ينافح هذا الكتاب عن فكرة أساسية، تؤكد أن مشكلة الأمة ليست من خارجها، ولكنها في منظومتها المعرفية الأعمق، وأن الإطار الفكري القائم في المنطقة العربية ثبت عدم جدواه، وقلة مصداقيته في الواقع العملي الصلب، فقد سقطت الأفكار التي أنتجها قرن كامل في أول اختبار لها على أرض الواقع العملي، ولم تستطع أن تحقق ما وعدت به، وارتدت كل خيبات الأمل، تساؤلات عميقة عن جذورها.
تراكمت التحديات بصورة مطردة في الفضاء الإسلامي – كما يشير المؤلف – عبر ألف وأربعمائة سنة في شكل الأسئلة التي عجزنا عن الإجابة عنها، لكن هناك ما هو أعمق ويحتاج إلى فحص وبحث، وهو المنظومات التي تشكل طريقة التفكير ونمط الاستجابات، وهذه هي أخطر مناطق البحث.
فماذا لو اكتشفنا أن القصور في التراث والمنتج البشري، وقد بنى الناس عليه تصوراتهم ومقارباتهم، ثم اكتشفوا أن كل ذلك البناء لا يقف على أرض صلبة؟ فما هي الأرض الجديدة التي سيقفون عليها؟
واليوم أكثر من أي وقت مضى – كما يلح المؤلف – نحتاج إلى مراجعات كبرى لإعادة النظر في مجمل الأرضية الفكرية التي تقف عليها، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (ص175)، فهل نقوم بواجبنا تجاه هذه التحديات بالشكل الذي يحفظ أصول الامة، ويغرسها في قلب عصرها، هذا هو السؤال الآن؟
عبر مقدمة وثلاثة فصول يحاول الدكتور جاسم السلطان، في هذا الكتاب، تناول مشكلة التراث والتاريخ والسلطة ومناهج البحث، وكيف يمكن أن نجدد وعينا بديننا وواقعنا، لنخرج من أزماتنا المتكررة، نحو وعي حضاري جديد.
أسئلة الواقع بين لحظتين
يقارن المؤلف بين لحظتي ولادة المجتمع الإسلامي في حياة الرسول، وبعد رحيله وكيف اختلفت نسب النجاح في حل مشكلات المجتمع في اللحظتين، مؤكدًا أن أسباب هذا الاختلاف تعود إلى القدرة على حل التحديات الكبرى بشكل خلاق، يحفظ للمجتمع استقراره وحيويته في آن.
فالمجتمع الجديد، في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم-، استطاع أن ينجح في حل التحديات الكبرى التي تواجهه، وأوجد الآليات لعلاج هذه القضايا الرئيسية التي واجهته، والمتمثلة في:
حرمة الدماء والأموال – ضرورة البداية الجديدة في الملفات العالقة (الدماء والاقتصاد) – وقف الظلم – العناية بملف المرأة – المساواة بين البشر – إيجاد آلية سلمية لحل النزاعات. (ص47-48)
عبر التزامه بتطبيق وتنزيل قيمه الكبرى المتمثلة في: الرحمة الشاملة – العدل الشامل – الإحسان الشامل – أمر الناس شورى بينهم – طاعة أولي الأمر في المعروف – حل النزاعات عبر فئة ثالثة قادرة على العدل والترجيح (ص51-52)، إلى مؤسسات وآليات وممارسات على أرض الواقع.
لكن بعد رحيل الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وفجأة صدمة غيابه، لم يستطع المجتمع أن يتجاوب مع أسئلة الواقع بالشكل الملائم، وكان من الطبيعي أن تولد التحديات الكبرى، استجابات تجريبية، صادفت نجاحًا قليلاً، وخيبات وفشلاً أكبر بكثير. (ص50-51)
فلم يتحدد شكل الدولة، ولم توجد آلية الاختيار، ولا لحل النزاع على سياسات الحكم، وتولدت حيرة في شكل الدولة، وبرز تحدي عدم الاستقرار على آلية اختيار للحكام، وحيرة أو تحدى النزاع حول سياسات الحاكم، وتحدي وجود جبهتين متحاربتين على السلطة (ص52-60)، فوقع النظام السياسي في أزمة حكم على مستوى التحقق العملي.
وأنتج هذا كله مشكلة في الحياة السياسية عند المسلمين في مرحلة مبكرة من تاريخهم، ولم يستطع الفضاء السياسي المشحون بالخلافات، وفقدان الآليات، وعدم السماح بمناقشة الأفكار الكبرى: كالحرية، والعدل، ومشروعية النظام السياسي، وغيرها من القضايا الكبرى، أن يستوعب العرب اختلافاتهم الداخلية، بالإضافة إلى الاختلافات الناجمة عن انضمام كل هذه الأمم الحديثة العهد بالإسلام. (ص74-86)
ثلاث عقبات وسبع إشكاليات وقراءتان خاطئتان للتاريخ
يؤكد المؤلف أن الأمة العربية اليوم، تواجه ثلاث مشاكل كبيرة، ترجع جذورها إلى الماضي، هذه المشاكل الثلاث تعوق سيرها لمواجهة تحديات انتاج عصر جديد، هي:
1- المعطيات السياسية.
2- المعطيات الاجتماعية.
3- قصور مناهج البحث.
وهذه المشاكل الثلاث أنتجت سبع إشكاليات لا بد من حلها لبناء وعي حضاري جديد تتمثل في:
– إشكالية تحقيق الدولة بالمعنى المعاصر: التي هي بنت التغيرات التي حدثت في القرون الحديثة، وليست الدولة في السياق الإسلامي، التي كان يقصد بها التغلب على الملك، والحقبة الزمنية التي استمر شخص واحد على رأس السلطة .
– إشكالية غياب فضاء للتعايش وغياب أدبياته، وآفات ذلك التي تصحبنا حتى اليوم (ص86).
– إشكالية العقلية الدفاعية في وجه التفكر في المعضلة التي تمر بها الأمة: خاصة المخاطر الخاصة بالانكشاف التاريخي، والخوف على مكانة الأشخاص في التاريخ، ونظرة الناس إليهم.
– إشكالية الفقه وأصوله، فعلم أصول الفقه ونموه هو صيرورة مازالت تتفاعل، والفقيه المعاصر يواجه صعوبات جمة نتيجة نقص الأدوات المصقولة المتاحة له، والأمة تسبق الفقيه ثم يلحق بها الفقيه بعد أن تكون قد أخذت طريقها.
– إشكالية علم الحديث، وضرورة إيجاد آلية معيارية دقيقة للتعامل مع الأحاديث، قبل نسبة أي شيء إلى الدين، فنحن أمام ثروة خبرية متوفرة أثرت بعمق في تكوين الإنسان المسلم، وتحتاج مناهج جديدة لإعادة فاعليتها. (ص96-116).
– إشكالية التفسير وتقزم المفاهيم: وأثر ما قدمه المفسرون في مجمل الصور التي نحملها عن الإسلام اليوم – خاصة – أنها تقدم باعتبارها تفسيرًا للقرآن، وليست فهمًا تاريخيًا للقرآن، ومن هنا هي تؤثر بشكل كبير في العقل الجمعي وتشكل قامة المفاهيم القرآنية، ولا تقف مشكلة التفسير عند تقزم المفاهيم، ولكنها تمتد إلى مشكلة أكبر، وهي تذرر المفاهيم، فكل آية تفسر على حدتها، ولا توضع في نسق جامع يربط بينها في نظرية عامة (ص 168-169).
– إشكالية فقدان الترابط بين الأسباب والمسببات: عبر استخدام النص في تبرير الواقع المنحرف، واستدعاء نظرية الجبر للهروب من المسؤولية الاجتماعية، فتشوهت العلاقة بالدنيا، ولم يعد شيء في مكانه، لا العلم، ولا العمل، ولا علاقة الإنسان بالعمل، ولا علاقة السبب بالنتيجة. (ص148)
وقد نتج عن هذه الإشكاليات قراءتان خاطئتان للتاريخ
القراءة الأولى: تصور التاريخ، بصورة مشرقة لرفع معنويات الأجيال، عبر آليات الحجب والتمرير وصناعة الدفاعات عن الأخطاء التاريخية.
والقراءة الثانية: تحاول البحث عن حلول للواقع العصي من خلال نموذج تاريخي معين تتبناه.
والقراءتان انتقائيتان، ومحدودتان في الاستنتاج منهما (ص18-19)، ولم تعد الأجوبة الناتجة عنهما مقنعة على جميع الأصعدة، (ص20-21)، فقد أثبت الواقع، محدودية النموذج التاريخي في الإجابة عن أسئلتنا المعاصرة، كما أن الشاهد التاريخي ينفي وجود نموذج تاريخي، يصلح للإجابة عن أسئلتنا المعضلة في الدولة والاجتماع اليوم. (ص26-27)
ما العمل؟
يحدد المؤلف طريق الخروج من أسر الواقع الراهن، وحل الإشكاليات التي أعاقت نهوضنا في الخطوات التالية
أولاً: الغوص العميق جذور الأزمة التي قادت مجتمعاتنا إلى الوضعية الحضارية الحالية، فقضايا السطح مثل: فكرة الدولة المسلمة، وفكرة الخلافة، وفكرة الجزية، وفكرة الحرب المفتوحة على العالم وغيرها، هي مجرد مقولات السطح، التي تخفي تحتها قصة التراث، أو المنتج البشري الشارح للدين، الذي أصبح مع الوقت هو الدين في حياة الناس. (ص 23)
ثانيًا: ضرورة إعادة النظر في العوائق التي يحملها التراث لكل هذه الجموع الملتزمة به في رحلتها للتقدم (ص20)، فأمتنا في حاجة إلى زيارة جديدة التراث بعيون فاحصة، لمعرفة كيف أثر جزء منه سلبًا في حركة الأمة في الماضي، وكيف يؤثر اليوم فينا، لأن هذا الجزء المعيق يلامس التصور التاريخي، كما يلامس العقائد وأصول الفقه وعلوم الحديث وعلوم التزكية وعلم التفسير، وهي منطقة مشحونة بالعواطف وصعب الدخول إليها، لكن لا بد من الدخول لأن كل ما على السطح هو ابن ذلك العمق الدفين سواء بفهم أو سوء تأويل. (ص24-25)
ثالثًا: حل إشكالية العلوم الإسلامية: فالحالة الإسلامية اليوم التي تحاول أن تعبر بالدين إلى عصر جديد، وهي ليست لديها ترف أن تنتظر نضج الجهود لتوفير أداة أصولية صلبة قادرة على مواجهة ضخامة التحولات في هذا العصر، لكن عليها أن تعتمد على نوعية من الفقهاء الذين نضجت ملكتهم الفقهية الذاتية في إدراك العصر وإدراك فقه المآلات، ولو كانوا لا يمثلون التيار العام، حتى لا تظل أسيرة فقه الالتحاق. (ص118-129)
فما أنتجه البشر كأثر للنص من علوم وأدوات أو فقه وفهم، يحتاج إلى مراجعات، بعضها كبير ولكنه ضروري، حتى نستطيع أن نواصل التقدم، فوقع العصر مدو، وأدوات الفقيه المتاحة له في النظر محدودة، وإعداده لفهم العصر محدود، والإعاقة التي يسببها كل ذلك للفقيه ليست يسيرة، وهو الأمر الذي يحتم تجديد شروط المجتهد في هذا العصر. (ص118)
رابعًا: قراءة جديدة للتاريخ: تبحث في دفاتر الماضي عن جذور مشكل الحاضر في عمقها المعرفي الدفين في بيئتنا التراثية. (ص16-18)، وتقوم هذه القراءة على الأسس التالية:
ا- تفحص أسئلة تاريخنا الكبرى: من أين برز العجز عن بلورة القيم للواقع؟ ما هي الأسئلة التي طرحت نفسها في موضوع الدولة؟ ما هي الأسئلة التي طرحت نفسها في تحدي الاجتماع؟ ما هي الأسئلة التي طرحت نفسها في العلاقة بالعلم؟ (ص29)
ب- الكشف عن طبقات التاريخ، للغوص في جذور حالة عدم الفعالية: وكيف تراكمت عبر القرون لتشكل واقعنا المعاصر، باعتباره الطريق الوحيد لفك أسر الدين وأسر مجتمعاتنا من الركود، فالتقدم ابن الفاعلية، والفاعلية بنت تحرير التصورات ومنظومات الفكر. (ص 26)
ج- ضرورة التمييز بين الخط العام وبين الحالات الاستثنائية في التاريخ، وأن نتعرف على أثر الزمن في الدين والتدين، ودراسة التاريخ لاكتشاف أوجه القصور التي تقود الأمم إلى مصائرها، وندخل – بجرأة – إلى الجزء الذي يتم التعتيم عليه من صورة المشهد التاريخي، لنحدد جوانب القصور. (ص37-38)
د- قراءة تبدأ من التاريخ السياسي الضاغط على الوعي، إلى تاريخ نشأة العلوم ومناطق الانسداد فيها، فهناك تكمن أعماق الأزمة الفكرية التي قادت إلى تأزم عالم العلاقات الداخلي والخارجي، وقادت في النهاية إلى انهيار عالم المشاريع والبناء الخارجي الذي نجني ثماره اليوم. (ص 31-34)
خامسًا: حسن إعداد الدعاة لفهم العصر أولاً، ثم فهم الشريعة ككل، بدل فهمها مجزأة من دون نظرية تجمع متفرقاتها، ومن مزدوج فهم العصر وفهم الشريعة يولد عصر الإسلام القادم. (ص173)
سادسًا: العمق المعرفي والانتشار الثقافي عبر مؤسسات ونظم محصنة لا يكفي أن توجد عناوين أفكار من دون عمق معرفي، ولا يكفي أن يكون هناك عمق معرفي من دون انتشار ثقافي جماهيري، يجعلها جزءًا من تفكير الإنسان العادي وأشواقه، ولا يكفي أن تتحول إلى ثقافة منتشرة من دون أن يتم تبنيها كمبدأ يسير دولاب الحياة، ولا يعمل المبدأ إلا بإيجاد آليات ومؤسسات وإجراءات، ولا يستمر العمل بها إلا بنظام حماية من الاختراق والتلاعب. (ص 49)
خاتمة
لا أعتقد أن المؤلف كان يقصد عنوان كتابه تمامًا، فالإشكاليات التي تناولها، ليست هي إشكاليات التراث الكبرى، وربما يدخله هذا في جدال مع كثيرين حول العنوان، لكن المؤلف – من واقع تجربته – ومن واقع حالنا في لحظتنا المرة الراهنة، أراد أن ينبه الغافلين، ممن قد يلهيهم السقوط المدوي للتجربة الإسلامية في الحكم في بعض البلدان العربية، ودور بعض العناصر الداخلية والخارجية فيها، عن الأسباب الرئيسية للسقوط المتمثلة في: رؤيتنا وقراءتنا للتاريخ بمناهج خاطئة ومعيبة، أنتجت فهمًا سقيمًا انعكس على التعامل مع الواقع برؤى ضيقة، وأدوات قاصرة، وخطاب سطحي أنتج فشلاً لا يجادل فيه عاقل.
هذا الكتاب يعد بداية المجتهد في فهم أزمة أمة العرب، فهو يعيد تذكير الناسين أو المتناسين بقضايا الأمة القديمة/ الحديثة، التي طال عليها الأمد، ولما تزل على حالها تزداد تعقيدًا جيلاً بعد آخر دون حلول حقيقية لإشكالياتها، تسهم في إخراج الأمة من غيابها التاريخي الذي طال، فالكتاب ليس موجها للأكاديميين أو المتخصصين في قضايا التراث، بقدر ما هو موجه لعموم الأمة وشبابها، وقصارى ما يفيده منه أهل الاختصاص، أن يدركوا مدى تقصيرهم في تناول إشكاليات تراثنا بشكل جاد ومعمق مرتبط بالعصر، ينتج مناهج جديدة تفيدنا في أزمتنا الحضارية الراهنة.
والكتاب، في معية باحث خبير بالتراث، يصلح مدخلاً للناشئة والمبتدئين، في علم دراسة أزمة الأمة الذي آن الأوان لبنائه، فالكتاب صغير الحجم، سهل القراءة، يحمل همومًا وشجونًا لتجربة إنسان مسلم، عاش عمرًا داخل أكثر تنظيمات الإسلام السياسي(الإخوان المسلمين) انتشارًا وتأثيرًا في عالمنا العربي، فكتب منبهًا على بعض مسببات تراجع حال الأمة، في ظلال ضياع فرصة الثورات العربية على أيدي كثيرين – في القلب منهم الإسلاميون – بسبب قراءتهم المعوجة للتاريخ، واستنادهم إلى مناهج مشوهة في التعامل مع الواقع.
من مزدوج فهم العصر وفهم الشريعة، يولد عصر الإسلام القادم، هذا ما يريد أن يؤكد عليه المؤلف، ولن يتم ذلك ذلك، دون مساءلة حقيقية لتراثنا في كافة المجالات، مساءلة نقدية جادة متعمقة، تنتج مناهج جديدة تجدد علومنا وممارساتنا، وحلولا متجددة لمشكلات الأمة التي طالت واستطالت.