إن سبق وزرتم عاصمة الأغالبة “القيروان”، فلا شك أنكم قد تذوقتم وطعمتم ونعمتم من مقروضها الأصيل التقليدي، الذي يمزج بين عبق الماضي ورونق الحاضر، مقروض يجمع بين الأصالة والحداثة.
ثم إن المسافر من الشمال إلى الجنوب لا بد له أن يتوقف باستراحة القيروان هناك حيث يباع المقروض القيرواني بشتى أصنافه وأنواعه ولذته، حيث تكون الحركة دؤوبة بشكل يومي وعلى مدار الأسبوع، في شكل ذهاب وإياب، فلا يفوت الزائر أو المسافر المار مرور الكرام أن يتزود ويشتري ما لذ وطاب من المقروض القيرواني الأصيل والذي ما يزال يحمل في مذاقه نفس المميزات التي خلفها السلف.
هذا المقروض الأغلبي والعربي والقيرواني الأصيل الذي يتحلى بالعسل المصفى وزيت الزيتون حلو المذاق ودقيق قد من قمح “مطمور روما” وتمور الجنوب التونسي ولا ننسى أبدًا ماء الزهر الفواح، وهو يعد من العادات والتقاليد الأصيلة، ومقروض القيروان، ذلك النوع من الحلويات الذي يميز هذه المدينة منذ قرون طويلة.
والقَيْرَوَان هي مدينة تونسية، تبعد حوالي 160 كيلومترًا عن تونس العاصمة وتبرز أهميتها البالغة في دورها الاستراتيجي في الفتح الإسلامي؛ فمنها انطلقت حملات الفتح نحو الجزائر والمغرب وإسبانيا وإفريقيا، بالإضافة إلى أنها رقاد لعدد من صحابة رسول الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، ويطلق عليها الفقهاء “رابعة الثلاث،” بعد مكة و المدينة المنورة والقدس، وما من شك أن المطلع على تاريخ القيروان، له من العلم والدراية بالفاتح عقبة بن نافع الفهري ومسجده الشامخ والأغالبة وتاريخهم العريق ومقام الصحابي أبي زمعة البلوي حلاق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
تحدث التاريخ فأخبر عن “المقروض القيرواني”
يقول المؤرخ ابن الرقيق القيرواني في المقروض “إنه إذا قحط البربر وانتابتهم سنة جدباء اشتروا تمورًا وسميدًا ثم عجنوه بزيت أخضر وقسموه كتلاً وأصابع أفطروا عليها كل يوم وربما أكلوا بلا توقيت كيف أمكن وضربوا عليه بجرعة من رايب فهي عادتهم بدل الكسرة اليابسة”، فالمقروض بمثابة الأكلة التي تلجأ لها العائلة القيروانية ومن ثم التونسية لمقاومة الأيام المجدبة، إلا أنه كذلك أكلة المناسبات دون منازع، ترصفه المرأة القيروانية في قصاع النحاس القيرواني والأطباق المقدودة من فضة، أهرامات صغيرة لا تكاد تعطيها قيمتها الحقيقية إلا عندما تتذوق إحداها وتأسرك حلاوتها، أما إذا رأيتها سطورًا مرصوفة، فإنك لا محالة قد وقعت ضحية بريق الزيوت.
وللمقروض القيرواني أكثر من حكاية، يقول فيه الكاتب حسين القهواجي، أصيل المدينة، “كان العسل يجلب مصفى في قرب الماعز من جبل وسلات المعطار، أما زيت الزيتون فتدفع به معاصر دار السبوعي بالبادية الفيحاء المسماة العلا”، وتأتي التمور فوق ظهور القوافل قادمة من توزر، أرض “دفلة النور” التونسية المميزة، وتحط الرحال في “ذراع التمار” والرحبة الفسيحة في أرض عقبة، وترسل أرياف القيروان والولايات (المحافظات) المجاورة قمح “فريفا” وفي السنبلة مائة حبة صلبة تزيد في قوة الذهن وطلاقة الوجه واحمرار الوجنتين، وكم من المنافع يشتمل عليها زيت الزيتون القادم من السواحل التونسية فهو يلين الأعصاب المجهدة ويذهب الإجهاد والإعياء، ويحسن الخلق أليس زيتًا قادمًا من شجرة مباركة.
أما عن كيفية التحضير؛ فبعد غربلة كمية من السميد الخشن ودقيق الفارينة الناعم تضاف إليهما البكربونات والملح ثم يحمى الزيت ويسكب فوقه الخليط ثم يعجن باليد مع إضافة للماء الفاتر بكميات متفاوتة إلى أن تتماسك العجينة وتوضع جانبًا حوالي 30 دقيقة، في تلك الأثناء يتم دق التمر بعد نزع النوى في مهراس أو يرحى بآلة رحي وتضاف إليه القرفة والزيت إلى أن يصبح مرنًا وليّنًا.
تؤخذ قطع من عجين الدقيق وتفتل على شكل إسطوانة مستطيلة ثم تحفر في الوسط ليوضع فيها بعض عجين التمر ثم تلف العجينة حول التمر وتفتل مرة ثانية آخذة شكل المستطيل، وتخضع لعملية تسطيح بقالب خشبي يتم إحضاره للغرض، ثم تقطع حبات المقروض بالتساوي، وترمى في المقلاة حيث الزيت الساخن إلى أن تنضج، وبعد ذلك ترفع حبات المقروض وتوضع في مزيج ساخن من السكر المذاب في ماء الزهر المقطر، ثم ترش باللوز المهروش بعد قليه.