سنوات إلى الوراء، كان فن “الراب” في تونس كلمة غريبة عند العديد من التونسيين، ولم يكن لهذا الفن ذلك الصدى الذي أصبح لديه اليوم، فقد تحول من مجرد فن يمارسه الهواة في إطار ضيق، إلى الفن الأكثر استماعًا والأكثر تمثيلاً للشباب الذي لم يجد في بقية الفنون ما يعبر عنه أو يتحدث باسمه، ليصبح فنانو “الراب” في تونس نجومًا يحتلون المنابر الإعلامية ويحيون الحفلات الفنية رغم التضييقات التي تطال العديد منهم من قِبل قوات الأمن أو الإدارات الجهوية للثقافة التي أكد العديد من فناني الراب أنها كانت السبب في عدم برمجتهم في عروض بعض المهرجانات لانتقادهم النظام أو تصرفات رجال الأمن في تونس.
يعتبر أغلب التونسيين أن فناني الراب كان لهم دور كبير في إشعال ثورة 14 جانفي، ففي الوقت الذي كان فيه الفنانون في تونس والمثقفون عامة يهادنون نظام زين العابدين بن علي ويتقربون من النظام، كان فن الراب في تونس ممنوعًا ومقموعًا، فمجرد ظهور فنان راب أو أغنية راب في إحدى وسائل الإعلام التونسية كان كارثة عظمى، حتى إن النظام السابق كان يمنع مغني الراب الجزائري الشهير لطفي دوبل كانون من إحياء الحفلات في تونس وتمنع أشرطته الغنائية من البيع رغم شهرته الواسعة وكثرة معجبيه، بسبب انتقاده الدائم للأنظمة العربية، وقد كان لطفي دوبل كانون ملهم العديد من الشبان التونسيين الذين اقتنعوا أن هذه الفن يعد أحد الأسلحة لمحاربة النظام وإيصال صوت المظلومين.
لتظهر أولى المحاولات في الاعتماد على فن الراب لمحاربة النظام عن طريق الشاب فريد المازني الذي اتخذ اسم “فريد Extranjero” كاسم الشهرة له وأصدر بعض الأغاني المعادية للنظام والتي تفضح نمط الحياة العنيف عند شباب الأحياء الشعبية وعدائهم مع أعوان الأمن، وكان أشهر هذه الأغاني أغنية “العباد في تركينة” والتي تسببت له في الملاحقة الأمنية وجعلته مجبرًا على الهروب من تونس واللجوء إلى إسبانيا هربًا من المضايقات الأمنية ليحترف هناك غناء فن الراب مع فرقة “Delahoja” وليصبح أحد أشهر فناني الراب في إسبانيا وهو الذي خرج من بلاده مطاردًا.
كان التضييق على الشاب فريد المازني شرارة انطلاق جيل شاب جديد يؤمن بدور هذا الفن القادم من أمريكا في التغيير وتبليغ صوت المظلومين، ورغم نجاح النظام السابق في احتواء هذه الظاهرة وقتيًا عبر العمل على استقطاب فنان الراب الصاعد في ذلك الوقت محمد صالح البلطي والمعروف باسم “بلطي”، فأصبح هذا الشاب مغني الراب الأول في تونس والوحيد الذي يمكن لوسائل الإعلام استضافته بحكم أنه لا يتحدث في أغانيه عن السياسة ولا ينتقد قوات الأمن، تاركة له المجال للغناء حول بعض المواضيع التي لا تقلق راحة النظام مثل الهجرة غير الشرعية والفساد المستشري في المجتمع والحب، فكان صعود بلطي كمغني راب مجرد نجاح وقتي للنظام في كبح جماح الشبان الراغبين في تبليغ أصواتهم عبر هذا الفن، لتكون السنتان الأخيرتان قبل الثورة لحظة ظهور هذا الفن للواجهة من خلال بعض الأسماء التي اختارت طريق الحرب مع النظام مثل “دي جي كوستا” والذي أصدر العديد من الأغاني المناهضة للفساد المستشري في البلاد مثل “Mr le President” وهي رسالة إلى الرئيس السابق ينتقد فيها الوضع و-“Desolé Madamme L” في إشارة إلى زوجة الرئيس السابق ليلى بن علي التي كانت معروفة بسلطتها في تونس وأغنية “Mafia Royale” والتي تتحدث عن تجاوزات أصهار الرئيس وعائلته الذين عرفوا بالفساد، ومثله فعل الشاب محمد الجندوبي المعروف باسم “بسيكو آم” والذي اختار طريقة أخرى هي انتقاد النظام الذي يحارب الدين ويضيق على الملتزمين دينيًا، فأنتج العديد من الأغاني التي تسببت له في الملاحقة الأمنية مثل “Manipulation” و” Jeu politique” .
ومن هؤلاء الشباب الذين اختارو الراب كسلاح “الجينرال” الذي اكتسب شهرة عالمية والذي تم اعتباره أحد أكثر 100 شخصية تأثيرًا في العالم سنة 2011 بعد إصداره أغنية “رايس البلاد” والتي انتقد فيها الوضع، موجهًا رسالة مباشرة إلى الرئيس أظهرت شجاعة هذا الجيل في مواجهة بطش النظام، مما تسبب له في الاعتقال أيامًا قبل الثورة، ما أحدث ضجة كبيرة أخرجت أزمة هذا الفن إلى العلن وجعلت فناني الراب أحد قادة الثورة ومنظريها.
كان للثورة وقع خاص على العديد من الشباب في تونس الذين اقتنعوا أن نجاح فن الراب في محاربة النظام السابق يمثل خطوة إلى الإمام للبدء في جلب اهتمام التونسيين بهذا الفن، فكانت السنة الأولى للثورة سنة الراب بامتياز، ولتمنح وسائل الإعلام مساحة كبيرة لاستضافة فناني راب صاعدين، حتى تجاوز عدد مغني الراب في تونس في تلك الفترة المئات ولتتجاوز الإصدارات الغنائية الآلاف من الأغاني، ففن الراب بحسب البعض لا يحتاج الكثير من الموهبة والصوت الجميل، بل هو مجرد نص يحتوي على كلمات بذيئة مع موسيقى، ليحول هؤلاء الشبان الذين سعوا إلى ركوب الموجة هذا الفن إلى مطية سهلة للشهرة والنجاح، حتى إن العديد من الأسماء سرعان ما اندثرت بعد أن أدركت أن هذا المجال ليس مجالها وأن هذا الفن ليس مجرد طريق قصير للشهرة.
ورغم الحظوة التي اكتسبها فنانو الراب في تونس بعد الثورة ورغم النجاح الكبير الذي حققته عديد الأسماء إلا أنهم لازالوا إلى حد الآن يتعرضون لمضايقات شبيهة بزمن النظام السابق، فالعديد من الأسماء تعرضت إلى الاعتقال بسبب أغانيها التي أوغلت في الانتقاد والشتم إلى حد كبير، على غرار مغني الراب “ولد الكانز” الذي تعرض للسجن بسبب أغنيته الشهيرة “البوليسية كلاب” والتي ينتقد فيها تصرفات رجال الأمن مع الشباب، ومثله تعرض العديد من الرابرز الآخرين إلى التضييق والإيقاف والمنع بسب أغانيهم التي كانت في غالبها ناقدة للدولة وللأمن ومتحدثة عن الفقر والمعاناة في الأحياء الشعبية.
برغم التضييق والمنع إلا أن هذا الفن أخذ مكانه عند التونسيين وصارت إصدارات هؤلاء الفنانين وحدها من تحدث الضجة في الساحة الفنية في تونس بحكم أنها الأكثر متابعة والأكثر جذبًا للاهتمام، فعلى عكس بقية أغاني الفنانين التونسيين الذين يدعمهم الإعلام فإن أغاني الراب أصبحت تتجاوز الملايين من المشاهدات على موقع يوتوب، فعلى سبيل المثال تجاوزت أغنية “شافوني زوالي” للمغني بلطي حاجز 26 مليون مشاهدة وهو رقم لم تبلغه أي أغنية تونسية عبر التاريخ، ومثلها وصلت أغنية “حوماني” التي تتحدث عن المعيشة داخل الأحياء الشعبية للفنانين محمد أمين حمزاوي وكافون، وصلت هذه الأغنية إلى 24 مليون مشاهدة، وغيرها من الأغاني التي تتجاوز الملاين من المشاهدات.
الراب والقانون عدد 52
يعتبر موضوع استهلاك المخدرات من أكثر المواضيع التي يتغنى بها فنانو الراب في تونس، فالقانون عدد 52 في تونس يمنع استهلاك القنب الهندي أو ما يعرف شعبيًا “بالزطلة”، ويعاقب بالسجن متعاطوه لهذا أخذ فنانو الراب على عاتقهم مهمة الدفاع عن مستهلكي الحشيش ومناهضة هذا القانون الذي تعتبر تونس من الدول القلائل التي تتبناه، فكل مغني الراب تقريبًا في تونس أصدروا أغاني تدافع عن مستهلكي القنب الهندي وتنادي بالتخلي عن هذا القانون وهو ما قسم الرأي العام في تونس بين مساند لهؤلاء الفنانين باعتبارهم مدافعين عن حقوق ورغبات الشباب التونسي وبين متهم لهم بأنهم مشاركون في نشر الفساد والإدمان في المجتمع، حتى إن كثيرًا من فناني الراب في تونس سجنوا بتهمة استهلاك المخدرات على غرار الشاب “Emino” الذي اعتزل الفن بعد سجنه وتحول للقتال في تنظيم داعش، ما جعل العديدين يتهمون هذا القانون بأنه يتسبب في سجن الشباب دون تفرقة ودون ذنب ما يحولهم بسهولة إلى مجرمين أو إرهابيين.
اللغة السوقية في الراب: بين تعرية الواقع والابتذال
يعيب العديد من التونسيين على فناني الراب إيغالهم في استعمال الكلمات البذيئة واللغة السوقية في أغانيهم، ويتعلل العديد من الإعلامين بهذا السبب لعدم استدعاء هؤلاء الفنانين إلى المنابر الإعلامية، لكن هؤلاء الفنانين يتحججون بكون فنهم يتحدث لغة الشارع وهو فن الشارع وليسوا مطالبين بتغيير كلماتهم رغم بذاءتها على اعتبار أن تلك الكلمات منتشرة بشكل كبير في المجتمع التونسي.
إلا أن ذلك لا يعتبر عذرًا مقبولاً، حيث إن عديد الفنانين حققوا النجاح في هذا الفن دون استعمال الكلمات البذيئة واللغة السوقية وأولهم الجزائري لطفي دوبل كانون، وحتى يواصل هذا الجيل من الفنانين في مهمته أصبح لزامًا عليه اليوم القيام ببعض المراجعات خصوصًا في استعمال الكلمات البذيئة التي أصبح استعمالها مبتذلاً في العديد من الأحيان، فحتى لو كان الراب يعتمد هذه الكلمات العنيفة عند نشأته في الولايات المتحدة إلا أنه وجب الإدراك بأن هناك فرقًا كبيرًا بين المجتمع التونسي والأمريكي، وحتى يكون هذا الفن أكثر وصولاً إلى التونسيين ومعبرًا عن مشاكلهم ومعانتهم بعيدًا عن الابتذال والسطحية.