أنا من أولئك الشباب الذين اقتحموا الميادين والشوارع ذات يناير قبل خمس سنوات، يدفعني إيمانٌ قاطع بأن ساعة التحرير والحرية قد آنت وما كان لنا العودة إلى الوراء وقد ذهب كل أمل في إصلاح هذه الأنظمة من الداخل باعتبار أن حجم الفساد والرشوة والمحسوبية والقمع والذل والهوان والتسلط قد بلغ نقطة اللاعودة، حينها كنت مؤمنًا إيمانًا قاطعًا بأن المرحلة تقتضي منا شيئًا من التضحية والصمود والنصر صبر ساعة.
سعدت كثيرًا حين فر أول الفئران من السفينة التي أوشكت على الغرق وهلاك من فيها، وظننت لوهلة أن مسار الإصلاح قد بدأ منذ اعتصام ساحة الحكومة بالقصبة بتونس العاصمة في نسختيه الأولى والثانية واللتين أفرزتا اتفاقًا يقضي بتشكيل حكومة تصريف أعمال تعد لانتخابات تأسيسية.
إلا أن فسح المجال للطبقة السياسية حتى يتسنى لها تنفيذ برامجها الإصلاحية التي صمت بها آذاننا منذ عشرات السنوات متعللة بالقبضة الحديدية التي كان يحكمها النظام على أنفاس كل راغب في الإصلاح، كان خطأ كبيرًا وقعت فيه كل القوى الثورية، إذ اكتفت بمتابعة المشهد من بعيد رافضة التدخل في شأن إعادة ترتيب المشهد السياسي من جديد، معلقة طموحاتها الكبرى على نخبة بدت بمرور الوقت غير قادرة على القطع مع منظومة الفساد بل متحالفة معها في بعض الأحيان لخدمة مصالحها الحزبية الضيقة للانفراد بالسلطة على حساب منافسيها، تارة تحت لواء قطع الطريق أمام من يريد بالنمط المجتمعي سوءًا وتارة باسم المحافظة على هوية الدولة؛ مما أنتج لنا تركيبة حكم مشوهة تمزج بين انتهازية الفلول وأطماع الديكتاتوريين الجدد تحت راية التوافق والبر الوطني.
وبين هذا وذاك ضلت القوى الثورية طريقها نحو تحقيق أهدافها التي خرجت من أجلها، منشغلة عنها بمعارك جانبية كانت بمثابة قنابل الدخان التي لا طائل من ملاحقتها هنا وهناك بل وأدخلتها عنوة في حروب من قبيل الهوية ونظام الحكم وغيرها من الطواحين الوهمية؛ مما ترك ثغرة كبرى أعاد فيها النظام القديم ترتيب بيته الداخلي من جديد والعودة إلى الحياة السياسية، فكان الانقلاب المصري بمثابة الضربة التي قسمت ظهر الثورة وأعادت المسار إلى نقطة الصفر، حيث تابعنا جميعًا كيف عادت الأنظمة البوليسية والعسكرية إلى الواجهة أقوى وأشد بأسًا من الأنظمة التي سقطت.
في اعتقادي، إن ما شهدته الشوارع المصرية في الأسبوع الماضي وتحديدًا محيط نقابة الصحفيين بوسط القاهرة من حشود بشرية وهتافات أعادت إلى أذهاننا مشاهد ميدان التحرير في العام 2011 وكيف كسرت تلك الهتافات حاجز الخوف في نفوس شباب الثورة وبعثت برسائل واضحة ومضمونة الوصول إلى النظام العسكري المدعوم من بعض الممالك النفطية بأن شباب مصر قادر على تهشيم الأصنام مهما كانت صلابتها كما هو قادر على انتهاز الفرصة لقلب الطاولة على أي دكتاتور يحاول العبث بحرمة مصر واستقلالها وسيادة أراضيها، وهو ما ستثبته الأيام حتى تاريخ الخامس والعشرين من أبريل/ نيسان، موعد أكبر مظاهرة لحماية السيادة المصرية التي انتهكتها سياسات أفشل رئيس عرفته مصر.
كما أعتقد أيضًا أن ما عاشته بعض المدن التونسية على غرار جزيرة قرقنة في الأسبوع المنقضي من احتجاجات اجتماعية مطالبة بالتشغيل رافضة لسياسة بعض الشركات النفطية التي استنزفت الثروات بتواطؤ الأنظمة المتعاقبة منذ الاستقلال إلى جانب الاعتصامات التي ينفذها أصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل في أكثر من محافظة على كامل تراب الجمهورية التونسية والوقفات الاحتجاجية التي ينفذونها منذ أكثر من ثلاثة أشهر والتململ الحاصل في صفوف الشباب والمعطلين من مختلف مناطق البلاد إلى جانب حجم الاحتقان الذي خلفته التسريبات الأخيرة أو ما بات يعرف “بتسريبات بنما” والتي كشفت حجم الفساد الذي خلفه التقارب المشبوه بين رموز الأنظمة المنحلة وبعض قيادات الأحزاب التي تدعي الثورية، كلها رسائل واضحة ومؤشرات على موجة ثورية ثانية قد تأتي على الأخضر واليابس.
يبدو لي أن كل المؤشرات تدل على عاصفة ما في الأفق تفصلنا عنها فقط حملة اعتقالات واسعة في صفوف شباب الثورة في البلدين أو مقتل متظاهر أو محتج هنا أوهناك ولن تقف الموجة هذه المرة على أعتاب النظام في تونس أو في مصر بل ستطال كل المتحالفين مع هذه الأنظمة القمعية والمتسلطة.
فالمنطقة الآن أصبحت مهيأة أكثر من أي وقت مضى لخوض معركة حاسمة للقطع مع الفساد والقمع، وحتما ستكون لها فاتورة باهظة من الدماء.