دائمًا، وفي كُل وقت تحتاج المناطق، وخاصةً الملتهبة منها، إلى زعامة وقيادة تمثل دور الأخ الأكبر وحامي الحمى، وترتكز هذه الزعامة، على عدة عوامل، منها القدرة العسكرية والمالية، وموقع الدولة وعلاقاتها الاستراتيجية بالكبار، وتجزر هذه الدولة في عمقها الإقليمي وتبعية بعض الدول في ذات المنطقة لها.
ومع انهيار الدور المصري في المنطقة العربية، وتقزيمه وتهميشه، بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013، وبُعدِه عن قضايا كانت تمثل حجر أساس لاستراتيجيته الإقليمية، ويعتبر هو أحد المفوضين الأساسيين باسمها كالقضية الفلسطينية مثلًا، أصبح من السهولة للملكة العربية أن تبدأ بالصعود لواجهة المنطقة العربية، وأن تحمل لواء القيادة العربية، بعد مصر التي لم تتنازل عنه حتى في أحلك الظروف كالحروب، وحتى إبان أزمة اتفاقية كامب ديفيد، وبعدها كانت مصر دائمًا “الأخت الكبرى” للعرب، حتى بعد أكثر من ستين عامًا، من الفقر والجوع والانهيار لبنى الدولة.
ويمكننا البدء من المحطة الأقرب، فيما يمكن تسميته بالتوسع السعودي إقليميًا ودوليًا خلال الأعوام الماضية.
ففي عام 2013 دعمت المملكة العربية السعودية، الجنرال عبدالفتاح السيسي في انقلابه العسكري، وبدأت في دعمه بالمال والإعلام، ما يؤكد حتى وإن كان غير مُعلن، وثوق المملكة في شخصه، أن يكون تابعًا لها وأن يصير أيضًا أحد الأدوات التي إذا حسُن استخدامها فسيكون ذراعًا يمنى للتحركات الملكية سواء في ملف إقليمي كسوريا أو اليمن، أو في ملفٍ دولي كالعلاقات الأمريكية – العربية، فمجرد وضع اسم مصر، فقط، في أي تحالف عسكري أو سياسي أو حتى اقتصادي هو مكسب كبير لأصحابه.
الرز مفتاح الفرج
يبدو واضحًا، وليس هذه الأيام فقط، اعتماد المملكة العربية السعودية، بشكل رئيسي على ما تقدمه من دعمٍ مادي للدول، يساعدها في كسب مواقف هذه الحكومات إلى صفها في كثير من الأزمات، فالمملكة، ثاني أكبر منتجٍ للنفط في العالم، كشفت تقاريرٌ كثيرة عن منحها “هبات” مالية كبيرة، لدول وشخصيات نافذة في حكوماتها، تصل إلى حد منصب رئيس الوزراء، ما يجعل هذه الدول دائمًا في صف المملكة، ليس هذا فحسب، فهناك بعض المنح المالية يتم صرفها، دون انتظار شيء في المقابل، كما يصرّح المسؤولون السعوديون.
يدلل على ذلك، ما وقع العام الماضي، حين اتهمت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، نجيب رزاق رئيس الوزراء الماليزي، بالفساد المالي، مؤكدةً أن 681 مليون دولار حولت لحساب رزاق من صندوق حكومي في بلاده يعاني من أزماتٍ ومشاكل، لتخلص التحقيقات الماليزية، ببراءة رزاق في النهاية، وأن هذه الأموال لم تكن تخص الصندوق الحكومي.
من كانت تخُصه هذه الملايين؟
وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، صرح للصحفيين خلال قمة منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، أنه هذه الأموال تخص “هبةً” ملكية من الأسرة الحاكمة في المملكة لرئيس الوزراء الماليزي، مؤكدًا على علم سلطات بلاده بهذه المنحة وهي منحة حقيقية “دون أن تنتظر بلاده أي شيء في المقابل”.
في المقابل، ما الذي يربط السعودية بماليزيا؟
علانيةً تربط المملكة بماليزيا، اتفاقية، جرى توقيعها في أبريل عام 2011، حيث وقّع الاثنان في الرياض اتفاقية تعاون أمني واستخباراتي تهدف لمكافحة الإرهاب ومحاربة المجموعات “الإجرامية”، وركزت الاتفاقية بصورة كبيرة على تبادل المعلومات الأمنية بين الجانبين إضافة إلى تبادل الخبرات والتعاون في مجال التدريب الأمني.
غير المعلن، تعود العلاقة بين رئيس الوزراء الماليزي والسعودية إلى الانتخابات البرلمانية الماليزية عام 2013، والتي كان نجيب رزاق يخوضها على رأس ائتلاف الجبهة الوطنية الحاكم، في مواجهة التحالف الشعبي المعارض الذي يتكون من عدد من التيارات الإسلامية بقيادة السياسي المعارض أنور إبراهيم الذي شارك في تأسيس حركة الشباب الإسلامي عام 1971 والتي يعتبرها مراقبون ممثلاً حقيقيًا لفكر الإخوان المسلمين في ماليزيا.
وبحسب مصدر سعودي رفض الكشف عن هويته وتحدث لموقع هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” الإلكتروني، فإن الأموال السعودية التي تحدثنا عنها سابقًا، جاءت لدعم الحملة الانتخابية لنجيب رزاق، وذلك بهدف ضمان فوزه بالانتخابات، وبالتالي تحجيم نفوذ جماعة الإخوان المسلمين هناك، لاسيما وأن الرياض كانت تخشى من توسع نفوذ الإخوان في ماليزيا، وهو البلد الذي يبلغ عدد سكانه نحو 31 مليون نسمة ويشكل فيه الإسلام السني الدين الرسمي
الخبير المصري في شؤون الحركات الإسلامية، طارق أبو السعد، قد أشار في حديث مع موقع “اليوم السابع” المصري في أغسطس عام 2014، إلى أن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، وبعد تصنيفه كمنظمة إرهابية في كل من مصر والسعودية والإمارات، حاول نقل مقره من قطر إلى ماليزيا وتركيا، وذلك خشية حدوث تحول في الموقف القطري وأيضًا بهدف تسوية العلاقات مع الجيران الخليجيين.
المملكة والمنطقة
من غير الخفي، أن “دبلوماسية الشيكات” هي الأسلوب النافذ الذي تتحرك به المملكة في المنطقة، ففي الأزمة الأخيرة التي وقعت بين إيران والسعودية، لوحظ ذلك بشكلٍ كبير، من ردود الأفعال في المنطقة، التي سريعًا ما تم اتخاذها لتدعيم موقف المملكة.
فسريعًا، وبعد إعلان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، قطع العلاقات الدبلوماسية بين بلاده وإيران، أعلنت البحرين، قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وطلبت من أفراد البعثة الإيرانية مغادرة البلاد، خلال 48 ساعة من الأحداث، ثم إعلان دولة الإمارات، تخفيض علاقاتها الدبلوماسية مع إيران لدرجة قائم بالأعمال، لتقرر الرئاسة السودانية طرد السفير الإيراني من الخرطوم، وأكدت وقوفها الكامل مع السعودية.
وفي مصر، التي اتخذت قرارًا بقطع العلاقات مع إيران منذ 27 عامًا، نظرًا للأوضاع في ذلك الوقت، رفض وزير الخارجية التدخل في الشأن الداخلي للمملكة.
ليأتي الموقف المصري مترجمًا على لسان المؤسسة الدينية، في تأكيد الأزهر في بيان له تضامنه مع السعودية ملكًا وشعبًا، داعيًا إلى ضرورة احترام الشؤون الداخلية للمملكة وعدم التدخل فيها.
جمهورية جيبوتى، التي تتمتع بموقع استراتيجي هام في المنطقة، حيث تطل على مضيق باب المندب، أدانت أيضًا الاعتداء الذى تعرضت له سفارة المملكة العربية السعودية فى طهران وقنصليتها فى مدينة مشهد، معربة عن تقديرها البالغ للدور الرائد الذى تقوم به المملكة العربية السعودية لإرساء دعائم الأمن وتثبيت أسس السلم على الصعيدين الإقليمي والدولي.
يذكر، أن السعودية، قد قررت في مارس الماضي، عقد اتفاقية للتعاون في المجال العسكري بين المملكة وجيبوتي، سفير الأخيرة بالمملكة أكد عزم الرياض على إنشاء قاعدة عسكرية على الأراضي الجيبوتية، المقابلة لليمن بحرًا.
صورة من خبر بجريدة الشرق الأوسط
المال السعودي وسياسة لي الذراع
في نهاية عام 2013 أعلنت المملكة عن تقديم هبة سعودية إلى لبنان بقيمة ثلاثة مليارات دولار على أن يتم بها شراء أسلحة من فرنسا، وتسلم لبنان دفعة على الأقل من هذه الهبةـ ثم أعلنت في وقت لاحق عن هبة أخرى بقيمة مليار دولار إلى قوى الأمن الداخلي، وفي فبراير الماضي قررت السعودية إيقاف هذه المساعدات على خلفية ما وصف بالمواقف اللبنانية المناهضة للملكة، وفق ما أعلنت وكالة الأنباء السعودية.
عقب هذا القرار طالب رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام السعودية بإعادة النظر في قرارها بوقف المساعدات، وقال في بيان صدر عن مكتبه “تلقينا بكثير من الأسف قرار المملكة العربية السعودية المفاجىء القاضي بإيقاف المساعدات المخصصة لتسليح وتجهيز الجيش وقوى الأمن الداخلي”، متمنيًا إعادة النظر في القرار.
إذن، ما سبب الحقيقي وراء هذا القرار المفاجئ؟
يجيب على هذا السؤال، وزير الثقافة والإعلام السعودي عادل الطريفي، الذي نقلت عنه وسائل إعلام عالمية قوله بأن مجلس الوزراء السعودي شدد على وقف المساعدات، قائلًا “إن السعودية تُقابل بمواقف لبنانية مناهضه لها على المنابر العربية والإقليمية والدولية في ظل مصادرة حزب الله اللبناني لإرادة الدولة، كما حصل في مجلس جامعة الدول العربية وفي منظمة التعاون الإسلامي من عدم إدانة الاعتداءات السافرة على سفارة المملكة في طهران”.
وبهذا، تكون المملكة قد عاقبت لبنان نتيجة تصرفات حزب الله الذي يتمتع بعلاقات عدائية مع السعودية، وتقوم الأخيرة بحشر لبنان في الزاوية من جديد، ليكون على بيروت الاختيار بين السعودية وحزب الله، أكّد على ذلك وزير الخارجية البحريني الذي صرح في أعقاب الأزمة بأنه “على بيروت الاختيار بين الأمة العربية والمنظمة الإرهابية”.
الأرض مقابل المال
فاجأ نظام عبدالفتاح السيسي، المصريين الأسبوع الماضي، بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، نتج عنها اعتراف مصري بأن جزيرتي صنافير وتيران سعوديتان.
جاء ذلك أثناء زيارة العاهل السعودي لمصر الأسبوع الماضي، والتي شهدت توقيع أكثر من 25 اتفاقية تعاون اقتصادي واستثماري بلغ مليارات الدولارات.
“رسالة شكر مهذبة على الكرم السعودي”، بهذا الأسلوب وصّفت صحفية نيويورك تايمز الأمريكية تنازل مصر عن الجزيرتين للملكة العربية السعودية خلال الزيارة التي وصفت بالتاريخية.
وقالت الصحفية في تقرير نشرته عقب انتهاء الزيارة، إن المملكة قد أغدقت الوعود على مصر ووقعت العديد من الاتفاقيات معها، شملت اتفاقية تخص توريد البترول إلى مصر لمدة خمس سنوات مقابل 22 مليار دولار، فما كان من مصر إلا أنها خالفت المتعارف عليه عبر تقديم رسالة شكر وامتنان على الكرم السعودي، وقامت بالتنازل عن الأرض في إظهار للامتنان الشديد لحكومة المملكة، وفقًا لتعبير الصحيفة.
فيما نشرت وسائل إعلامٍ مصرية، أن تنازل السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير أتى مقابل 2 مليار دولار سنويًّا و25% من الغاز والبترول المستخرج منهما.
وفي مقالٍ للكاتبة الإسرائيلية سمدار بيري في في صحيفة “يديعوت أحرنوت” الإسرائيلة، تناولت فيه قضية البيع، قالت الكاتبة “السعودية اليوم تفاجئ الكل وتختطف من مصر في ذروة ضعفها، مكانة الصدارة في العالم العربي”.
وتداولت وسائل إعلامٍ مناهضة لنظام عبدالفتاح السيسي، وثيقتين قيل إنهما صادرتين عن سفارة السعودية بالقاهرة، للديوان الملكي، يوضح فيهما الهبات التي سيتم صرفها للمسؤلين المصريين، “المستحقين لمكرمة العاهل السعودي”، خلال زيارته للقاهرة.
وكان أول المستحقين لهذه الهبات هو السيسي نفسه، الذي قالت الوثيقة إنه سيتم منحه ساعة معصم ماركة “روليكس” قيمتها ثلاثمائة ألف دولار أمريكي، فيما تحدثت الوثيقة عن ساعتين أُخرتين، بقيمة مائة وتسعين ألف دولار أمريكي لكل من رئيس الوزراء، ورئيس مجلس النواب، بينما سيتم منح كل أعضاء البرلمان ساعات تتراوح قيمتها بين ألف وخمسمائة دولار وثلاثة آلاف ريال سعودي.
واعتبر مراقبون، هذا التحرك الذي أقدم عليه السيسي، سابقةٌ جديدة من نوعها، لم يقدر على فعلها أي رئيس سابقٍ لمصر، في تأكيدٍ على أن المال كما يشتري المواقف قد يشتري الأرض.