دعم الشرعية ورفض الانقلاب الذي أسسه الإخوان في مصر، رحب بزيارة الملك سلمان إلى القاهرة، مع التأكيد على ثوابت التحالف في رفض الانقلاب وضرورة رحيل السيسي.
في المقابل؛ فإن مكتب الإخوان المصريين في الخارج، أصدر بيانات نارية انتقدت الزيارة وانتقدت سلمان، في إطار أزمة تيران وصنافير، مع تأييد للسياسات التركية في الإقليم، والتي تتعارض في الكثير من مكوناتها مع المواقف والرغبات السعودية.
ولا أحد يدري كيف سوف يدير الإخوان، وخصوصًا الجناح الذي تديره القيادات التاريخية للجماعة هذا الدولاب المعقد من العلاقات، والذي لا يبدو فيه أيَّ شيء يقيني؛ فحتى قمة أردوغان – روحاني، خرج محمد قورماز رئيس الشؤون التركية بتصريح إعلامي، ذكر فيه أن تركيا تحاول أن تلعب دور الوساطة بين طهران والرياض في موضوع الحجاج الإيرانيين، لكن لا يبدو أن هذا الأمر صحيحًا بالقدر الكافي، حيث حَوَى المؤتمر الصحفي لأردوغان وروحاني بما هو أكثر من ذلك بكثير.
ولهذه التعقيدات ثمنها؛ حيث إن هذا التداخل يحمل في طياته الكثير من المخاطر، خصوصًا لو وقعت خطوات غير محسوبة قد تؤدي إلى تصعيد غير متوقع لأزمات مكتومة، سيكون الأضعف فقط هو الأكثر تضررًا منها.
فكيف سيكون الحال لو وقع انقلاب عسكري في تركيا؟ وقتها سوف تكون أزمة قد لا يتحملها الإخوان في ظل انسداد أي أفق إقليمي ودولي لهم في الوقت الراهن.