لا يمكن الحديث عن أدب الخيال العلمي دون الإشارة إلى هـ.ج.ويلز، سواء كان هذا الحديث اليوم أو الغد أو بعد مئة عام من الآن، فيقول جيمس جن: “إن أدب الخيال العلمي قد قامت أركانه على البدايات الرائعة لقصص ويلز الخيالية والمتقدمة زمنيًّا، فقد انبثقت خصائصه الجوهرية وحدها وببطء من الأشكال العديدة التي كان يعبر فيها عنه”.
نشأة ويلز
ولد هـ. ج. ويلز في 21 سبتمبر 1866م في مدينة “بروملي” في مقاطعة “كنت” بجنوب إنجلترا، وكان والده يعمل بستانيًّا تارةً، وصاحب محل لبيع الأدوات والأواني الفخارية والخزفية – لا يدر عليه مالًا كثيرًا – تارةً أخرى، ولاعبًا محترفًا في فريق “كنت” الرياضي للكريكيت، وقد كانت تعمل أمه خادمة في دار ريفية كبيرة.
أدى تدهور الظروف المالية لعائلته إلى انقطاعه عن الدراسة؛ فبدأ العمل صغيرًا في محل للأصواف، ثم مساعدًا في صيدلية، ولكنه ثار على هذه الحياة الضيقة، ليلتحق بالمدرسة الثانوية، واجتهد بها حتى حصل على جائزة مالية تسمح له بدارسة البيولوجيا بالكلية الأمبراطورية للعلوم، حيث أصبح طالبًا تحت يد “ت. هـ. هكسلي” صديق “تشارلز داروين” صاحب نظرية التطور الشهيرة، وجد الروائي الشهير “ألدس هكسلي”، وتخرج من هذه الكلية بامتياز عظيم، ثم اشتغل بالتدريس لفترة قصيرة ليتركه ويتفرغ للصحافة والتأليف في عام 1893م.
مسافر الزمن والغزاة القادمون
تم صك العديد من تيمات الخيال العلمي على يد “هـ. ج. ويلز”؛ فرواياته وقصصه تحتوي على أفكار أصيلة، تم استخدامها كنبع لا ينضب للكتاب اللاحقين، فهو أول من صك مصطلح “آلة الزمن” في رواية تحمل العنوان ذاته، وأكسبته شهرة واسعة.
كانت تتم معالجة السفر عبر الزمن قبل هذه الرواية بطرق وحلول سحرية خارقة، فمثلًا في رواية (A Connecticut Yankee in King Arthur’s Court) لـ “مارك توين” يتلقى الشخصية الرئيسية ضربة على رأسه، ثم يستيقظ ليجد نفسه بطريقة غامضة انتقل إلى الماضي، حيث يقابل الملك “آرثر”، وكذلك كتب “صمويل مادين” روايته Memoirs of the Twentieth Century)) 1733، وفيها نجد ملاك حارس ينتقل إلى عام 1728م، وبحوزته خطابات من عامي 1997م و1998م، ورواية (A Christmas Carol) ذائعة الصيت لـ”تشارلز ديكنز”، تعالج انتقال الزمن عن طريق روح عيد الميلاد، التي تنقل “سكروج” مرة إلى الماضي ليرى حياته، ثم إلى المستقبل ليرى عواقب معيشته بقلبٍ قاسٍ وجامد.
وبالرُغم من أن ويلز قد صك مصطلح “آلة الزمن”، ومعالجة السفر عبر الزمن بطريقة علمية، إلا أن الإسباني “إنريكو جاسبر” سبقه بعام واحد ليكتب روايته (El anacronópete) في عام 1887م، قبل أن ينشر ويلز قصةThe Chronic Argonauts في عام 1888م، والتي تحدث فيها عن آلة الزمن لأول مرة.
كذلك فقد كتب “ويلز” عن غزاة قادمين من المريخ ليقضوا على البشر، في روايته الشهيرة “حرب العوالم”.
وتعد هذه الرواية بمثابة حجر الأساس لكل الكتابات التي تتحدث عن الغزو الفضائي لكوكب الأرض، إلا أن ويلز لا يكتفي بعرض هبوط المريخيين على لندن، وتدمير كل ما يعترضهم بالأشعة الحرارية والغاز السام، فإن الرواية تنطوى على رموز وأفكار أكثر عمقًا مما يبدو على السطح؛ فويلز حاول تصوير نظرية الانتخاب الطبيعي في الرواية، من خلال الصراع بين المريخيين والبشر وقانون البقاء للأفضل، فالمريخيين قد سبقوا البشر في سلم التقدم والتطور، مما جعلهم يطورون أسلحة أكثر تقدمًا من التي يملكها البشر، الذين لم تتح لهم الفرصة للتطور، والحصول على أسلحة مشابهة للمريخيين، كذلك فالرواية تعد بمثابة تحذير لما قد يصبح عليه البشر مستقبلًا، فهو يعتمد على فكرة الزمن الممتد، فالتحول من بشر إلى مريخيين يحتاج إلى زمن طويل فقط.
في الفصل الأول من الرواية يقول على لسان الراوي: “قبل أن نحكم على المريخين بغلظة أو قسوة، علينا أن نتذكر التدمير القاسي الذي لا يرحم، الذي ألحقته بعض سلالاتنا، ليس فقط على الحيوانات، مثل ثور البيسون الأمريكي وطائر الدودو المنقرضين، فمثلًا على الرغم من تشابه سكان جزيرة تسمانيا بأستراليا بالبشر، فإنه تم إبادتهم تمامًا على أيدي المهاجريين الأوروبين خلال مدة خمسين عامًا تقريبًا، تُرى هل نعتبر أنفسنا رُسل رحمة لكي نشتكي لو شن المريخيون علينا حرب إبادة كهذه؟!”.
أحيانًا تكون الكتابات التي تحمل في طياتها النبتة الأولى، والفكرة الأصيلة لموضوع ما مخيبة للأمل عند قراءتها، بالرغم مما حققته من شهرة وأثر في الأدب، وتكون بالنسبة لنا – أبناء الغد – “قد فقدت صلاحيتها للقراءة”؛ إلا أن ويلز ينافى ويشذ عن تلك القاعدة تمامًا، فإن رواياته صالحة للقراءة في كل زمان ومكان، ولن تفقد صلاحيتها أبدًا، وذلك لأن ويلز دومًا ما كان يركز على مصير الجنس البشري، أو النوع البشري في كتاباته، حيث إنه لم يقرر الوقوف عند تقديم قصة مسلية تحمل الكثير من المغامرات، بل إنها كانت تحتوي على فلسفته وأرائه، وهذا هو الفارق الجوهري بينه وبين “جول فيرن”؛ فدومًا ما يتم إقران كل من هذين الأسمين بلقب “الأب الروحي لأدب الخيال العلمي” رغم الاختلاف العظيم بينهما، فـ “فيرن” قد توقف عند تقديم القصة المسلية، والتي تركز على مسعى شخص بعينه، ومصيره كما في روايتيه “رحلة إلى مركز الأرض” و” عشرون ألف فرسخ تحت سطح الماء”، فـ”فيرن” يتوقف عند المغامرات القصصية؛ أما ويلز فإنه يحاول من خلالها إعادة بناء المجتمع والعالم، وجعلهما منصة لعرض أرائه وتأملاته، وإلقاء النظر على مصير الجنس البشري كما في روايتي “آلة الزمن” و”حرب العوالم”.
إن لويلز العديد من الأفكار الأصيلة الأخرى والتي لم يتطرق لها أحد من قبله، مثل القدرة على الاختفاء في رواية “الرجل الخفي”، أو السفر إلى القمر كما في رواية “أول رجال على سطح القمر”، والتعديلات والهندسة الوراثية كما في رواية “جزيرة الدكتور مورو”.
من الرومانسية العلمية إلى الواقعية والجدلية
يعد ويلز أحد الكتاب المتميزين بضخامة وغزارة إنتاجهم، كذلك فهو لم يتوقف عند كتابات الخيال العلمي أو الرومانسية العلمية كما كان يشير لها آنذاك، بالرغم من أنها حققت له مكانة أدبية مرموقة.
فقد قسم النقاد كتابات ويلز إلى ثلاثة أنواع، وهي الرومانسية العلمية، والكتابات الواقعية، ثم الكتابات الجدلية.
في مرحلة الكتابات الواقعية كتب رواية كيبس 1905م، وتونو بنجي 1909م، وسيرة مستر بولي 1910م، فيقول د. لويس عوض: “وبهذه القصص الواقعية وحدها كان يمكن لويلز أن يخلد في عالم الأدب، ويجوز لمن يشاء بأن يلقبه خليفة ديكنز العظيم، بل أن ويلز قد يتجاوز ديكنز في بعض المواضع من ناحية صفاء الأسلوب وعمق التحليل”.
أما عن آثاره الجدلية، فقد ترك خلفه روايات: آن فيرونيكا 1909م، ومستر بريتلينج 1916م، وجون وبيتر 1918م.
كما كتب أيضًا بعض الأعمال الموسوعية مثل: مختصر تاريخ العالم عام 1919م، وعلم الحياة 1930م، والعمل وثروة وسعادة الجنس البشري عام 1931م.
وفي النهاية، فإن خيال هـ. ج. ويلز ونبوءاته العلمية جعلت الجميع يوجه أنظاره صوب الفضاء والمستقبل، وبات حلم الوصول إلى القمر واقعًا محققًا، ولحسن حظنا لم يأتِ المريخيون إلينا، بل نحن فقط على بعد بضعة خطوات من أن نُرسل أوائل البشر إلى المريخ لننشئ أول مستعمرة بشرية خلال السنوات العشرة القادمة.