شهدت كافة المدن المصرية، بما في ذلك القاهرة، يوم الجمعة الماضي، 15 نيسان/ أبريل، عددا كبيرا من مظاهرات الاحتجاج الحاشدة. هذه انتفاضة شعبية غير مسبوقة منذ انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013، ليس لحجم الحشد الجماهيري الذي ضمته، ولا لطبيعة الشعارات التي رفعتها.
الحقيقة، أن حشود المظاهرات خلال الأيام والأسابيع القليلة التالية للانقلاب كانت أكبر بكثير، كما أن شعارات “ارحل” و”الشعب يريد إسقاط النظام” تتردد في شوارع المدن والأحياء المصرية منذ الانقلاب. ولكن مظاهرات ما بعد الانقلاب، التي استمرت بلا توقف، وإنْ بحشود صغيرة ومتفرقة بعد الفض الدموي لاعتصام رابعة، كانت مقتصرة في جلها على الشارع الإسلامي.
مظاهرات الجمعة الماضية، في المقابل، ضمت كافة فئات وتوجهات المصريين، بما في ذلك العديد ممن أيدوا الانقلاب أو مهدوا له -بجهل أو وعي- الطريق. هذه لحظة مواجهة حقيقية بين نظام الانقلاب والشعب، مواجهة حاول النظام طوال ما يقارب الأعوام الثلاثة تجنبها، ومنعها بكل ما أوتي من وسائل.
علق أحد المراقبين للشأن المصري على تظاهرات الجمعة الماضية بأنها عكست تصاعد الشكوك في شرعية نظام السيسي. الحقيقة، أن التظاهرات مثلت تصاعد الشكوك في قدرة النظام على الاستمرار. أما الشرعية فمسألة أخرى؛ لأن النظام أخفق في تأسيس أي قدر من الشرعية طوال الأعوام الثلاثة الماضية. حسب قادة النظام، في جهل فادح بما تعنيه الدولة، فإن الشرعية مسألة قانونية بحتة، وإن عقد انتخابات رئاسية صورية، والقيام بسلسلة زيارات لعدد من الدول الأوروبية، سيوفر الاعتراف بوجوده كأمر واقع قانوني.
مشكلة النظام أنه حتى على المستوى القانوني البحت، حرم رفض د. مرسي القبول بالنظام الجديد، وتصميمه المستمر على اعتباره انقلابا على إرادة الشعب، النظام حتى من تحقيق شروط الحد الأدنى من الشرعية القانونية. كان بإمكان رئيس النظام التنقل من روما إلى باريس، ومن برلين إلى لندن، ولكن الواضح في كل زياراته الخارجية أن الخجل كان يجلل قادة الدول الغربية الذين استقبلوه لهذا السبب أو الآخر. كما لم تتوقف وسائل الإعلام الغربية يوما عن وصفه بالقائد الانقلابي. ثم جاءت حادثة مقتل الطالب الإيطالي لوجيو ريجيني لتكشف حجم أزمة النظام وأزمة زعماء الدول الأوروبية الذين فتحوا لهم أبواب عواصمهم.
ليس ثمة نظام حكم يمكن أن يحلم بالاستقرار دون تأسيس شرعية كافية تؤمن استمراره في إدارة شؤون الدولة والتفاف أغلبية الشعب حوله. والشرعية لا توجد على قارعة الطريق، بل تولد، وتنمو، وتبنى.
يكتسب الحكم شرعيته من تقاليد مكرسة، ومجمع عليها، لإدارة الدولة، كما في أنظمة الحكم الديمقراطية؛ من النضال الوطني للحرية والاستقلال، كما حدث في دول العالم الثالث خلال مرحلة التحرر من الاستعمار الأجنبي، أو في الدول التي شهدت ثورات شعبية ضد الاستبداد، ومن تلبية طموحات الشعب المادية والمعنوية، مثل إقامة الرفاه الاقتصادي أو التعبير عن ضمير الأغلبية وقيمها وأهدافها، ومثل تحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي لعموم الشعب. وليس ثمة شك أن نظام انقلاب 3 تموز/ يوليو، الذي أطاح بنظام حكم ولد من شرعية الإرادة الشعبية التي أسست لها ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، أخفق بعد ثلاث سنوات من وجوده في إقامة شرعية جديدة.
وفي غيبة الشرعية الكافية، ليس لأنظمة الحكم من وسيلة للحفاظ على وجودها إلا بنشر أدوات القمع والسيطرة بالقوة وإلقاء الرعب في قلوب الأغلبية. وهنا تقع الدلالات الكبرى لانتفاضة الجمعة الماضية في مصر.
دعي للتظاهر من القوى الإسلامية، التي حافظت على معارضتها للنظام طوال الأعوام الثلاثة الماضية، ومن القوى غير الإسلامية؛ احتجاجا على الاتفاق الخاص بتنازل مصر للسعودية عن جزيرتي تيران وصنافير، الواقعة في مدخل خليج العقبة الجنوبي.
ما يقوله النظام أن الجزيرتين هي أصلا سعودية، ولكن الدولتين اتفقتا في 1950 على أن تتعهد مصر إدارتها؛ نظرا لعدم توفر قوة سعودية بحرية كافية لحمايتها من التهديد الإسرائيلي آنذاك.
الواضح، على أي حال، أن الأغلبية المصرية لا ترى ما يراه النظام، وتعتقد أن التنازل عن الجزيرتين ليس أكثر من مجرد صفقة للحصول عن مساعدات سعودية مالية واقتصادية لنظام فاسد، تسيطر عليه أقلية صغيرة، غير قادر على إدارة شؤون البلاد وتلبية طموحات الأغلبية.
بيد أن حركة الاحتجاج، ذات السمة الوطنية الجامعة، التي يتوقع لها أن تعود من جديد في ذكرى تحرير سيناء، يوم 25 نيسان/ أبريل، لا يمكن أن تعزى لاتفاقية التنازل عن الجزيرتين وحسب.
ما لا شك فيه أن المشاعر الوطنية المصرية تصاعدت بصورة غير مسبوقة منذ عقود، خلال أيام قليلة من كشف النقاب عن الاتفاق المصري ـ السعودي، ووجهت للنظام صراحة، وعبر وسائل إعلام موالية في بعض الأحيان، تهم التفريط في التراب الوطني. ولكن حجم ومدى حركة الاحتجاج يوحي بأن مسألة الجزر لم تكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول العرب.
ثمة تراجع مضطرد في أحوال البلاد المصرية منذ انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013؛ تراجع على المستوى الاقتصادي، المالية العامة، الأمن، الحريات وحقوق الإنسان، وموقع مصر ودورها في الإقليم.
خلال العام ونصف العام التالية للانقلاب، ساعد التدفق الهائل للمساعدات المالية الخليجية، والحملة الإعلامية المضللة ضد الإخوان المسلمين، في احتواء بعض من الفشل في إدارة شؤون البلاد وعودة الأقلية الحاكمة للسيطرة على مقدراتها. ولكن الدعم الخليجي تراجع بصورة ملموسة في العام الماضي، وسرعان ما بدأ عموم المصريين في تحسس أعباء الأزمة الاقتصادية ـ المالية.
ولم يكن تبخر وعود الأمن والاستقرار أقل من تبخر وعود الرفاه والحياة الكريمة. تحولت سيناء إلى ساحة حرب وموت يومي، ولم تلبث سياسة الاعتقالات العشوائية والقمع والتعذيب أن طالت حتى من أيدوا الانقلاب، بل ومواطنين أجانب.
عكس الانقلاب لحظة انقسام فعلي في صفوف المصريين، ولكن سياسات الأقلية الحاكمة أدت إلى تراجع ملموس في شرائح وعدد من التفوا حول النظام الانقلابي، أملا ربما في إبعاد الإسلاميين عن الحكم وإعادة تشكيل الخارطة السياسية للبلاد.
انقسام صيف 2013 السياسي تحول، وبصورة مضطردة، إلى مجرد انقسام بين من هم على استعداد لمواجهة النظام، ومن لم يزالوا أسرى الخوف من عواقب المواجهة. مسألة الجزر كسرت حاجز الخوف، ودفعت بعشرات آلاف المصريين إلى ساحة المواجهة.
ليست هذه نهاية حكم الانقلاب بعد، فنقل مصر من حكم الأقليات إلى حكم الأغلبية الشعبية يتطلب نضالا طويلا وشاقا. ولكن انتفاضة الجمعة 15 نيسان/ أبريل تقدم دليلا آخر على أن مصر، كما محيطها العربي، قد تغيرت بالفعل في تلك الأشهر الحاسمة في 2011. تغيرت لأن أنظمة ما بعد الحرب الأولى، والنظام الإقليمي الذي استندت إليه، لم تعد قابلة للاستمرار. ولم يعد ممكنا، مهما بلغت قوى الثورة المضادة من عنف، إقامة شرعيات على ذات الأسس التي خرجت الملايين من الشعوب لتطيح بها في 2011