27 أغسطس 1992، سماء زرقاء، نسمات حزينة، شمس ساطعة، سيارات شرطة هنا وهناك، حافلة السجون تنتظر، رجل يخرج من المحكمة مكبل الأيدي، النيابة العمومية طلبت له حكم الإعدام مع عدد من رفاقه، وهناك غير بعيد عنه “يد صغيرة” تحييه في حركة بطيئة كأنها تقول “اصمد إننا معك حيث أنت”.
من هنا استوحى القيادي السياسي ونائب رئيس حركة النهضة الإسلامية في تونس “عبد الحميد الجلاصي” اسم إصداره الأول “اليد الصغيرة لا تكذب” ضمن سلسلة كتب اختار لها عنوان “حصاد الغياب”.
في هذا الكتاب الجديد لخص عبد الحميد الجلاصي قصة معاناة إنسانية واضطهاد، عاشها برفقة معارضين سياسيين في سجون النظام التونسي إبان حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وجمع الجلاصي في روايته الرسائل التي أرسلها من السجون إلى عائلته ورفاقه في العمل السياسي، بين يوليو 1991 ونوفمبر 2007 تاريخ إطلاقه من السجن، وشهادات حية أخذها من عائلته بعد خروجه.
“كتاب للحقيقة والشهداء والمستقبل” هكذا قال القيادي عبد الحميد الجلاصي لنون بوست وأضاف “هذا الكتاب ليس منشدًا للماضي بل هو متجه للمستقبل، أردت من خلاله كسر 3 أفكار راسخة لدى الجميع: الأولى تخص السجن، فالسجن عادة هو رمز للعدم والغياب وإن شئت قلت الموت، أردت أن أقول إن السجن يمكن أن يكون فضاءً للإبداع والمقاومة، لم أشتغل في هذا الكتاب على التشنيع بالقمع قدر اشتغالي على الإشادة بالملحمة الجماعية التي خاضها المقاومون والمناضلون في كل مكان مهما ضاق بهم، فهناك دائمًا فسحة للأمل ولتغير موازين القوى حسب قوله، وتابع “أردت ثانيًا كسر القالب الذي من خلاله تبدو السياسة متعالية على عالم الناس، كأنها عالم آخر فوق العالم، أردت كسر هذا المعتقد، فعالم السياسة يجب أن ينزل إلى عالم الجماهير”.
وثالث الأفكار التي أراد الجلاصي كسرها في كتابه هي نظرة الناس للنهضويين “مازلنا عند الكثيرين كأننا من عالم غريب وهناك مقدار من سوء الفهم والتوجس منا، جزء من هذا مرتبط بسنوات طويلة من الهرسلة الإعلامية والتشويه وجزء آخر مرتبط بعدم بذلنا ما يكفي من مجهود لتغيير هذه الصورة، أردت أن اقول إن النهضويين هم ناس كغيرهم من الناس يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، يحبون ولهم الشجاعة في الإفصاح عن ذلك، يكرهون وتكون لهم القوة للصفح والمغفرة عندما يكرهون، يضعفون وتكون لهم قوة المقاومة، نحن تونسيون نضحك نبكي”.
ويمزج الكاتب في روايته بين أجناس أدبية مختلفة تضمنت “السرد” و”الوصف”، لوقائع المحاكمات السياسية، وفصول المعاناة والتعذيب، التي كان يتعرض لها سجناء الرأي في عهد النظام السابق، فيخرج من سجن ليدخل آخر، في محاولة لجذب انتباه ومشاعر القارئ.
يسترجع عبد الحميد الجلاصي الزمن “يوم 27 أغسطس 1992، كنا في المحكمة العسكرية في بوشوشة وكانت النيابة العمومية قد طلبت لي حكم الإعدام، يومها كان مخصصًا لجلسة اأعذار (جلسة تخصص بعد مرافعات المحامين والاستماع للمتهمين، حتى يعتذر المتهم ويطلب العفو والصفح)، كانت جلسة افتخار واعتزاز بالحركة والوطن والأخوة ومستقبل التونسيين”، يتابع “بعد جلسة الأعذار خرجنا لتحملنا سيارات السجن إلى السجن في انتظار أن تصدر فينا الأحكام وكان الإعدام مطلب النيابة العمومية، عند صعودي للسيارة كانت زوجتي هناك، السماء زرقاء، الشمس ساطعة، لوحت لي بيدها الصغيرة”.
تلك الصورة يقول الجلاصي إنه استنطقها وفهم منها أن زوجته تقول له لا تخف إني معك، خلفك، أمامك، بجانبك، اليوم وغدًا ولن يفعلوا بك شيئًا، اركب بسلام وبركات”.
بعد 17 سنة قضاها عبد الحميد في السجن تيقن أن اليد الصغيرة لم تكذب والرسالة التي حملتها تلك التلويحة لم تكن سرابًا، فها هو اليوم مرفوع الرأس ومن أمر بسجنه يقبع خارج البلاد.
رواية يمكن لها أن تربك القارئ فقد راوحت بين الحاضر والماضي والمستقبل، وفي هذا الشأن يقول الجلاصي “صحيح أني راعيت المنهج الكرونولوجي لكني أيضًا قمت باستعادة الذاكرة، فالزمن داخل السجن هو زمن لزج، هناك لحظتان حاضرتان ولحظة ثالثة غائبة”.
الماضي هو لحظة الحنين ولكنه ليس الماضي الذي وقع وإنما هو نوع من الملجأ كي نجد نوعًا من الدفء والحنان، المستقبل هو عالم الخيال والأمل كي نخرج من الجدران، أما ما يحصل في السجن أي في عالم الحاضر أي من قساوة فنغيبه.
في بداية صدورها قيل إنها رواية تنتمي لأدب السجون غير أن صاحبها ينفي ذلك ويقول “لا اعتبرها من أدب السجون، هي مزيج من التاريخ والكتابة الأدبية من التوثيق والخيال”.
في هذا الكتاب تجرأ الجلاصي على استنطاق أهله وأخذ شهاداتهم “تجرّأت في المدة الأخيرة أن أستنطق عائلتي بعد كل هذه المدة، استنطقت والدتي كي أنظر كيف عاشت أجزاء تلك الفترة، استنطقت شقيقي كيف عاش زواجه في غياب أخوته (كانوا ثلاثة أخوة في السجن وأخوهم الرابع في المنفى)، استنطقت شقيقاتي كيف عشنا العذاب ومعاناة نزع الحجاب، استنطقت كذلك ابنتي “مريم” كيف عاشت غياب والدها عنها”.
أراد الجلاصي في كتابه “اليد الصغيرة لا تكذب” أن ينطق باسم جمع، فيه نوع من التماهي بين أشخاص كثر، فيه نوع من التطهر الجماعي، كيف نشتغل على أعطاب الماضي من أجل بناء المستقبل”، وأوضح “كيف يبني السياسي لغة سياسية جديدة، وكيف نعيد الاعتبار لنساء تونسيات صنعن لنا الحاضر لنصنع لهن ومعهن المستقبل”.
واعتبر القيادي بحركة النهضة كتابه “تحد للذات واستفزاز للرفاق”؛ تحد للذات من خلال سرقة شيء من الوقت للكتابة في خضم الشغل اليومي لمسؤول سياسي في حركة النهضة
واستفزاز لرفاق والأصحاب حركة النهضة وخارجها كي يهرعوا إلى أقلامهم ويكتبوا شيئًا من ملحمتهم حتى يتصالح التونسيون مع تاريخهم و”نعالج بعمق أخطاء الماضي كي نرتمي بشكل نهائي في أحضان المستقبل”.
أراد الكاتب من خلال ما جمع وكتب المساهمة في كتابة تاريخ البلاد ففي كل مرة “نفتقد قامة وتغادرنا شمعة وبغيابها نفقد جزءًا من الذاكرة الجماعية، في السابق كنا نقول إن السلطة السياسية هي التي كتبت الحاضر والماضي وصاغته بما يخدم مصالحها، الآن لم يعد أمامنا هذه المبررات”.
في كتابه تجده يصفح عن جلاده رغم ما عاناه منه ويرجع الجلاصي ذلك “في السجن تكتشف أن التركيبة البشرية معقدة وتحوى الكثير من التناقضات، فالجلادون ليسوا صنفًا واحدًا، هناك من كان يستبق الأوامر وهناك من يمتثل للأوامر بشكل ميكانيكي وهناك من كان يتحايل كي لا ينفذها وهناك من يرفض تنفيذ هذه الأوامر”.
يضيف “أحيانًا تلاحظ وجود من كان يتصارع في نفسه الخبزة (لقمة العيش)، الانضباط الإداري والضمير، فيجد طريقة ما لإرضاء هذا الثالوث، فهو يخشى على خبزة الأبناء لكنّه يريد أن يرضي ضميره ولا يكون في قافلة الظلماء ويتحايل أحيانًا، حتى عندما يجلدك تجده يخفف الضرب فتحس ببعض الإنسانية، عندما يضربك ويربت على كتفك تشعر أن هناك عمقًا إنسانيًا داخله كأنه يعتذر، في مقابل ذلك هناك من يجلدك ويكون شامتًا ويتلذذ ويتشفى بعذابك”.
وعن فقدان الإنسانية داخل السجون يقول “القمع يضر السّجين وفي ذات الوقت يضر السجّان أيضًا، يفقده إنسانيته يجعله حيوانًا، ومع ذلك فهو يصفح عن جلاده بل ويعتبر بعضًا منهم ضحايا”، ويقول “أرى أنه يمكن أن يكون مطلوبًا من الجلادين أن يتكلموا ويفرغوا ما في صدورهم، ففي ذلك شفاء لأنفسهم فهم أيضًا ضحايا ولعلهم بهذا الاعتراف والكشف عن أعماق أنفسهم، يجدوا إنسانيتهم ويتداركوا خطأهم قبل الموت ويعتذروا فيجدوا نفوسًا كثيرة مستعدة للصفح عنهم”.
يوثق عبد الحميد الجلاصي في إصداره الأول 4 سنوات من 17 سنة كاملة من السجن، زار خلالها قرابة 15 سجنًا من شمال البلاد إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، ويعرج على محنة إخوانه وعائلاتهم أيضًا، “هذه المحنة لم تكن خاصة بي فقد شاركني فيها آلاف المناضلين، هي ملحمة جيل وعائلات، عذاب العائلات فاق عذاب السجناء، فالسلطة مارست سياسة التغريب، سجناء الجنوب تضعهم في الشمال والعكس بالعكس”.
وحتى لا يطبّع السجين السياسي وضعه مع الإدارة ومساجين الرأي العام، يتم نقله كل خمسة أشهر من سجن إلى آخر ليكون دائمًا في حالة غربة وعدم استقرار، ويقول الجلاصي “نحن عرفنا قاع تونس وسجونها من الداخل، كذلك عائلاتنا عرفوا جغرافية هذا الوطن من الهرولة خلفنا، عرائس لم يكن شهر عسلهن زيارة لأحد الجزر أو النزل الفاخرة وإنما كان التنقل من سجن إلى سجن”.
دخل الجلاصي السجن في أبريل 1991 و خرج منه في نوفمبر 2007، ترك ابنته جنينًا في بطن أمها وخرج ليجدها في القسم النهائي من التعليم الثانوي، فمثّل الاندماج مع ابنته أكبر الصعوبات “لم تعرفني، كانت تزورني في السجن ولا تراني إلا من بعيد، طيلة 17 سنة لامستها وقبّلتها مرتين او ثلاثة بصفة مباشرة”.
عند خروجه من السجن وجد مريم تحمل في طياتها صراع وتناقض بين عقل فيه فخر واعتزاز بهذا الوالد ووجدان يرى في والدها شخص سيفتك أمها التي ظلت لسنوات طوال ملكها وحدها.
فكان مطلوب منه أن يستعيد حياته مع ابنته التي لم يرافقها في أجمل فترات حياته وحياتها، ولو باصطناع، “عندما أحلل أبويتي تجاه ابنتي أجد كثيرًا من الاصطناع فهناك أشياء لا تعوض، لا يمكن أن أعوض أول الكلمات التي نطقت بها مريم، أولى أسنانها، خطواتها الأولى، ضاعت منا كل تلك الفترات التي تنمي مشاعر الأبوة”
وختم بقوله “هناك أشياء لا تعوض، فنحن لا نستطيع أن نعيد الزمن إلى الوراء، مع ذلك نحاول أن نتحايل بالعقل حتى نستعيد تلك المراحل، هذا الكتاب أردته هدية لمريم وللمناضلين وذلك الجيل الذي أسميه جيل الدقيقة التسعين، هو نوع من التعويض للشهداء الذين لم يعد بإمكانهم أن يتكلموا، وهدية للصامتين الذين لا قدرة لهم على الكتابة وتدوين شهاداتهم”.
في روايته هذه حاول عبد الحميد الجلاصي استباق الموت كما قال، فهو لا يريد أن يكون مثل كثير من الساسة الذين يمضون ولا يتركون شيئًا سوى سطر واحد في صفحة الوفيات في جريدة لم يعد أحد يهتم بقراءتها.