ألقى فيدل كاسترو منذ عدة أيام خطابه الذي وصفه بـ”الأخير” أمام مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي، الزعيم الذي حاولت الولايات المتحدة اغتيال شخصه ونظامه وثورته أكثر من مرة على مدار عقود أعلن أنه سيموت قريبًا ككل الناس، إلا أنه أكد أن الحزب وقيم الشيوعية الكوبية ستبقى دليلًا على قدرة البشر على إنتاج كل ما يحتاجوه من منتجات ثقافية ومادية إذا تعاونوا على حد قوله.
من بين كل الرموز والأنظمة الشيوعية على مدار التاريخ؛ قد يكون كاسترو أقرب من قال مثل هذه الجملة إلى الحقيقة.
حكم الحزب الشيوعي الجزيرة الصغيرة منذ عام 1959 بادئًا حكمه بمصادرة كافة الملكيات الخاصة، استمر النظام الشيوعي في حكم الجزيرة لفترة تبدلت فيها رئاسة الولايات المتحدة عشر مرات، وسقط فيها الاتحاد السوفيتي وجدار برلين.
ليس من العدل أن يلقي المرء نظرة فقط على حقيقة استمرار الحزب وذات الأفراد في حكم البلد منذ الثورة حتى، ولا أن يرجع هذه الاستمرارية إلى ما تشتهر به الأنظمة الشيوعية من القمع والشمولية، فنظرة سريعة على ظروف ومستوى المعيشة في كوبا كفيل بأن يظهر أن الوضع شديد التعقيد ويختلف كثيرًا عن البلدان الشيوعية والاشتراكية الأخرى كالاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية السابقين.
بالرغم من أن الناتج القومي الكوبي ونصيب الأفراد منه لا يمثلان سوى مجرد كسور من الأرقام المماثلة في بلدان العالم الغربي، إلا مؤشرات الصحة العامة والتعليم والإسكان تقترب كثيرًا وتسبق أحيانًا ذات المؤشرات في بلدان العالم الأول، وقد نجحت الحكومة الكوبية في تحقيق هذه المؤشرات عبر عمليات استثمار مكثفة في رؤوس الأموال البشرية والاجتماعية عبر سياسات إلغاء الملكية الفردية والمركزية الشيوعية الشهيرة.
غالبًا ما يستخدم وصف “الشمولية” كعلامة لأكثر الدول سلطوية وقمعًا حول العالم؛ إلا أن أصل المصطلح أكثر تحديدًا من هذا بقليل، إذ يعني المصطلح أن دولة ما تمارس سلطتها بشكل “شامل” على كافة مناحي الحياة داخلها، هذا أنها تسيطر على المجتمع والثقافة والمجال العام والحرية الشخصية.
يمكن الزعم أن كوبا تمثل التعريف الدقيق للدولة الشمولية، دولة تسيطر على كل ما يجري داخلها، ولا يمكن المشاركة في الحياة السياسية فيها سوى عبر الانضمام للحزب الشيوعي ولا يستطيع المرء أن يملك أي شيء، فقط له الحق في استخدام ما تمنحه إياه الدولة.
إلا أنها وفي ذات الوقت تنطلق من واقع “شمولية” المواطنة والحقوق التي تمس الحياة بشكل مباشر، فحق التعليم هو حق شامل، وحقوق العلاج والسكن والغذاء كذلك، تعمل الدولة بشكل حثيث على تقديم هذه الحقوق لمواطنيها، كحقوق لا كخدمات.
الغريب في الأمر هو كيف استمر مؤشر التنمية الإنسانية (الذي يجمع مجموعة كبيرة من مؤشرات الصحة والتعليم والإسكان وجودة الحياة) في النمو منذ الثورة الكوبية عام 1959 بالرغم من بدء الحصار الاقتصادي الأمريكي للجزيرة منذ عام 1960؛ وتفاقم المشكلة اللاحق لانهيار الاتحاد السوفيتي الذي مثل شريكها الاقتصادي والأيديولوجي الأكبر.
الصحة
اليوم؛ تمثل أنظمة الرعاية الصحية والبحث والتعليم الطبي في كوبا إحدى أكثر المنظومات الصحية نجاحًا على الإطلاق في العالم، إذ يزيد متوسط الحياة في كوبا وعدد الأطباء للمواطنين عن مثيليهما في الولايات المتحدة، بالرغم من أن نصيب الفرد الكوبي من مصروفات الصحة أقل من عشر نصيب مثيله في بريطانيا على سبيل المثال، وحتى يومنا هذا يبقى عدد الأطباء الكوبيين العاملين في أجهزة وهيئات الإغاثة الدولية أكبر من أي جنسية أخرى، كما يعرف عن أطباء الإغاثة الكوبيين حول العالم أنهم أول من يصل لموقع أي كارثة، كما تمكن المركز الكوبي للمناعة الخلوية من تطوير أول لقاح حقيقي ومعروف قادر على الوقاية من عدد من أنواع سرطان الرئة.
التعليم والإسكان
من الطبيعي أن ترى التحف المعمارية في قلب هافانا يقطنها أكثر الناس فقرًا
يمكن رؤية مجموعة شبيهة جدًا من المؤشرات على مستوى كافة ما يتعلق بالرعاية الاجتماعية، فالأمية على سبيل المثال قد انتهت تمامًا من كوبا في سبعينات القرن الماضي، كما تسبق الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية كوبا في أعداد المتشردين وعديمي المنازل بمراتب عدة، إذ يعتبر الإسكان في كوبا حقًا دستوريًا تمامًا كالتعليم والصحة.
وبطبيعة الحال لا يمكن الحديث عن كون الوضع وردي طوال الوقت على كل حال، فقد واجهت كوبا على سبيل المثال مجاعة عنيفة قادت إلى مجموعة من الأوبئة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وعدم قدرتها على سداد تكلفة واردات الغذاء، إلا أن وجود منظومة صحية وإدارية قوية قد أدى إلى نجاح احتواء الأزمة سريعًا.
إذًا، من الشمولي حقًا؟
ما يلفت النظر هنا هو حقيقة أن كل الدول العربية التي لا يتم وصفها عادة بالشمولية لافتقادها للشيوعية اللازمة تشارك كثير من الأنظمة الشمولية في عدد من الصفات المحورية، فكل الدول الحديثة في المنطقة العربية تمتاز بتهافت واضح على فرض سيطرتها على كافة مناحي الحياة عبر استخدام القوة وغيرها، وإن كانت لا تقوم بتأميم الملكية الخاصة إلا أنها كثيرًا ما تمتاز بالحفاظ على إمبراطوريات اقتصادية موازية للاقتصاد الرسمي كما الحال في إمبراطورية آرامكو في السعودية أو شركات الجيش المصري التي لا نهاية لها.
أما إذا تحدثنا عن الممارسة السياسية والحقوق المدنية فالممارسات المخجلة لدول كالسعودية والإمارات ومصر تملأ أراشيف كاملة لمنظمات حقوقية كبرى.
واقع الأمر أن لا اختلاف حقيقي بين كوبا وكل الدول العربية فيما يخص التسلط والعنف والشمولية، إلا أن وقوف الأخيرة على الجانب الصحيح من الولايات المتحدة يكفيها شر نعتة الشمولية، بل ويجعل تردي مستويات المعيشة، وظروف حياة مواطنيها، وانعدام العدالة بها بالرغم من سيول الأموال المنهمرة على خزائنها أدلة على إجرام الدول إذا ما قورنت بكوبا المحاصرة منذ خمسين عامًا.
هكذا تبدو أروقة معهد الكبد في مصر، الدولة ذات أعرق منظومة طبية في الشرق الأوسط
ففي نهاية الأمر، يرى النظام الشمولي في كوبا الصحة والتعليم والسكن وغيرها كحقوق للمواطنين الذين يمثلون قوام الدولة، لا كخدمات تتفضل بها الدولة على مواطنيها عبر أموال الضرائب التي يدفعوها، بينما يبدو أن مفهوم الحقوق غير متواجد بالأساس عند أغلب الدول العربية، فأنت إن كنت محظوظًا بما يكفي أن تتواجد في المكان المناسب في الوقت المناسب فقد تحصل على بعض العلاج أو التعليم، أما ما عدا ذلك من أوبئة الكوليرا التي تضرب مصر في القرن الواحد والعشرين أو أرقام الأمية المرعبة في السعودية فهي مجرد سوء حظ للمواطنين لا تستطيع الدولة فعل الكثير تجاهه.