إنّ الراهن الجزائري بات ينذر بأفق مظلم، تختنق فيه رئتا الفكر والوعي، فليست الأزمات الاقتصادية ولا الاجتماعية ولا حتى الأمنية بذات بال إذا امتلك الشباب الجزائري ناصية الوعي الذي يقلب فيه الليل إلى نهار، والذل والانهزامية إلى عز وانتصار؛ فوحده الوعي بمخاطر الكسور هو ما يجعلنا بمنأى عن الانزلاقات في براثن الفكر المنحدر والاستعمار المستتر، هذا الأخير الذي بات أهم مفصل من المفاصل التي تحرّك المجالات الحيوية لأي دولة عربية، ما أودى بها إلى انهيارات كبرى لا تملك القيام بعدها.
لن نكون مبالغين إذا اعتبرنا اللغة في أي تجمع بشري هي أهم ركيزة بعد الدين تؤسس لموثوق هوية، وليست هذه نزعة شوفونية أو ميثافيزيقا وهمية، بل هي واقع نلمسه في كل مسار للبناء الحضاري.
فما تأتي به الوزيرة ابن غبريط من مشاريع إصلاحية، هي في الحقيقة معاول هدم ومخدر فهم وفرانكفونية صارخة تريد أن تضع المدرسة الجزائرية قاب قوسين أو أدنى من المدرسة الفرنسية.
وهذه من بقايا سياسة مستعمر خلع نعاله السوداء من تراب الجزائر الطاهر، وترك سُمّه الفكري يريد أن يسقي به عقول شباب لا يعرفون عن فرنسا إلّا أرشيفًا من الصور كثيرًا منه اندثر، فأن تمتد اللغة الفرنسية هذا الامتداد، هو منافسة ظاهرة جلية للغة العربية، ولأنه بنظرنا لا يمكن أن يحمل الفكر في جوفه من لغتين، فقد تفقد اللغة العربية مع الزمن مكانتها بمزاحمة الفرنسية لها، وهذا هو مطمح فرنسا الاستعمارية، ولا يعني ذلك أن نضع بين الشباب واللغة الأجنبية أسوارًا، بل أن نضع جسورًا أو شرفات يطل من خلالها الشباب على الخارج وعلى الثقافات الأجنبية من غير أن يلقي بنفسه إليها منتحرًا.
فلكل فكر وعاء يجمعه هو اللغة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحل اللغة الفرنسية محل العربية، وهذا ما وضّحه المفكر أبو سعيد الصيرفي بعد مناظرة طويلة امتدت من شروق الشمس إلى غروبها، خلص فيها إلى أن قضايا منطق اللغة اليونانية إذا أُنزِل على منطق اللغة العربية أفسده، وهذا ما بيّنه أيضًا الفيلسوف الألماني العظيم غوته حين قال: “لولا اللغة الألمانية لما نشأت الفلسفة الألمانية”.
وبعيدًا عن أي لغة أخرى فأبناء الجزائر بحاجة كجميع الدول العربية إلى التمسك بلغتهم، لأنها لغة قرآنهم، ولهذا فإن سياسة المستعمر الفرنسي مع مستعمراته دومًا كانت محاولة طمس اللغة لتطمس من خلالها الهوية، وهذا ما أثبته المفكر المغربي عبد العلي الدوغري من خلال كتابه “السياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب”، حيث جمع من خلاله العديد من الوثائق لضباط فرنسيين كان هدفهم القضاء على اللغة العربية لأنها كما صرّح أحدهم “إذا عاشت اللغة العربية عاش القرآن” وذلك ما لا يريدونه.
ثم إنه مخطئ من يعتقد بأن اللغة العربية هي لغة قريش، ولغة الجمل وما حمل، بل إنّ مكانة أي لغة يفرضها أصحابها، وخير مثال حاضر للعيان اليوم هو قناة الجزيرة العربية التي زاحمت القنوات الأجنبية، ما جعل فرنسا تبث من عاصمتها باريس قناة منافسة هي “فرانس 24” ناطقة بالعربية، كما أنّ الحزب اليساري الاشتراكي في حملته الانتخابية قام بطرح اللغة العربية كثالث لغة إجبارية في فرنسا لأنه يراها لغة الاقتصاد والمستقبل.
فلغتنا العربية هي لغة ثلاثمائة وخمسين مليون، وهي في المرتبة الثالثة من حيث الانتشار بعد الصينية التقليدية والإسبانية، تليها الإنجليزية في المرتبة الرابعة، أما الفرنسية فهي لغة تحتضر وفي طريقها للزوال.
وشهد شاهد من أهلها؛ الأديب الفرنسي صاحب روايات الخيال العلمي جول فيرن، والذي جل ما جنح به خياله كان إلهامًا واقعًا، ففي روايته “رحلة في مركز الأرض” تصور مركبة تتحمل حرارة باطن الأرض لتتمكن من الغوص إلى أعماقها، لتجد آثار حضارات قديمة ومجموع مخطوطات مكتوبة باللغة العربية، وحين سئل عن سبب اختياره للغة العربية كلغة للمخطوطات، أجاب قائلاً: “لأنها لغة المستقبل”.
فلنتمسك إذن بلغة المستقبل فهي لغة دنيانا وآخرتنا.