لم يكن ينقص الرئيس عبد الفتاح السيسي في هذا الوقت بالذات سوى ذوبان الجليد بسبب الاحتباس الحراري في القطب الشمالي لخلق ممرات ومسارات بحرية وتجارية جديدة لسفن الملاحة المحملة بالبضائع التي تعبر المضائق جئيةً وذهابًا إلى جميع بلدان العالم، إذ أظهر تقرير صادر في صحيفة “تشاينا ديلي” الحكومية الصينية الأربعاء 20 نيسان/ أبريل، أن الحكومة الصينية تشجع السفن التي ترفع علمها على أن تسلك ممرًا بحريًا في شمال غرب البلاد عبر المحيط القطبي الشمالي لاختصار الوقت بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وقالت الصحيفة أيضًا إن إدارة السلامة البحرية في الصين أصدرت هذا الشهر كتيبًا إرشاديًا يقع في 356 صفحة باللغة الصينية يتضمن إرشادات تفصيلية عن المسارات البحرية من الساحل الشمالي لأمريكا الشمالية وحتى شمال المحيط الهادئ، إذ تسهم طرق الملاحة البحرية الأقصر عبر المحيط القطبي في توفير الوقت والمال للشركات الصينية فالرحلة البحرية من شنغهاي بالصين إلى هامبورغ في ألمانيا عبر المحيط القطبي أقصر بواقع 2800 ميل بحري بالمقارنة بعبور قناة السويس.
ليس فقط ذوبان الجليد بل أيضًا انخفاض أسعار النفط العالمية الذي مكّن السفن لتحمل تكلفة اتخاذ الطريق الأطول بسرعة أكبر وبالتالي تستهلك نفس الوقت الذي تستغرقه في حالة استخدام القناة، أي أن استخدام طريق رأس الرجاء الصالح جنوب إفريقيا بدلًا عن القناة سيوفر 235 ألف دولار لكل رحلة بحرية وهو ما يعد دفعة قوية للناقلات التي تعاني من ضائقة مالية حسب تقرير صادر عن مؤسسة “سي إنتل” الأمريكية المتخصصة في تحليلات الملاحة البحرية، وذكر التقرير أيضًا أن 115 سفينة تنقل بضائع من آسيا إلى شمال أوروبا والساحل الشرقي الأمريكي أبحرت حول جنوب إفريقيا خلال رحلة عودتها بدلًا من استخدام قناة السويس.
وحتى التجارة العالمية والنمو على مستوى الدول الكبرى يشهد تباطؤًا ملحوظًا من الصين مصنع العالم ومحرك النمو للعالم بأسره إلى الدول الأخرى المتقدمة، وهذا ليس سارًا للسيسي ولقناة السويس إذ يخفض من عدد السفن التي ستعبر القناة وبالتالي هبوط إيراداتها.
في اللحظة التي سجلت الصين تحسنًا ملحوظًا في صادراتها خلال مارس/ آذار الماضي أي بعد نحو 8 أشهر من التراجع المتواصل، حيث بدأت تظهر علامات التعافي على ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وقد تفاعل مع هذا التحسن معظم الأسواق والعملات العالمية، إلا أن الفرحة حُرمت منها قناة السويس بعد إصدار هيئة سلامة الملاحة البحرية الصينية مؤخرًا دليلاً مفصلاً يتضمن تعليمات للإبحار من الساحل الشمالي لأمريكا الشمالية إلى شمال المحيط الهادئ، وهذا يعني تجاوز قناة السويس.
المشكلة مركبة بالنسبة للسيسي وللاقتصاد المصري؛ فليس الجليد في القطب وحده ولا التجارة العالمية ولا التحسن الملحوظ في الصادرات الصينية، لكن هناك الأوضاع الداخلية والتي لا تنبّئ بخير أبدًا، فالجنيه المصري يذوب كل يوم ليظهر سعر جديد لم يحققه من قبل، فالجنيه في السوق السوداء يواصل الصعود ليسجل مستوى 11 جنيهًا مقابل كل دولار.
فضلاً عن العلاقات الدبلوماسية والدولية التي يشوبها التوتر مع بعض البلدان كما يحصل مع إيطاليا بسبب قضية الطالب “ريجيني” التي قامت على إثرها الحكومة الإيطالية بعدة إجراءات من شأنها إلحاق الضرر بالاقتصاد المصري وبحكومة الانقلاب إذا لم يتم احتوائها.
من أجل تعزيز الاستثمارات في مصر وضخ المزيد من الدولارات في خزينة الاحتياطي النقدي في المركزي المصري ومساعدة مصر سياسيًا دوليًا، قدم السيسي جزيرتي “تيران وصنافير” للسعودية كعربون محبة لقاء المحافظة على الاقتصاد المصري من الانهيار، وتم الاتفاق على إقامة “جسر الملك سلمان” الذي سيعمل على تعزيز دور مصر الإقليمي بعد إنجازه.
ولكن من أين للمشاكل أن تأتي تباعًا على السيسي هكذا! فما إن ينتهي من مصيبة حتى تبدأ أخرى، ولإن قدّمت مصر البارحة الجزيرتين للسعودية، فماذا ستقدم اليوم للصين وللدول الأخرى لاسترضائها والعدول عن عدم المرور بقناة السويس.
حتى التفريعة الجديدة لقناة السويس التي دعا إليها السيسي القادة والرؤساء عند افتتاحها وكلفت الحكومة المصرية 8 مليارات دولار لم تحقق مراده في رفع إيردات القناة، فللشهر السابع على التوالي بعد افتتاحها تتراجع إيرادات القناة، كما أن المشروع لم يقدم وظائف جديدة ولم يجذب استثمارات أجنبية ولم يحل أزمة الجنيه.
إيرادات قناة السويس تعد أهم مصدر للعملة الصعبة لمصر وقد انخفضت بواقع 3.108 مليار جنيه (350 مليون دولار) في فبراير/ شباط الماضي من 3.178 مليار جنيه في الشهر الذي سبقه، أي هبطت الإيرادات بمعدل 70 مليون جنيه كما تراجع عدد السفن في فبراير إلى 1300 سفينة من 1424 سفينة في يناير.
والناقلات تعد ذات قيمة كبيرة بالنسبة للقناة، إذ إن سفن الحاويات التي تبحر من آسيا إلى الساحل الشرقي تدفع 465 ألف دولار للعبور عبر القناة، ووفقًا لتقارير صادرة عن هيئة قناة السويس فإن إجمالي ناقلات البضائع السائبة وسفن الحاويات انخفض بنسبة 5.7% و 3.1% على التوالي في العام الماضي.
وبحسب تقرير مؤسسة “سي إنتل” فقد اقترحت تخفيض رسوم العبور عبر قناة السويس بنسبة 50% وهذه النسبة صادمة بالنسبة للاقتصاد المصري إذ لا تتوفر بين يدي الحكومة بدائل يمكن استخدامها في حال تخفيض الرسوم.
ماذا يتوجب على السيسي أن يفعل لتثبيت أركان حكمه بعد أن أبدى التيار العالمي أنه يمشي ضده، فلم يبق شيء إلا ويمشي عكس ما يريد، حتى حليفته الإمارات لم تبقى كما عهدها فالمشاريع الكبيرة والعاصمة الجديدة والمليون وحدة سكنية لم يُبنى منها شيء.
ربما سيأتي الأوان ليبيع السيسي نفسه كما قال بعد كل هذه الإنتكاسات التي تشهدها مصر، وربما بات السيسي يفكر كثيرًا قبل عمل أي شيء جديد، فلن ينسى التاريخ أن جليد القطب الشمالي ذاب على عهده بعدما حفر التفريعة الجديدة لقناة السويس.