بداية عملية السلام في تركيا
ألمحت عدد من وسائل الإعلام التركي، في نهاية عام 2012، إلى أن مصادرها الخاصة توصلت إلى أنباء تفيد بوجود لقاءات مكثفة بين الاستخبارات التركية وبعض قادة حزب العمال الكردستاني في العاصمة النرويجية أوسلو، الأمر الذي نفاه الناطق باسم الحكومة آنذاك بولنت أرينج، ولكن ما لبث أن عاد رئيس الوزراء التركي حينذاك رجب طيب أردوغان ليعلن صحة ما يتم تداوله عبر الإعلام.
هذا وقد جاء إعلان رئيس الوزراء التركي الأسبق عن صحة وجود محاولات لبسط أرضية سلام توافقية بين الحكومة وقادة حزب العمال الكردستاني، عبر لقاء تلفزيوني تم على قناة “التي آر تي” الحكومية بتاريخ 28 ديسمبر 2012، حيث أشار أردوغان، خلال لقائه عن وجود لقاءات مباشرة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني لطي صفحة النزاع المسلح وبدء صحفة جديدة تحمل عنوان “عملية السلام”.
ولا يمكن لأحد من المراقبين للشأن التركي أن ينفي أن عملية السلام المذكورة لم تعد بالنفع المديد على المواطنين الأكراد في تركيا، حيث حظوا بالعديد من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية التي وصفها بعض المراقبين بالحقوق التي لم يكن يحلم بها المواطنون الأكراد في تركيا، ويمكن سرد بعض هذه الحقوق على النحو الآتي:
ـ إمكانية تعلّم اللغة الكردية.
ـ حق التحدث باللغة الكردية في المحاكم والمؤسسات الرسمية والمناطق العامة.
ـ حق ممارسة الدعاية السياسية الانتخابية باللغة الكردية.
ـ إجراء عددًا من المشاريع التشغيلية في المناطق ذات الكثافة التركية.
وغيرها الكثير من الحقوق التي صدرت من بين ظهراني الحكومة وصادق عليها البرلمان ووعد حزب العدالة والتنمية بذل جهوده الحثيثة لإضافتها إلى الدستور، لتصبح حقوق دستورية لا يمكن المساس بها.
تداعيات انهيار عملية السلام
رغم أن المواطنين الأكراد أغدقوا بالعديد من الحقوق النوعية، إلا أن حزب العمال الكردستاني قام عقب انتخابات 7 يونيو البرلمانية بقلب طاولة مفاوضات السلام في وجه الحكومة التركية بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار، وشرع في استهداف عددًا من أفراد الشرطة والجيش في جنوب شرقي تركيا، ولم يقتصر على ذلك، حيث طالت عملياته استهداف المدنيين في المدن التركية الكُبرى كأنقرة وإسطنبول.
انتاب الكثير من المطلعين على الشأن التركي الفضول الشديد حول السبب الحقيقي الذي دفع حزب العمال الكردستاني للانقلاب على عملية السلام التي أتت أكلها المجدي، وفي هذا الصدد تناول الباحث في مركز الدراسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية “سيتا” ميديام يانيك الأسباب التي دفعت حزب العمال الكردستاني للانقلاب على عملية السلام عبر دراسة أكاديمية أدرجت تحت عنوان “لماذا انقلب حزب العمال الكردستاني على عملية السلام؟ واستنادًا إلى ما يبيّنه يانيك في دراسته يمكن تعداد الأسباب الرئيسية لانقلاب حزب العمال الكردستاني على عملية على النحو الآتي:
ـ ضلوع أفراد حزب العمال الكردستاني في إدارة منطقة شرق وجنوب شرق تركيا بصورة مستقلة وبشكل تعسفي، حيث كان يقوم أفراد حزب العمال الكردستاني بجمع الضرائب ومحاكمة المواطنين القاطنين في تلك المناطق بشكل جائر وغيرها الكثير من الأفعال غير القانونية، وعلى رغم من إيعاز الحكومة التركية لهم للصد عن هذه الإجراءات التي تتعارض مع مبادئ عملية السلام، ويؤكّد يانيك أن نزاع الطرفين بهذا الخصوص كان محتدم قبل الانتخابات ببضع شهور، وأبدت الحكومة التركية الليونة التامة إزاء هذه الأحداث، وانتظرت من حزب العمال الكردستاني الثناء عنها، ولكن حزب العمال الكردستاني تعنت واختار طريق الانقلاب على عملية السلام، لتحقيق حلمه فيما يتعلق بالاستقلال الذاتي التام، مستندًا في ذلك إلى الظروف المواتية له في المنطقة.
ـ حديث الاستقلال الذاتي الكردي في شمالي العراق وسوريا؛ يشير يانيك إلى أن هذه النقطة إحدى النقاط الأساسية المشكلة للظروف المواتية لحزب العمال الكردستاني في المنطقة، مبينًا أن السيادة المحورية الكردية التي حُققت في إطار عمليات كوباني وثورة روجوفا، والدعم الأمريكي والروسي الوفير لحزب الاتحاد الديمقراطي وبالتالي له، والتعاطف العالمي الضخم تجاه النجاح الذي حققه المقاتلون الأكراد ضد داعش جميعها عوامل حفزت حزب العمال الكردستاني لقلب طاولة الحوار والرجوع إلى السلاح، لإعلان الاستقلال في ذلك الوقت الذي يعد الأكثر مناسبة في تاريخ النزاع الكردي، لا سيما في ظل الجهود المضنية التي تبذلها القوى العُظمى لعزل تركيا عن الساحة.
ـ الأيدولوجية الشيوعية الثورية لحزب العمال الكردستاني؛ وتعليقًا على ذلك يبيّن يانيك أن حزب العمال الكردستاني تأسس عام 1984 على أساس القومية الكردية والشيوعية الثورية، موضحًا أن القومية الكردية تسعى للحصول على حقوق المواطنين الأكراد، أما الشيوعية الثورية فهي الأسلوب الذي يسعى الحزب لتحقيق ما يهفو إليه من خلاله، وحسب الإيديولوجية الشيوعية الثورية الماركسية “لا يمكن تحقيق أي هدف سياسي أو قانوني إلا من خلال الانقلاب الجذري والمستمر والثورة الجذرية على نظام الحكم، هذه الإيديولوجية تلعب دورًا كبيرًا في جعل قادة حزب العمال الكردستاني لا يؤمنون بعملية السلام والمفاوضات.
هل تعود عملية السلام الداخلي إلى نصابها القديم؟
في ظل استمرار عملية “الخندق” العسكرية التي أعلنت عنها رئاسة الأركان العسكرية التركية بتاريخ 17 ديسمبر 2015، وأوضحت أن الهدف الأساسي منها هو القضاء على عناصر حزب العمال الكردستاني المتحصنة داخل بعض المدن التركية، ولكن دون تمكن الجيش التركي من الحصول على النتيجة المرجوة التي كان يتوقع الحصول عليها في غضون شهرين أو ثلاث شهور، يصبح السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تعود عملية السلام إلى نصابها السابق؟
في الحقيقة، السبب وراء طرح هذا التساؤل هو تصريح رئيس الوزراء التركي “أحمد داود أوغلو” الذي صرح، في مطلع الشهر الجاري، أمام وسائل الإعلام بأنه ” في حال تخلي حزب العمال الكردستاني عن سلاحه وأخرج عناصره من تركيا بشكل كامل، يمكن لعملية السلام أن تعود تدريجيًا إلى نصابها في التفاوض والمحادثات.
ولم يمض الكثير على تصريحات داود أوغلو حتى أطل رئيس الجمهورية “رجب طيب أردوغان” على الشاشة مؤكّدا ً وبلغة لاذعة أنه إطلاقا ً الحديث عن بدء عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني من جديد.
تصادم رأسا السلطة الحاليين في تركيا ليس بالأمر النادر، بل أصبح أمر يمكن وصفه بالمعتاد في ظل تكرره، حيث يمكن ذكر أهم الأمثلة الماضية على هذا التصادم على النحو الآتي:
ـ تنافر الرؤي حول اتفاقية دولما باهجا التي تم توقيعها، في فبراير من العام الماضي، بين الحكومة وحزب الاتحاد الديمقراطي، لإتمام عملية السلام، ولكن اعترض عليها أردوغان اعتراضًا شديدًا، ولم يُعمل بأي من مبادئها على الرغم من توقيع الطرفين عليها.
ـ التضارب الإعلامي بين الرئاسة ورئاسة الحكومة فيما يتعلق بترشيح رئيس جهاز الاستخبارات هكان فيدان للانتخابات البرلمانية، حيث لم يوافق أردوغان على وضع اسم فيدان في قائمة المرشحين عن حزب العدالة والتنمية، وبضغط مباشر منه اضطر فيدان لسحب طلب ترشيحه وبقي على رأس عمله كرئيس لجهاز الاستخبارات.
من ناحية نظرية، تنص مواد الدستور التركي على أن الرئيس التركي يتمتع ببعض الصلاحيات الرمزية التي لا تسمح له بالتدخل في شؤون إدارة البلاد على الصعيدين الداخلي والخارجي، وكما تقتضي مواد الدستور موضعية الرئيس التركي وتجنبه للتدخل في قرارات الحزب الذي يمثل له مرجعية، ولكن عند النظر إلى الأمر من ناحية تطبيقية، ومع أخذ الأمثلة التطبيقية المذكورة أعلاه بعين الاعتبار، نجد أن الشخصية الكاريزمية وقبضة أردوغان القوية الضابطة لقرارات حزب العدالة والتنمية لصالحه، على الرغم من تركه لزعماته، تؤكّدان أن أخذ تصريحات أردوغان بعين الاعتبار سيدلنا إلى الإجابة التي نبحث عنها حول عملية السلام، والإجابة التي تدلل عليها تصريحات أردوغان تؤكّد انعدام إمكانية عودة عملية السلام الداخلي في تركيا إلى نصابها القديم.
وهذا ما يوحي باستمرار عملية الخندق العسكرية حتى تتمكن من القضاء على عناصر حزب العمال الكردستاني المتوغلة داخل بعض مدن جنوب شرقي تركيا، ويُشير ذلك الأمر أيضًا إلى أن عملية السلام الاجتماعي التي سيتم بناؤها ما بين الحكومة ووجهاء المجتمع الكردي هي التي سيتم تنفيذها كبديل لعملية السلام الداخلي.