في ركن من أركان ساحة الدار، تربعت “الطابونة التقليدية” وهي فرن مبني من الطين والحجارة ولا يقبل غير الحطب وقودا له، ليعطي في نهاية المطاف خبزا عربيا وتونسيا وتقليديا وفواحا… وللرائي أن يصفه ماشاء، فالعين ماتزال تعشق قبل القلب أحيانا.
وللخالة منجية علاقة وطيدة بالطابونة التقليدية فهي ترفض أن تغيرها بالفرن العصري وحتى ان أبلى الزمن فرنها الحجري فهي سرعان ماتستبدله بغيره، فالمرأة الى جانب قدرتها على اعداد “خبز الطابون” الشهي تتقن أيضا صناعة “الطابونة التقليدية” وتقول أنها ورثتها عن والدتها، لأن هذه الحرفة التقليدية بطبعها لا يمكن ان تكون الا توارثا وميراثا يتناقله جيل بعد جيل وتخشى عليه من خطر الاندثار في زمن الاكلات السريعة والتكنولوجيا العصرية والالات الحديثة التي تزاحم الفرن التقليدي.
في ساعات الصباح الاولى تستفيق الخالة منجية مع أذان الفجر وصياح الديك، وبعد أن تؤدي صلاتها تقوم باعداد العجين والمتكون من الطحين والدقيق وبعض من الملح والماء الدافئ والخميرة والكركم، تخلطهم جيدا في القصعة ثم تبدأ بالعجن حتى تصير العجين متماسكة، عندئذ تتركها الخالة منجية لتأخذ العجينة نصيبها من التخمر.
بعد اعداد القهوة وفطور الصباح تتوجه الخالة منجية الى ساحة المنزل حيث يكون لها موعد مع تحضير “الطابونة التقليدية”، فهذا الفرن لكي يصير جاهزا لانضاج الخبز يجب ان يمر بعدة مراحل.
تحضر الخالة منجية الحطب وتقوم بتكسيره بحيث يصير اجزاء يقبل ابتلاعه ذلك الفم المستدير العجيب، وقبل وضع الحطب في جوف “الطابونة” لاتنسى الخالة منجية ان تخرج مافي جوف الفرن من بقايا رماد، ثم تضع الحطب وتوقد النار، فتلفحك لهيبها وتفوح منه رائحة الحطب، وتروي لك في صمت قصة الغاب والانسان المتمرد وبين الفينة والفينة تدق طبول اذنيك صوت طقطقات من وسط النار الملتهبة والمشتعلة في وقار لتبلغ المنتظر ان الحطب الجاف سرعان مااحترق وتحول الى جمر ملتهب في جوف ” الطابونة التقليدية”.
بعد احتراق الحطب تطل في جوف الفرن، فتلفح وجهك اهازيج الحرارة المنبعثة من ذاك الجمر المتربع في الأسفل، حرارة ملتهبة تحرق الأصابع وتلاحظ احمرار الجوانب حيث ستلصق الخالة منجية الخبز لينضج ويصير جاهزا للأكل.
وأخيرا أقبلت الخالة منجية حاملة قصعة ملآنة خبزا دائري الشكل ، لتضعه في الطابونة حتى ينضج وسط لهيب الحرارة المرتفع، خبز تخمر فقامت السيدة المحترفة بعجنه مرارا وتكرارا وحولته باصابع محترفة وخفيفة الى رغائف خبز في شكل دائري جميل.
بجانب “الطابونة التقليدية” وضع اناء ملآن ماءا نقيا، تستعين به الخالة منجية لتبلل الخبز الذي قرب على النضج ثم تعيده الى جوف الفرن الساخن ليكمل نضجه في صمت.
مايشد الرائي هو شدة لهيب الحرارة المنبعثة من جوف الفرن الساخن وقدرة السيدة على تحملها حين تلصق الخبز او تضعه في الجوف وحين تخرجه، ولك ان تحدثك تجاعيد الزمن التي ارتسمت بوضوح على خدي المرأة التونسية المحترفة والتي اصطبغت بسمرة جراء قرب وجهها من الحرارة المرتفعة الى جانب سمرة يديها وسمكهما، تحدثك عن قدرة المرأة الصامدة على تحمل اللهيب والحرارة في سبيل أن تحافظ الخالة منجية وغيرها من النسوة المحترفات المحافظات على “صنعة اليدين” وعلى كل ماهو تقليدي في القرن الذي يفوح منه رائحة الجاهز والجاهزية بلا نكهة او لذة في الطعم و الحياة.
نضج “خبز الطابون” الشهي وفاحت منه رائحة فواحة ولذيذة في آن، حتى ان الحرارة المنبعثة منه لا تمنعك من استطعام الأكل والمضغ الجيد وتتوق الى المزيد والمزيد منه.
وعن صناعة “الطابونة التقليدية”، تقول الخالة منجية أنها تحضر الطين من القرية المجاورة حيث تقوم بوضعه تحت الشمس ثم تضعه في قصعة حديدية كبيرة الحجم وتضيف له الماء ليتفتت الطين ويصبح شديد الليونة ثم تقوم الخالة منجية بتكسير “الطافون” (مادة حجرية تصنع من الطين، وكذلك حين تتكسر الكوانين او الافران الطينية تحولها صانعة الطابونة التقليدية الى مادة تسمى “طافون”).
بأصابع محترفة تخلط الخالة منجية الطين والطافون وتحوله الى مجسم دائري الحجم، يكون جوف الفرن أوسع ، ليضيق الشكل كلما زاد ارتفاعه.
وتقضي الخالة منجية سويعات ليست بالقليلة وهي تصنع بكلتا يديها طابونا تقليديا من الطين، وبعد أن يجف الفرن لأيام تحت الشمس يصير صالحا بدوره لتحوله النار الملتهبة الى فرن جاهزا للاستعمال و يزاحم كل عنصر عصري يرغب في ازاحته من الذاكرة الشعبية ويتحدى صموده