تستمر الدولة المصرية مع بداية كل عام مالي في الشكوى من حمل دعم الطاقة على الموازنة العامة للدولة، وتشير الأرقام الرسمية إلى أن دعم المحروقات البترولية وحده قد وصل إلى رقم 100 مليار جنيه مصري، بينما وصل دعم الطاقة الكهربية (المنتجة من محروقات بترولية غالبًا) إلى 26 مليار جنيه.
هذه الأرقام بالأساس غير واقعية وتنتج عن مغالطات حسابية، إذ يصل استهلاك مصر السنوي من المنتجات البترولية إلى 75 مليون طن بتكلفة 370 مليار جنيه، بينما يصل مقدار الإنتاج المحلي إلى 70 مليار جنيه، وبينما يصل لتر المحروقات إلى المواطن بسعر يمثل 10-15% من سعر السوق العالمي، يعني هذا أن التكلفة الحقيقية على الدولة تصل إلى 255 مليار جنيه على أفضل التقديرات، أي قرابة 30 مليار دولار بسعر الصرف الرسمي.
وبالرغم من فداحة الأرقام السابقة، تستمر الحكومة المصرية في إدارة سوق المركبات أو السيارات في قول آخر بطريقة شبه جنونية، إذ وصل تعداد المركبات المرخصة في مصر عام 2012 إلى ما يزيد عن ستة ملايين مركبة، وجدير بالذكر أن هذه المركبات هي المستفيد الأول من دعم المحروقات؛ حيث يحصل أصحاب المركبات على الوقود بما يزيد قليلًا عن عشر سعر السوق العالمي، وبلا أي نوع من تحديد نصيب الفرد بشكل عملي.
جدير بالذكر أن غالبية هذه المركبات تنتمي لحقب الثمانينات أو التسعينات على أفضل تقدير، وهي بضرورة الحال غير رشيدة في استهلاك الوقود بأي حال، ويرجع هذا بالأساس إلى إصرار الحكومة المصرية على فرض أرقام خيالية من الضرائب والجمارك على استيراد السيارات كوسيلة للحصول على النقد السريع، ويتسبب هذا بالضرورة في مد العمر الافتراضي للسيارات في السوق المصري، لنرى سيارات لا يسمح بسيرها من الأساس على طرق البلاد الأخرى تمثل الأسطول الرئيسي لسيارات الأجرة في البلد.
من الطبيعي جدًا أن يصل سعر سيارة متوسطة أوروبية الصنع كالسيارة سكودا أوكتافيا على سبيل المثال إلى قرابة الـ 300 ألف جنيه مصري قبل الزيادة الأخيرة في سعر الدولار، أي أن السيارة التي يصل سعرها في الولايات المتحدة إلى 20 ألف دولار تباع في مصر بما يزيد عن 40 ألف دولار، كل هذا بينما يظل قطاع السيارات الفاخرة والفارهة هو أكثر القطاعات نموًا في السوق المصري.
موديل “بولت” من شركة شيفروليه يمثل استثمار أحد أكبر منتجي السيارات في العالم في مجال السيارات الكهربائية الاقتصادية بقوة
تشبه الدولة المصرية في هذه الحالة شخصًا يطلق الرصاص على قدمه ثم يجلس ليصرخ على قارعة الطريق، لا تستطيع الدولة أن تتخلى عن مكاسب الجمارك والضرائب السريعة (في حين أنها لا تقدم أي منتج محلي بديل لتحميه الجمارك من الأساس) في مقابل أن تعمل على استبدال أسطول المركبات عالية استهلاك الوقود الموجودة على طرقها لتوفر دعم المحروقات على المدى البعيد، هذا بطبيعة الحال دون الحديث عن أي خطوة عقلانية لترشيد وصول الدعم لمستحقيه؛ فالمجال هنا لا يسمح بمثل هذا الحديث.
نشر أهرام السيارات قصة فكاهية تنتمي للكوميديا السوداء منذ بضعة أسابيع، القصة التي أرسلها أحد القراء تحكي محاولاته لإدخال سيارته الكهربائية ماركة تسلا عبر الجمارك المصرية عند عودته من الولايات المتحدة، إذ سأله موظف الجمارك أن يدخل نوع المحرك وسعته في استمارة ما، ليخبره الرجل أن السيارة إلكتروني وليس لها محرك ولا سعة وقود أو سلندرات وغيرها، ليقوم عندها موظف الجمارك بإنهاء إجراءات على أنها سيارة لرياضة الجولف، مما يجعلها تقع تحت بند المعدات الرياضية والرفاهية بشريحة جمركية خيالية.
هذا هو المنطق الذي تتعامل به الدولة مع أحد الحلول الأكثر قابلية للتطبيق لحل أزمة دعم المحروقات، حل لن يكلف الدولة شيئًا سوى تقديم إعفاءات جمركية لهذا النوع من السيارات والاستثمار في البنية التحتية بما يكفي لجعله خيار عملي للمواطنين، وفي المقابل ستقع التكلفة المباشرة على المواطن الذي سيقرر الاستثمار في هذا النوع من السيارات على ارتفاع سعره النسبي، وهو ما يتوقع نجاحه نظرًا للتوسع المستمر في سوق السيارات ما فوق المتوسطة في مصر.
موديل “ليف” من شركة نيسان اليابانية كان أول الواصلين إلى ساحة السيارات الكهربائية الرخيصة نسبيًا
وبينما تستمر الشركات العالمية في الاستثمار بقوة في قطاع السيارات الكهربائية، حيث تمكنت شركة تسلا من خفض سعر سياراتها من 100 ألف دولار لأول إنتاجها حتى وصل إلى أقل من 34 ألف دولار بعد الضرائب لآخر موديلاتها، وبدأت كل من نيسان وشيفروليه في بيع سيارات من نفس الشريحة السعرية، في ذات الوقت تعمل مصانع الجيش المصري على تجميع سيارات جيب شيروكي الشهيرة باستهلاكها المرتفع للوقود وتسويقها في السوق المحلي.
نستطيع أن نزعم بأمان أن في حالة وصول سيارات الجيل الحالي من السيارات الكهربائية إلى السوق المصري بسعرها الأصلي من دون ضرائب وجمارك تضاعف سعرها، فإنها ستلقى شعبية عملاقة خصوصًا مع ما بها من مميزات تكنولوجية ورفاهية، كما أن حقيقة كون هذه السيارات هي مجرد الجيل الثالث من السيارات الكهربائية في السوق كفيل بأن يمنح أي استثمار حكومي في استيرادها وخلق بنية تحتية لها فرص نجاح مستقبلية مبهرة، إذ ستصبح تكلفة توسعة البنية التحتية لتصبح هذه السيارات هي الشريحة الأكبر في الطرق شديدة الانخفاض لاحقًا.
هذا بطبيعة الحال من غير ذكر ما سيعود على الدولة من توفير لأموال الدعم المهدرة كل عام، إذ ستقوم الدولة بتركيز الدعم وتحويله لإنتاج الكهرباء الأكثر اقتصادية، مما لن يؤدي إلى خفض التكاليف فحسب، بل وتطوير ودعم البنية التحتية لشبكات الكهرباء المصرية وزيادة قدراتها الإنتاجية واعتماديتها، والذي سينعكس إيجابًا لاحقًا على خفض معدلات انقطاع الكهرباء الخيالية التي تعذب المواطنين كل صيف وتقتل المرضى في المستشفيات.