إذا كان تكوين الأحزاب في الغرب على أسس ديمقراطية حيث كان تأسيسها مرتبطاً بالعملية الانتخابية وبالمؤسسات التمثيلية، فإنها في المغرب نشأت في سياق تاريخي لمواجهة سلطات الحماية الفرنسية، مما نتج عنه اعتماد مبدأ الاجماع “بتخوين كل اختلاف” وترتب على كل ذلك اعتبار مشروعية النضال ضد المستعمر ومقاومته أساس كل مشروعية حزبية، وبتعبير آخر تمت التضحية بالمشروعية الديمقراطية لفائدة المشروعية الوطنية.
ولعبت الهيمنة الاستراتيجية للقصر وإمساكه بالخيوط الرئيسية لمجمل السلطات جعلت من هذه الأحزاب تركن إلى المطالبة بإصلاحات دستورية وسياسية ألزمتها “قيادة المطالبة بالديمقراطية بعدما تمرّست على المطالبة بالاستقلال زمن الاستعمار الفرنسي”.
وبعد التغيير الكبير الذي حصل في المغرب عام 2011 والذي أسفر عنه تغيير دستوري وانتخابات كان من ثماره المميزة جلب التيار الإسلامي ذو النفوذ الواضح للحكم بطريقة سليمة وحضارية، إلا أن المشهد السياسي المغربي والمتمثل بالتيارات الإسلامية واليسارية والاشتراكية لم يكن شكل المنافسة بينها منافسةً فكريةً عقائدية، وإنما على العكس كانت على المستوى الحزبي وحتى الشخصي ضمن إطار النظام الملكي الحاكم .
يؤكد هذا الرأي تصريح عبد الإله بن كيران رئيس الوزراء الحالي المحسوب على التيار الإسلامي في حواره مع أحمد منصور في قناة الجزيرة حيث قال ” نحن لسنا مكلفون بخلق الله .. وفي مجال الدعوة أدع بما شئت ، أما في السياسة أنت طرف له رأي) وإذا ما نظرت إلى النخب الأخرى اليسارية والاشتراكية ترى الابتعاد عن تبني واضح للعلمانية كمدخل “وجوبي” للتحديث وبناء الدولة المغربية ،
وعند حلول موجة الربيع العربي استطاعت هذه النخب توجيهها لصالح إعادة تشكيل المؤسسة الحكومية بما يتلائم مع المرحلة الراهنة والمطالب الجماهيرية إلى حد ما، يرجع سبب ذلك إلى النخب السياسية والإسلامية تحديداً التي لاتعتمد على مرجعية لشخص أو شيخ معين في استقاء التحديث للدولة وهو ماشكل مفارقة جذرية لأهم الخصائص المرجعية للحداثة في السياسة المغربية.
وانطلاقا من أن الإصلاح يأتي من داخل النظام نفسه كما يقول عزمي بشارة فإن مجال التنافس ظلّ خارج الإطار الأيدولوجي والفكري والسبب في ذلك هو طبيعة العلاقة بين نظام الحكم الملكي والحكومة، حيث تجد أن الذي يحكم البلاد هو الملك حسب الدستور وهو رئيس “مجلس الوزراء ، والسلطة القضائية ، والقوات المسلحة” أما رئيس الوزراء فهو رئيس الحكومة فقط.
بمعنى أن هذه العلاقة تبدو علاقة أصل بفرع خصوصاً بعد انتخابات 25 تشرين الثاني 2011 وليست علاقة طرفين ندين في السياسة وهذا ما تؤكد عليه الوثيقة الدستورية في الفصل الثاني والأربعين وحدة (23) ناهيك عن مكانة الملك الدينية والدستورية وفي علاقته بالبرلمان والحكومة والقضاء وباقي مؤسسات الحكومة والهيئات الديمقراطية التشاركية.
وتحت هذه الصياغة في الحكم المغربي ترى الأحزاب السياسية في المغرب تُغذي النظام السياسي بعناصر تسير وفق نسقه وتخدمه وتقويه، فهي آلية ناجعة لإمداد النسق السياسي بما يضمن له التوازن والقوة، فالملك لايجد أدنى مشكلة في تقريب النخب المشبعة بروح المعارضة واستمالتها اليه.
“فهو لايثق في العناصر التي تزين له كل شيء ويرغب دائماً في الإنصات لحقيقة الواقع تجنباً لكل مفاجئة” تجلى هذه الموقف في استيعابه الاحتقان والاستجابة السريعة وإلقاءه الخطاب عام 2011 هو خير مثال على ذلك التغيير، فخلال أقل من 20 يوم استوعب فيه الاحتقان الموجود في الوسط الشعبي.
ومن خصائص النظام السياسي المغربي أيضاً الحفاظ على جوهره المتمثل في استغلال المؤسسات العصرية لصالح” النظام المخرني” فهو لايتعارض مع تلك المؤسسات ولايضع نفسه في مواجهتها بل يلتف عليها ويفرغها من سياقها الذي ظهر في الدول الديمقراطية ويتغلغل في ثناياها للتحكم فيها وتوجيهها لصالحه.
بمعنى أن الأحزاب السياسية مدرسة يستفيد منها ومن خريجيها النظام السياسيي قبل الأحزاب نفسها.
كما أن السياسة المغربية هي بدورها متراتبة ومتدرجة وهرمية، فهي تعكس إلى حد كبير هرمية جهاز الدولة كما تخضع بدورها لقانون المنافسة الشرسة والناعمة التي تحكم الحقل السياسي عامة والفضاء الاجتماعي برمته وبالتالي فهي ليست متجانسة في مشاربها السياسية وفي موقعها الاجتماعي، مما لم يتحقق مثله بلدان الربيع العربي الاساسية في المشرق العربي رغم اختلاف الظروف هناك وهذا حسب خريطة أصدرتها مؤسسة Freedom House الأمريكية ترى من خلالها أن دول المشرق العربي التي حدثت فيها لا يتوفر فيها الحد الأدنى من الحريات، مقارنة بالمملكة المغربية التي استطاعت دولتها احتواء الثورة فيها والابقاء على النظام السياسي بركيزته الرئيسة: القصر الملكي.
بالرغم من أن لكل نخبة من النخب السياسية المغرببية مناهلها الفكرية والأيدلوجية وتخيلاتها عن نفسها وعن الآخرين، وأركان قوتها وآلياتها التنافسية فإن العلاقة بينها لاتكون على مستوى خطي واضح، إذ يكون هناك فترات تفاهم وتعاون وتخالف تتخللها علاقات تنابذ وإقصاء وتوتر مثال ذلك ماحدث مع الحكومة الحالية بعد انتخابات عام 2011 وائتلاف حزب الاستقلال مع حزب الحرية والعدالة على اختلاف مشاربهم ثم نشوب الأزمة بينهم وخروجه من التشكيلة الحكومية.