اعتذر الرئيس الأمريكي، باراك أوباما للأرجنتين عن دعم بلاده لانقلاب عسكر الأرجنتين عام 1976، كان شجاعًا عندما قال إن عظمة الدول الكبرى أن تتمتع بالشجاعة والجرأة بتقديم اعتذارها وأسفها إن هي تقاعست عن الدفاع عن المبادئ التي قامت عليها، أو إن هي تباطأت في الدفاع عن حقوق الإنسان وحريته.
إذن، هل سعتذر الرئيس الأمريكي الحالي قبل أن يغادر منصب الرئاسة عن دعم بلاده الفج والقبيح لأسوأ انقلاب دموي في التاريخ المعاصر؟ أم سيكون ذلك دينًا في رقبة من يخلفه؟ أم أن الولايات المتحدة ما كانت تعتبره انقلابًا؟!
ذكر جفري جولدبرج في مقالته المطولة التي نشرتها صحيفة أتلانتك الأمريكية أن أكثر ما يسبب الصداع للرئيس الأمريكي هو ذكر اسم الجنرال المصري عبد الفتاح السيسي، وإن أشد ما يكدر صفو يومه البيضاوي الديمقراطي الجميل هو اجتماع لبحث الأوضاع في مصر.. لماذا؟!
باختصار، لأن ثورة مصر كانت ولا تزال صافية واضحة سلمية نقية، لم تستطع الأدوات الأمريكية أن تعسكرها ولا أن تزرع الدواعش فيها كما نجحت في غيرها، فالدواعش بعنفهم كانوا ولا زالوا أجمل الهدايا التي أفرزتها ثورات الربيع العربي المضادة، وقدمتها على طبق من ذهب للإدارة الأوبامية التي تكمل باقتدار مشوار بوش التدميري ولكن بأدوات جديدة وبمهنية عالية وبخسائر أمريكية أقل.
في كل حدائق الربيع العربي وجدت إدارة أوباما منفذًا لإدارة الصراع من الخلف، كما يحب أوباما أن يكرر دائمًا، نجحت الإدارة الأمريكية في إدارة موجات الثورات المضادة واستطاعت أن تُدخل الربيع العربي في شتاء عاصف هائج مدمر، فحافظت في سوريا على ميزان القتل والدمار، فلا النظام استطاع إنهاء المعارضة، ولا قوى المعارضة حصلت على الدعم والأسلحة التي تمكنها من حسم الصراع، ولا يزال الاستراتيجيون الأمريكيون يديرون الملف السوري بأدوات خبث مذهبي وروسي، وبشيطانية إرهابية داعشية، أظهرت دماء المسملين وكأنها مجرد ماء يجري، وصورت آهات المعذبين والمشردين، عذرًا وسببًا لأن تُلعن الديمقراطية وطلابها.
كانت كلمة السحر التي أنقذت أوباما هي “الحرب الأهلية”، وهو ما حاولت ماكينة الإعلام الغربي أن تسوق بخبثها الربيع العربي على أنه، وللأسف، تحول إلى حرب داخلية بين جماعات وأقليات إثنية وعرقية، وبذلك نجح الإعلام الغربي في أن يوقف ضغط رأيه العام ومؤسساته الحقوقية التي قد تتعاطف مع مبادئ وقيم كانت تعتقد أن حضارتها وعراقتها الغربية قد أُسست عليها.
نجح الإعلام الغربي في تسويق هذه الصورة النمطية لما يحدث في دول الربيع العربي، فليبيا تعيش حربًا أهلية وكذا اليمن وسوريا ومن قبلهم العراق، ويروج ذلك الإعلام القبيح أن أدبيات الحرب الأهلية تقتضي بالضرورة أن تحجم القوى الخارجية عن دعم أي من الفريقين، وتسوق لفكرة أن الحل الأكثر نجاعة للحروب الأهلية على مدى العصور كان التفاوض السلمي الذي لا بد وأن يؤدي بالضرورة لتقسيم البلاد على أساس ديني أو إثني أو طائفي.
ولكن “رابعة” الثورة المصرية كشفت عورة الديمقراطية الأوبامية القبيحة مبكرًا، حيث كشف تقرير نشرته الجزيرة الإخبارية عن عشرات الوثائق الأمريكية التي تؤكد دعم إدارة أوباما لانقلاب ناعم على نتائج الديمقراطية المصرية، وذلك من خلال تمويل سياسيين وناشطين مصريين للإطاحة بأول رئيس مصري منتخب بإرادة ديمقراطية شعبية كاملة.
حصلت أيضًا جامعة كاليفورنيا في بيركلي عبر برنامجها “التحقيقات الصحفية” على العديد من الوثائق التي أظهرت قنوات لضخ الأموال الأمريكية عبر برامج وزارة الخارجية تحت مسمى تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط، في حين أنها في الحقيقة أنفقت الدولارات على منظمات مصرية لخلق حالة من الفوضى وإرباك المشهد السياسي عقب ثورة يناير، بغرض الانقضاض على نتائج ثورة يناير.
أنا هنا لا أفشي سرًا، فقد اعترفت السفيرة الأمريكية آن باترسون في جلسات الاستماع في الكونجرس الأمريكي بإنفاق كل تلك الأموال على مؤسسات وشخصيات مصرية من أجل تعزيز مفاهيم الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان، في الوقت الذي لا ينسى فيه المصريون وزيرة التعاون الدولي فايزة أبو النجا التي صرحت بأن تلك الأموال كان هدفها هو إجهاض الثورة المصرية في بداياتها.
وقد افتُضحت الخطة الأمريكية فيما عرف بعد ذلك بقضية التمويل الأجنبي في عهد المجلس العسكري، والذي تفاوض مع الإدارة الأمريكية وأوعز للقضاء المصري المشهور بـ “الشامخ” برفع أسماء 17 متهمًا بينهم 9 أمريكيين، من قوائم الممنوعين من السفر، وفي الأول من آذار/ مارس 2012 تم تهريب جميع المتهمين الأجانب في تلك القضية.
الملفت للنظر أن نفس هذه القضية قد تم إعادة فتح التحقيق فيها من قبل وزير العدل المقال والمستقر حاليًا في دبي، أحمد الزند، وذلك بعد أسبوع من إدانة 16 منظمة حقوقية للأوضاع الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان في مصر في ظل حكومة الانقلاب العسكري.
لقد استطاعت الإدارة الأمريكية توظيف شخصيات وازنة في المجتمع المصري لتمرير أجندتها بالانقلاب على خيار الشعب؛ فصعد نجم مايكل منير الأمريكي القبطي، ورئيس منظمة أقباط الولايات المتحدة الأمريكية، والضيف الدائم على وسائل الإعلام المصرية والعربية إبان حكم الرئيس مرسي والذي أثبتت الوثائق الحكومية أنه قد حصل على تمويل أمريكي بمبالغ طائلة لتأسيس منظمة معارضة للرئيس مرسي.
سطع في سماء الفلك الأمريكي أسماء كثيرة كالملياردير المسيحي نجيب ساويرس، رئيس أوراسكوم للإتصالات وأوراسكوم للتكنولوجيا، وأحد أهم أباطرة الإعلام وأصحاب القنوات التلفزيونية التي لعبت دورًا حاسمًا في تشويه صورة الرئيس المنتخب، وكذا صلاح دياب والذي وبحسب الوثائق الأمريكية يسيطر على 43 توكيلاً لشركات أمريكية في مصر ومن بين هذه الشركات “هاليبرتون” وهي شركة بترول أمريكية كان يرأسها، ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق.
ولا يجب أن ينسى التاريخ تصريحات سعد الدين إبراهيم السياسي المصري الأمريكي، ومدير مركز ابن خلدون، والذي كان من أبرز المعارضين للرئيس المنتخب محمد مرسي، والتي قال فيها “أخبرنا الأمريكان أنهم إن رأوا الاحتجاجات في الشارع المصري بأحجام كبيرة وتمكنت تلك الحشود من الصمود في الشارع لمدة أسبوع، فإن البيت الأبيض سيعيد النظر في جميع السياسات الأمريكية الحالية تجاه الرئيس مرسي”.
ما الذي فعله الرئيس مرسي حتى تخطط إدارة أوباما للإطاحة به؟
في لقائه المتلفز مع أحمد منصور، مقدم برنامج بلا حدود، قال يحيى حامد وزير الاستثمار في عهد الرئيس مرسي، إن الرئيس مرسي والذي كان لم يزر الولايات المتحدة قبل ذلك، رفض طلبًا من أوباما بأن يلتقيا على “هامش” اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وارتأى أن رئيس دولة بحجم مصر لا ينبغي أن يلتقي على “هامش” اجتماعات، وإنما لا بد أن يكون اللقاء الذي يجمعه برئيس الولايات المتحدة على قدر من الندية والاحترام لحجم وثقل الدولة المصرية.
حرص الرئيس المصري المنتخب من قبل الشعب لأول مرة في تاريخ أقدم الحضارات الإنسانية أن تكون مصر دولة حرة مستقلة ذات سيادة وإرادة في اتخاذ قرارها وصرح بذلك عندما قال لا بد أن تنتج مصر غذاءها ودواءها وسلاحها، وبدأ الرئيس المنتخب بالخروج من عباءة الهيمنة الأمريكية التي تريد لمصر أن تبقى في العوز والحاجة للمعونة الأمريكية وتبقى مرهونة للقرار الأمريكي.
بدأ الرئيس المصري بنسج علاقات استراتيجية، اقتصادية وسياسية، مع مجموعة “البريكس” فزار كل من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وعقد اتفاقيات وشراكات اقتصادية ضخمة مع تركيا وذلك لكي يخرج من تبعية الإرادة المصرية للتفرد الأمريكي، وحتى لا تظل العلاقة المصرية محصورة بين أمريكا ورغباتها بتقزيم الدور المصري ليكون منحصرًا فقط في حماية ربيبتها الصغرى، إسرائيل، وهو ما كان عليه مذهب النظام العسكري المصري الذي حكم مصر ستة عقود.
عاد فورًا للواجهة اسم الدكتور محمد البرادعي كإملاء أمريكي واضح بتعيينه رئيسًا للوزراء ولكن الرئيس المنتخب، محمد مرسي رفض مرة أخرى رفضًا قاطعًا، ليس تعنتًا ولا تصلبًا وإنما احترامًا لخيار شعبه واحترامًا لسيادة بلادة التي حولها الانقلاب العسكري المسخ إلى أضحوكة الأمم، تباع وتشترى بأبخس الأثمان وعلى موائد اللئام من الشرق والغرب.
بالطبع كان يجب أن تظهر، بعد هذا كله، دعوات المعارضة اليسارية الديمقراطية لتدخل الجيش، والذي بدوره قام بانقلاب عسكري لإسقاط النظام المنتخب، وسعى البرادعي وسعد الدين إبراهيم بعلاقاتهما مع الإدارة الأمريكية لتسويق الانقلاب على أنه نزول عند إرادة الجماهير التي خرجت في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013.
بالطبع ليس هذا كل ما قامت به الإدارة الأمريكية للالتفاف على إرادة الشعب المصري وتهميش خياراته والدوس على حقوقه ونتائج انتخاباته الحرة الديمقراطية، فستكشف قادم الأيام، وذلك بعد زوال كابوس الانقلاب الدموي، عن حقيقة الدور الأمريكي وعن حقيقية التنسيق المباشر للإطاحة بالرئيس مرس، سيأتي اليوم الذي ستُحاكم فيه إدارة أوباما وستقدم واشنطن اعتذارًا رسميًا لشعوب المنطقة وللرئيس المصري المنتخب ديمقراطيًا والتي أطاحت به إدارة أوباما نفسها كما ستكشف الأيام.
المهم هنا أن يعلم صناع القرار في الأحزاب والجماعات السياسية العاملين على الأرض أن الإدارة الأمريكية متسقة تمامًا مع القوانين الأمريكية ولا تقوم بأي عمل دون أن تغطي نفسها قانونيًا ودستوريًا ولكنها أبدًا ما استطاعت ولن تستطيع أن تغطي نفسها أخلاقيًا وإنسانيًا، فقد كانت هذه الإدارة شاهدة على أعظم جرائم العصر وأبشع مجازر التاريخ المعاصر، إذ قامت تلك المجموعة من العسكر الحاقد بقتل وحرق ثلة من أجمل وأنقى شباب الربيع العربي على مرأى ومسمع من كل مدعي الديمقراطية واحترام حرية التعبير عن الرأي.
صحيح، بالقانون، إن ما قامت وتقوم به الإدارة الأمريكية الحالية والسابقة يتوافق تمامًا مع معاييرهم التي وضعوها لأنفسهم، فهم وبحسب القانون الدولي لم يُقدموا على أي انتهاك للقانون الإنساني ولم يمسوا بمبادئ حقوق الإنسان وحرية التعبير ولم يتدخلوا بانتهاك سيادة بلد آخر إلا بطلب من حكام البلد أنفسهم، وهذا هو نفس المذهب الروسي بالتدخل في سوريا، فالأسد هو الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري، ولذا بحسب قوانين الغرب المنافق يحق له أن يقتل شعبه وإن عجز يستدعي أسياده للإجهاز على من تبقى من الشعب،حتى وإن لم يستدعهم النظام الحاكم كما فعل الأسد، سهل عليهم أن يتخطوا هذه الشرعية، فشرعية الجامعة العربية تكفيهم بنزع الغطاء العربي عنه كما نزعته عن صدام حسين في العراق، وكما باركت منظمة التعاون الإسلامي الإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان.
إن أعظم ما يقدمه العاملون اليوم لقضايا أمتنا العادلة هو توثيق كل هذه المحطات، وكل هذه المخططات للانقضاض على ربيع ثورات منطقتنا العربية، ولهم في ممارسات الاحتلال الصهيوني دورسًا، إذ لا يزال كل من يزور الكيان الغاصب في الأراضي المحتلة وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي يذرف دموع الحزن والأسى على محارق النازيين لليهود، ولا يزال الغرب المنافق يطالب الدولة العثمانية بالتعويض والاعتذار للأرمن عن مجازر لم تثبت بحال ضد الدولة العثمانية بينما هم أنفسهم شهود اليوم على مجازر رابعة وغزة وحلب وحمص والفلوجة.
سيأتي اليوم الذي سيعتذر فيه أوباما نفسه والغرب كله عن دعمه وتأييده لانقلاب على رئيس انتخبه شعبه بإرادة حرة ديمقراطية، فانقلب عليه وزير دفاعه بإيعاز وترحيب أمريكي وغربي يحاولان حتى اللحظة غسل يديهما من نجس الانقلاب، ولكن للأجيال ألا تنسى أن اعتذار الغرب واجب لرئيس غيبته خيانة العسكر المتأمرك.