ترجمة وتحرير نون بوست
إذا قمت بسؤال جون كينز، ما هي أكبر تحديات القرن الـ21، فلن يفكر كينز بالأمر مرتين: إنه الفراغ.
في الحقيقة، كان كينز يتوقع بأن منع صانعي السياسة من ارتكاب “الأخطاء الكارثية” (مثل التقشف خلال الأزمة الإقتصادية)، سيضاعف مستوى المعيشة في الغرب أربع مرات على الأقل عما كان عليه عام 1930، خلال قرن واحد، وبحساباته، ففي عام 2030 لن نعمل سوى 15 ساعة أسبوعيًا فقط.
في عام 2000، كانت الممكلة المتحدة والولايات المتحدة قد أصبحتا أكثر ثراءًا خمس مرات عما كانتا عليه عام 1930، ومع ذلك، بالرغم من تقدمنا السريع في العقود الأولى للقرن الـ21، فأكبر التحديات التي تواجهنا ليست الفراغ والملل، لكنها التوتر والشك.
كنت قد سُئلت مؤخرًا، ما المشكلات التي يساعد تقليل العمل على حلها ؟ لكنني قمت بتغيير السؤال: هل هناك أي شيء لم يساعد “تقليل العمل” في حله؟
ففي قضية تغيير المناخ، تقليل ساعات العمل الأسبوعية عالميًا قد يعمل على خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للنصف خلال هذا القرن، فالدول التي لديها ساعات عمل أقل أسبوعيًا، تترك آثارًا أقل في البيئة، فتقليل الاستهلاك يبدأ بتقليل العمل أو استهلاك نجاحنا وازدهارنا في صورة قضاء أوقات الفراغ.
أما العمل لساعات إضافية فهو أمر قاتل، فأيام العمل الطويلة تؤدي إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء، فالجراحون المتعبون هم أكثر عرضة للوقوع في الخطأ، والجنود الذين يحصلون على القليل من الراحة، أكثر عرضة لإخطاء الهدف، فمن مفاعل تشرنوبل لمكوك الفضاء تشالنجر، أثبت المديرون الذين يعملون أكثر من طاقتهم أن لهم دورا في تلك الكوارث، فلم يكن من قبيل المصادفة أن القطاع المالي، والذي تسبب في أكبر كارثة في العقد الماضي، يئن من الأشخاص الذين يعملون وقتا إضافيا.
أظهرت العديد من الدراسات أن الأشخاص الذين يعملون وقتا أقل، هم أكثر رضًا عن حياتهم، وفي استطلاع تم مؤخرا بين سيدات عاملات، حيث قام باحثون ألمان بتحديد “اليوم المثالي”، كان النصيب الأكبر من النقاط (106) قد ذهب لصالح “العلاقات الحميمية”.
وفي مؤخرة القائمة، حصل العمل على (36) نقطة، والتنقلات على (33) نقطة، وقد أشار الباحثون إلى أنه “لتحقيق أقصى قدر من الرفاهية، فمن المرجح أن يلعب العمل والاستهلاك (اللذان يرفعان من إجمالى الناتج المحلي) دورا أصغر في الأنشطة اليومية للناس، مقارنةً بالوقت الحالي”
بالطبع، لن نستطيع تقسيم العمل إلى أجزاء صغيرة، ومع ذلك، يقول الباحثون في منظمة العمل الدولية أن مشاركة العمل –حيث يتم تقسيم أعباء العمل والتي عادة ما يقوم بها شخص واحد يعمل بدوام كلي، على شخصين يعملان بدوام جزئي- قد ساهم كثيرا في حل الأزمة الإقتصادية الأخيرة، خاصة في أوقات الركود وارتفاع البطالة وزيادة الإنتاج عن الطلب، فمقاسمة العمل قد تساعد في تخفيف وطأة الأمر.
علاوة على ذلك، فالبلدان التي لديها ساعات عمل أقل أسبوعيا، تحصل على مرتبة أعلى في المساواة بين الجنسين، والقضية المحورية هي تحقيق عدالة أكثر في توزيع العمل.
وحتي يأخذ الرجال نصيبهم من الطبخ والتنظيف والأعمال المنزلية الأخرى، فلن تستطيع المرأة المشاركة الكاملة بحرية في الاقتصاد الرئيسي.
فالسويد مثلا، تمتلك نظامًا مناسبًا بالفعل لرعاية الطفل وإجازة الأبوة، وهي أقل دولة عالميا لديها تفاوت في ساعات العمل بين الرجل والمرأة.
إلى جانب المساواة في توزيع العمل بين الجنسين، نحن بحاجة لمشاركة ذلك عبرالأجيال، فكبار السن يرغبون في مواصلة العمل بعد الوصول لسن التقاعد، وبينما يغرق الشباب بعمر الثلاثين في العمل والالتزامات العائلية والرهون العقارية، يكافح كبار السن للحصول على وظيفة بعد التقاعد.
أما العاملون الشباب الذين قد دخلوا سوق العمل لتوهم، ربما يواصلون العمل حتى بلوغ الثمانينيات من عمرهم، ولكن في المقابل، لن يتحملوا العمل لمدة 40 ساعة عمل أسبوعيا طوال تلك السنوات، لكن ربما 20 أو 30 فقط.
“في القرن العشرين كان لدينا إعادة توزيع الثروة” يقول أحد أبرز الباحثين الديموغرافيين، ويضيف “وفي هذا القرن، إعادة التوزيع سوف تكون في مجال ساعات العمل”.
هناك أيضًا قضية عدم المساواة الاقتصادية، فالدول التي لديها تفاوت كبير في الثروة هي نفس الدول التي لديها أطول ساعات عمل أسبوعية، فبينما يعمل الفقراء ساعات طويلة لتدبير أمورهم، يجد الأغنياء أن الحصول على إجازة أمر مكلف مع ارتفاع نصيبهم في الساعة.
في هذه الأيام، أصبح العمل المفرط والضغط رمزًا للحالة العامة، وقريبًا سوف يصبح الوقت بالنسبة لأحدهم مساويًا للبطالة والكسل، خاصة في الدول التي تتسع فيها فجوة الثروة.
ليس من الضروري أن يكون الأمر بهذه الطريقة، فلدينا القدرة على خفض جزء كبير من العمل الأسبوعي، وهذا ليس من شأنه أن يجعل المجتمع أكثر صحة فقط، لكنه سيضع حدًا للأكوام اللانهائية من المهام الضارة وعديمة الجدوى، (وجدت إحدى الاستطلاعات الحديثة أن 37% من الموظفين البريطانيين يعتقدون بأنهم يعملون في وظائف تافهة).
الدخل الأساسي الشامل قد يكون أفضل طريقة لإعطاء الفرصة لكل شخص في القيام بالكثير من الأعمال الهامة غير مدفوعة الأجر مثل رعاية الأطفال والمسنين.
ربما تتسائل، “هل سينتهي الأمر بالجميع أمام التلفاز طوال الوقت؟”، في الحقيقة، هذا ما يحدث بالضبط في البلدان ذات العمل الزائد مثل اليابان وإنجلترا والولايات المتحدة، حيث يشاهد الناس التلفاز بشكل سخيف، تصل إلى 4 ساعات يوميًا في إنجلترا، والتي تعادل 9 سنوات من متوسط عمر الإنسان.
بالطبع، السباحة في بحر من الفراغ لن يكون أمرًا سهلًا، ولذلك، ففي القرن الـ21 يجب على التعليم ألا يعدّ الطلاب فقط للاندماج في القوى العامله، بل يعدّهم للحياة أيضًا (وهو أمر أكثر أهمية).
“لأن الرجال لن يكونوا متعبين في وقت فراغهم” كما كتب الفيلسوف برتراند رسل عام 1932، “فلن يدّعوا أن وقت الفراغ هو شيء سلبي وسخيف وممل”
المصدر: الجارديان